الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمۡ فِئَةٗ فَٱثۡبُتُواْ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (45)

وقوله سبحانه : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تنازعوا } [ الأنفال : 45 و46 ] .

هذا أَمْرٌ من اللَّه سبحانه بما فيه داعيةُ النَّصْر ، وسبَبُ العزِّ ، وهي وصيَّة منه سبحانه بِحَسَبِ التقْييد الذي في آية الضَّعْفِ ، والفِئَةُ الجماعة ، أصلها : «فِئَوَة » ، وهي مِنْ : «فأَوْتُ » ، أي : جمعتُ ، ثم أمر سبحانه بإِكثار ذكْره هنالك ؛ إِذ هو عصمةُ المستنجد ، وَوَزَرُ المستعين ، قال قتادة : افترض اللَّه ذِكْرَهُ عند أشغل ما يكونُ ؛ عنْدَ الضرِّاب والسُّيوف .

قال ( ع ) : وهذا ذِكْرٌ خفيٌّ ؛ لأن رَفْعَ الصَّوْت في موطن القتَال رديءٌ مكروهٌ ؛ إِذا كان إلغاطاً ، فأما إِن كان من الجميعِ عند الحَمْلة ، فَحَسَنٌ فَاتٌّ في عَضُد العَدُوِّ ؛ قال قيسُ بْنُ عُبَادٍ : كان أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يكرهُونَ الصَّوْت عند ثلاثٍ ؛ عند قراءة القُرآن ، وعند الجنازة ، وعنْدَ القتال ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( اطلبوا إِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ القِتَالِ ، وإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ، ونُزُولِ الغَيْثِ ) .

وقال ابن عباس : يُكْرَه التلثُّم عنْدَ القتالِ . قال النَّوويُّ : وسُئِلَ الشيخُ أبو عَمْرِو بْنُ الصَّلاَحِ ، عن القَدْرِ الذي يصيرُ به المرء من الذَّاكرين اللَّهَ كثيراً ، فقال : إِذا واظب على الأَذْكَارِ المأثورة المُثْبَتَةِ صباحاً ومساءً ، وفي الأوقاتِ والأحوال المختلفة ؛ ليلاً ونهاراً وهي مبيَّنةٌ في كتب «عمل اليوم والليلة » كان من الذاكرين اللَّه كثيراً ؛ واللَّه سبحانه أعلم . انتهى من «الحلية » .

( ت ) : وأَحْسَنُ من هذا جوابُهُ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ : ( سَبَقَ المُفْرِّدُون قَالُوا : «وَمَا المُفَرِّدُونَ ، يا رَسُولَ اللَّه ؟ قَالَ : الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتُ ) ، رواه مسلمٌ ، والترمذيُّ ، وعنده : قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّه ، وَمَا المُفَرِّدُونَ ؟ قَالَ : ( المُسْتَهْتِرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ ؛ يَضَعُ عَنْهُمُ الذِّكْرُ أَثْقَالَهُمْ ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ خِفَافاً ) قال صاحب «سلاح المؤمن » : المستَهْتِرُونَ في ذكْر اللَّهِ ، هو بفتح التاءَيْنِ المُثَنَّاتَيْنِ يعني : الذي أُولِعُوا به ؛ يقال : استهتر فُلانٌ بكذا ، أي : أَولِعَ به ، واللَّه أعلم . انتهى .

فقَد بيَّن صلى الله عليه وسلم هنا صفةَ الذاكرين اللَّه كثيراً ، وقد نقلنا في غير هذا المَحَلِّ بيانَ صفةَ الذاكرين اللَّه كثيراً ، بنحو هذا مِنْ طريق ابن المبارك ، وإِذا كان العبد مُسْتَهْتِراً بِذِكْرِ مولاه ، أَنِسَ به ، وأَحبَّه ، وأحبَّ لقاءه ؛ فلم يبال بلقاءِ العَدُوِّ ، وإِن هي إِلا إِحدى الحسنيين : إِما النصْرُ ؛ وهو الأغلب لمن هذه صفته ، أو الشهادةُ ؛ وذلك مناه ، ومطلبه . انتهى .

و{ تُفْلِحُونَ } تنالون بغيتكم ، وتنالون آمالكم .