معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

قوله تعالى : { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً } سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئاً من عرض الدنيا ، وطلبن منه زيادة في النفقة ، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهراً ولم يخرج إلى أصحابه ، فقالوا : ما شأنه ؟ وكانوا يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه ، قال : فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أطلقتهن ؟ قال : لا ، قلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : نعم إن شئت ، فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فنزلت هذه الآية : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم }قال : فكنت أنا استنبطت ذاك الأمر ، وأنزل الله آية التخيير ، وكانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش : عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وغير القرشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيه ، رضوان الله عليهن فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة ، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك . قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : { لا يحل لك النساء من بعد } .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغفار بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، أنبأنا زهير بن حرب ، أنبأنا روح بن عبادة ، أنبأنا زكي بن إسحاق ، أنبأنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال : " دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد الناس جلوساً ببابه ولم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً ، فقال : لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين ، ثم نزلت هذه الآية : { يا أيها النبي قل لأزواجك } حتى بلغ : { للمحسنات منكن أجراً عظيماً } قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية ، قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله وأختار الدار الآخرة ، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ، قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها ، إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري " أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً ، قال الزهري فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : حين بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت ألا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت في تسع وعشرين أعدهن ؟ فقال : إن الشهر تسع وعشرون " . واختلف العلماء في هذا الخيار أنه هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفسه الاختيار أم لا ؟ فذهب الحسن ، وقتادة ، وأكثر أهل العلم : إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن ، لقوله تعالى : { فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً } بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة لا تعجلي حتى تستشيري أبويك ، وفي تفويض للطلاق يكون الجواب على الفور . وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق لو اخترن أنفسهن كان طلاقاً . واختلف أهل العلم في حكم التخيير : فقال عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، إلا أن عند أصحاب الرأي تقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعية . وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة ، وإذا اختارت نفسها فثلاث ، وهو قول الحسن وبه قال مالك . وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة . وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عمر بن حفص ، أنبأنا أبي ، أنبأنا الأعمش ، أنبأنا مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك علينا شيئاً " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

{ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } أي : هذه الأشياء مرادكن ، وغاية مقصودكن ، وإذا حصل لَكُنَّ اللّه ورسوله والجنة ، لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها ، ويسرها وعسرها ، وقنعتن من رسول اللّه بما تيسر ، ولم تطلبن منه ما يشق عليه ، { فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } رتب الأجر على وصفهن بالإحسان ، لأنه السبب الموجب لذلك ، لا لكونهن زوجات للرسول فإن مجرد ذلك ، لا يكفي ، بل لا يفيد شيئًا ، مع عدم الإحسان ، فخيَّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك ، فاخترن اللّه ورسوله ، والدار الآخرة ، كلهن ، ولم يتخلف منهن واحدة ، رضي اللّه عنهن .

وفي هذا التخيير فوائد عديدة :

منها : الاعتناء برسوله ، وغيرته عليه ، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية .

ومنها : سلامته صلى اللّه عليه وسلم ، بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات ، وأنه يبقى في حرية نفسه ، إن شاء أعطى ، وإن شاء منع { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ }

ومنها : تنزيهه عما لو كان فيهن ، من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله ، والدار الآخرة ، وعن مقارنتها .

ومنها : سلامة زوجاته ، رضي اللّه عنهن ، عن الإثم ، والتعرض لسخط اللّه ورسوله .

فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن ، التسخط على الرسول ، الموجب لسخطه ، المسخط لربه ، الموجب لعقابه .

ومنها : إظهار رفعتهن ، وعلو درجتهن ، وبيان علو هممهن ، أن كان اللّه ورسوله والدار الآخرة ، مرادهن ومقصودهن ، دون الدنيا وحطامها .

ومنها : استعدادهن بهذا الاختيار ، للأمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة ، وأن يَكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة .

ومنها : ظهور المناسبة بينه وبينهن ، فإنه أكمل الخلق ، وأراد اللّه أن تكون نساؤه{[703]}  كاملات مكملات ، طيبات مطيبات { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ }

ومنها : أن هذا التخيير داع ، وموجب للقناعة ، التي يطمئن لها القلب ، وينشرح لها الصدر ، ويزول عنهن جشع الحرص ، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه ، وهمه وغمه .

ومنها : أن يكون اختيارهن هذا ، سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته ، وأن يَكُنَّ بمرتبة ، ليس فيها أحد من النساء ، ولهذا قال :


[703]:- في أ: نساء.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

{ وَإِن كُنتُنَّ } لا تردن ذلك ، وإنما { تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة } .

أى : وإنما تردن ثواب الله - تعالى - والبقاء مع رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار شظف الحياة على زينتها ، وإيثار ثواب الدار الآخرة على متع الحياة الدنيا .

إن كنتن تردن ذلك فاعلمن أن { الله } - تعالى - { أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ } ، بسبب إيمانهن وإحسانهن { أَجْراً عَظِيماً } لا يعلم مقداره إلا الله - تعالى - .

وبهذا التأديب الحكيم ، والإِرشاد القويم ، أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يؤدب نساءه ، وأن يرشدهن إلى ما فيه سعادتهن ، وأن يترك لهن حرية الاختيار .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

هذا أمر من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه{[23347]} ، بأن يخَيّر نساءه بين أن يفارقهن ، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهن عنده الحياةُ الدنيا وزينتها ، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل ، فاخترن ، رضي الله عنهن وأرضاهن ، الله ورسوله والدار الآخرة ، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة .

قال{[23348]} البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن عائشة ، رضي الله عنها ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه ، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إني ذاكر لك أمرا ، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " ، وقد عَلمَ أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه . قالت : ثم قال : " وإن الله قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى تمام الآيتين ، فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة{[23349]} .

وكذا رواه معلقا عن الليث : حدثني يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، فذكره وزاد : قالت : ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت{[23350]} .

وقد حكى البخاري أن مَعْمَرًا اضطرب ، فتارة{[23351]} رواه عن الزهري ، عن أبي سلمة ، وتارة رواه عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة{[23352]} .

وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن عبدة الضَّبِّي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه قال : قالت عائشة : لما نزل الخيار قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أريد أن أذكر لك أمرا ، فلا تقضي فيه شيئا حتى تستأمري أبويك " . قالت : قلت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : فردّه عليها . فقالت : فما هو يا رسول الله ؟ قالت : فقرأ عليها : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } إلى آخر الآية . قالت : فقلت : بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة . قالت : ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم{[23353]} وحدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا محمد بن بشر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما نزلت آية التخيير ، بدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا عائشة ، إني عارض عليك أمرًا ، فلا تُفتياني فيه [ بشيء ]{[23354]} حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان " . فقلت : يا رسول الله ، وما هو ؟ قال : " قال الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } . قالت : فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأم رومان ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استقرأ الحُجَر فقال : " إن عائشة قالت كذا وكذا " . فقلن : ونحن نقول مثل ما قالت عائشة ، رضي الله عنهن كلهن{[23355]} .

ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الأشَجِّ ، عن أبي أسامة ، عن محمد بن عمرو ، به .

قال ابن جرير : وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، عن{[23356]} محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمرة ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى نسائه أمر أن يخيرهن ، فدخل عَليَّ فقال : " سأذكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستشيري أباك " . فقلت : وما هو يا نبي الله ؟ قال : " إني أمرت أن أخيركن " ، وتلا عليها آية التخيير ، إلى آخر الآيتين . قالت : فقلت : وما الذي تقول لا تعجلي حتى تستشيري أباك ؟ فإني اختار الله ورسوله ، فَسُرّ بذلك ، وعَرَض على نسائه فتتابعن كُلّهن ، فاخترنَ الله ورسوله{[23357]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن سنان البصري ، حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني عُقَيل ، عن الزهري ، أخبرنَي عُبيد الله بن عبد الله بن أبي ثَور ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قالت عائشة ، رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأ بي أَوَّلَ امرأة من نسائه ، فقال : " إني ذاكر لك أمرا ، فلا{[23358]} عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك " . قالت : قد عَلِم{[23359]} أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه . قالت : ثم قال : " إن الله قال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ } الآيتين . قالت عائشة : فقلت : أفي هذا أستأمر أبويّ ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . ثم خير نساءه كلهن ، فقلن مثل ما قالت عائشة ، رضي الله عنهن .

وأخرجه البخاري ومسلم جميعا ، عن قتيبة ، عن الليث ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة مثله{[23360]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صَبِِيح ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ، فلم يعدها علينا شيئا . أخرجاه من حديث الأعمش{[23361]}

[ وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : أقبل أبو بكر ، رضي الله عنه ، يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس : فلم يؤذن له . ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له . ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه ، وهو ساكت ، فقال عمر : لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك ، فقال عمر : يا رسول الله ، لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفا ، فوجأت عنقها . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه{[23362]} وقال : «هن حولي يسألنني النفقة » . فقام أبو بكر ، رضي الله عنه ، إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر ، رضي الله عنه ، إلى حفصة ، كلاهما يقولان : تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده . فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن نساؤه : والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده . قال : وأنزل الله ، عز وجل ، الخيار ، فبدأ بعائشة فقال : «إني أذكر لك أمرًا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك » . قالت : وما هو ؟ قال : فتلا عليها : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ } الآية ، قالت عائشة ، رضي الله عنها : أفيك أستأمر أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله ، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت . فقال : " إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا ، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا{[23363]} ، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتُها " .

انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، فرواه هو والنسائي ، من حديث زكريا بن إسحاق المكي ، به{[23364]} .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا سُرَيْج بن يونس ، حدثنا علي بن هاشم بن البريد ، عن محمد بن عبيد [ الله بن علي ]{[23365]} بن أبي رافع ، عن عثمان بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي ، رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيَّر نساءه الدنيا والآخرة ، ولم يخيرهن الطلاق{[23366]} .

وهذا منقطع ، وقد رُوي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك . وهو خلاف الظاهر من الآية ، فإنه قال : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } أي : أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن .

وقد اختلف العلماء في جواز تزويج غيره لهن لو طلقهن ، على قولين ، وأصحهما نعم لو وقع ، ليحصل المقصود من السراح ، والله أعلم .

قال عكرمة : وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة ، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيَيّ النَّضَريَّة ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، رضي الله عنهن وأرضاهن .

[ ولم يتزوج واحدة منهن ، إلا بعد أن توفيت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته فآمنت به ونصرته ، وكانت له وزير صدق ، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين ، رضي الله عنها ، في الأصح ، ولها خصائص منها : أنه لم يتزوج عليها غيرها ، ومنها أن أولاده كلهم منها ، إلا إبراهيم ، فإنه من سريته مارية ، ومنها أنها خير نساء الأمة .

واختلف في تفضيلها على عائشة على ثلاثة أقوال ، ثالثها الوقف .

وسئل شيخنا أبو العباس بن تيمية عنهما فقال : اختصت كل واحدة منهما بخاصية ، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام ، وكانت تُسلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبته ، وتسكنه ، وتبذل دونه مالها ، فأدركت غُرة الإسلام ، واحتملت الأذى في الله وفي رسوله وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة ، فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها . وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام ، فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة ، وانتفاع بنيها بما أدَّت إليهم من العلم ، ما ليس لغيرها . هذا معنى كلامه ، رضي الله عنه .

ومن خصائصها : أن الله ، سبحانه ، بعث إليها السلام مع جبريل ، فبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : أتى جبريل ، عليه السلام ، النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هذه خديجة ، قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فأقرأها السلام من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة ، من قَصَب ، لا صَخَب فيه ولا نَصَب{[23367]} وهذه لعَمْر الله خاصة ، لم تكن لسواها . وأما عائشة ، رضي الله عنها ، فإن جبريل سلَّم عليها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، فروى البخاري بإسناده أن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا : " يا عائشة ، هذا جبريل يقرئك السلام " . فقلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ، ترى ما لا أرى ، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم{[23368]} . ومن خواص خديجة ، رضي الله عنها : أنه لم تسوءه قط ، ولم تغاضبه ، ولم ينلها منه إيلاءً ، ولا عتب قط ، ولا هجر ، وكفى بهذه منقبة وفضيلة .

ومن خواصها : أنها أول امرأة آمنت بالله ورسوله من هذه الأمة .

فصل :

فلمَّا توفاها الله تزوج بعدها سودة بنت زمعة ، رضي الله عنها ، وهي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن جبل بن عامر بن لؤي ، وكبرت عنده ، وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة ، فأمسكها . وهذا من خواصها : أنها آثرت بيومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحبا له ، وإيثارا لمقامها معه ، فكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة ، ويقسم لنسائه ، ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة ، لترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وتزوج الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما ، وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين ، وقيل : بثلاث ، وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى ، وهي بنت تسع ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة ، وتوفيت بالمدينة ، ودفنت بالبقيع ، وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة سنة ثمان وخمسين ، ومن خصائصها : أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، كما ثبت ذلك عنه في البخاري وغيره ، أنه سئل أي الناس أحب إليك ؟ قال : " عائشة " . قيل : فمن الرجال ؟ قال : " أبوها " {[23369]} .

ومن خصائصها أيضا : أنه لم يتزوج بكرا غيرها ، ومن خصائصها : أنه كان ينزل عليه الوحي وهو في لحافها دون غيرها .

ومن خصائصها : أن الله ، عز وجل ، لما أنزل عليه آية التخيير بدأ بها فخيرها ، فقال : " ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك " . فقالت : أفي هذا أستأمر أبويَّ ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وقلن كما قالت .

ومن خصائصها : أن الله ، سبحانه ، برأها مما رماها به أهل الإفك ، وأنزل في عذرها ، وبراءتها ، وحيا يتلى في محاريب المسلمين ، وصلواتهم إلى يوم القيامة ، وشهد لها أنها من الطيبات ، ووعدها المغفرة والرزق الكريم ، وأخبر سبحانه ، أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرًا لها ، ولم يكن بذلك الذي قيل فيها شر لها ، ولا عيب لها ، ولا خافض من شأنها ، بل رفعها الله بذلك ، وأعلى قدرها وعظم شأنها ، وأصار لها ذكرًا بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء ، فيا لها من منقبة ما أجلها . وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها ، حيث قالت : ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها ، فهذه صديقة الأمة ، وأم المؤمنين ، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة ، وأن قاذفيها ظالمون مفترون عليها ، قد بلغ أذاهم إلى أبويها ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها ، فما ظنك بمن قد صام يوما أو يومين ، أو شهرا أو شهرين ، قد قام ليلة أو ليلتين ، فظهر عليه شيء من الأحوال ، ولاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات ، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم ، ويُغتنم بصالح دعائهم ، وأنهم يجب على الناس احترامهم وتعظيمهم وتعزيزهم وتوقيرهم ، فيتمسح بأثوابهم ، ويقبل ثرى أعتابهم ، وأنهم من الله بالمكانة التي تنتقم لهم لأجلها من تنقصهم في الحال ، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهال ، وإن إساءة الأدب عليهم ذنب لا يكفره شيء إلا رضاهم .

ولو كان هذا من وراء كفاية لهان ، ولكن من وراء تخلف ، وهذه الحماقات والرعونات نتاج الجهل الصميم ، والعقل غير المستقيم ، فإن ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه ، غافل عن جرمه وعيوبه وذنوبه ، مغتر بإمهال الله له عن أخذه بما هو فيه من الكبر والازدراء على من لعله عند الله خير منه . نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة . وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيما ، وهو عند الله حقير ، ومن خصائص عائشة ، رضي الله عنها : أن الأكابر من الصحابة ، رضي الله عنهم ، كان إذا أشكل الأمر عليهم من الدين ، استفتوها فيجدون علمه عندها .

ومن خصائصها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها . ومن خصائصها : أن الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها في خرقة حرير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن يكن هذا من عند الله يمضه »{[23370]} . ومن خصائصها : أن الناس كانوا يتحرون هداياهم يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيتحفونه بما يحب في منزل أحب نسائه إليه ، رضي الله عنهم أجمعين ، وتكنى أم عبد الله ، وروي أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا ، ولا يثبت ذلك .

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب ، وكانت قبله عند حبيش بن حذافة ، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن شهد بدرا ، توفيت سنة سبع ، وقيل : ثمان وعشرين ، ومن خواصها : ما ذكره الحافظ أبو محمد المقدسي في مختصره في السيرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها ، فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة ، فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة .

وقال الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى ، حدثنا جدي حرملة ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا عمرو بن صالح الحضرمي ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فوضع التراب على رأسه ، وقال : ما يعبأ الله بابن الخطاب بعد هذا . فنزل جبريل ، عليه السلام ، على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر . {[23371]}

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، واسمها رملة بنت صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، هاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى أرض الحبشة ، فتنصر بالحبشة ، وأتم الله لها الإسلام ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة ، وأصدقها عند النجاشي أربعمائة دينار ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري بها إلى أرض الحبشة ، وولى نكاحها عثمان بن عفان ، وقيل : خالد بن سعيد بن العاص ، وهي التي أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليه أبوها لما قدم أبو سفيان المدينة ، وقالت له : إنك مشرك ، ومنعته الجلوس عليه .

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد ، توفيت سنة اثنتين وستين ، ودفنت بالبقيع ، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتًا ، وقيل : بل ميمونة ، ومن خصائصها : أن جبريل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي عنده فرأته في صورة دحية الكلبي . ففي صحيح مسلم عن أبي عثمان قال : أنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده أم سلمة ، فقال : فجعل يتحدث ، ثم قام فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة : " من هذا ؟ " أو كما قال . قالت : هذا دحية الكلبي . قالت : وايم الله ، ما حسبته إلا إياه ، حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، يخبر أنه جبريل ، أو كما قال ، قال سليمان التيمي : فقلت لأبي عثمان : ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال : من أسامة بن زيد{[23372]} وزوَّجها ابنها - عمر - من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردت طائفة ذلك بأن ابنها لم يكن له من السن حينئذ ما يعقد التزويج ، ورد الإمام أحمد ذلك ، وأنكر على من قاله ، ويدل على صحة قول أحمد ما رواه مسلم في صحيحه أن عمر بن أبي سلمة - ابنها - سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم ؟ فقال : " سل هذه " يعني : أم سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ، فقال : لسنا كرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحل الله لرسوله ما شاء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أتقاكم لله وأعلمكم به " {[23373]} أو كما قال . ومثل هذا لا يقال لصغير جدا ، وعمر ولد بأرض الحبشة قبل الهجرة . وقال البيهقي : وقول من زعم أنه كان صغيرا ، دعوى ولم يثبت صغره بإسناد صحيح .

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من بني خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب ، وكانت قبل عند مولاه زيد بن حارثة ، فطلقها فزوجه الله إياها من فوق سبع سموات ، وأنزل عليه : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } فقام فدخل عليها بلا استئذان ، وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : زوَّجكن أهاليكن وزوَّجني الله من فوق سبع سمواته ، وهذا من خصائصها . توفيت بالمدينة سنة عشرين ، ودفنت بالبقيع .

وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت تحت عبد الله بن جحش ، تزوجها سنة ثلاث من الهجرة ، وكانت تسمى أم المساكين ، ولم تلبث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا ، شهرين أو ثلاثة ، وتوفيت ، رضي الله عنها .

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق ، فوقعت في سهم ثابت بن قيس ، فكاتبها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها ، وتزوجها سنة ست من الهجرة ، وتوفيت سنة ست وخمسين ، وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق ، وقالوا : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك من بركتها على قومها .

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي ، من ولد هارون بن عمران أخي موسى ، سنة سبع ، فإنها سبيت من خيبر ، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق ، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توفيت سنة ست وثلاثين ، وقيل : سنة خمسين . ومن خصائصها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها . قال أنس : أمهرها نفسها ، وصار ذلك سنة للأمة إلى يوم القيامة ، ويجوز للرجل أن يجعل عتق جاريته صداقها ، وتصير زوجته على منصوص الإمام أحمد ، رحمه الله . قال الترمذي : حدثنا إسحاق بن منصور ، وعبد بن حميد ، قالا حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ثابت ، عن أنس قال : بلغ صفية أن حفصة قالت : صفية بنت يهودي ، فبكت ، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال : " ما يبكيك ؟ " قالت : قالت لي حفصة : إني ابنة يهودي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي ، وإنك لتحت نبي ، فبما تفخر عليك ؟ » ثم قال : «اتق الله يا حفصة » . {[23374]} قال الترمذي : هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه . وهذا من خصائصها ، رضي الله عنها .

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية ، تزوجها بسَرَف وهو على تسعة أميال من مكة ، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين ، توفيت سنه ثلاث وستين ، وهي خالة خالد بن الوليد ، وخالة ابن عباس ، فإن أمه أم الفضل بنت الحارث وهي التي اختلف في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لها . هل نكحها حلالا أو مُحرمًا ؟ والصحيح إنما تزوجها حلالا كما قال أبو رافع الشفير في نكاحها .

قال الحافظ أبو محمد المقدسي وغيره : وعقد على سبع ولم يدخل بهن ، فالصلاة على أزواجه تابعة لاحترامهن وتحريمهن على الأمة ، وأنهن نساؤه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، فمن فارقها في حياتها ولم يدخل ، لا يثبت لها أحكام زوجاته اللاتي دخل بهن صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وذريته وسلم تسليما ] . {[23375]}


[23347]:- في ت: "صلى الله عليه وسلم".
[23348]:- في ت: "فروى".
[23349]:- صحيح البخاري برقم (4785).
[23350]:- صحيح البخاري برقم (4786).
[23351]:- في أ: "فيه قتادة و".
[23352]:- صحيح البخاري (8/520) "فتح".
[23353]:- تفسير الطبري (21/100).
[23354]:- زيادة من ت ، ف ، والطبري.
[23355]:- تفسير الطبري (21/101).
[23356]:- في أ: "أنبأنا".
[23357]:- تفسير الطبري (21/101).
[23358]:- في أ: "ألا".
[23359]:- في ف: "أعلم".
[23360]:- كذا ولم أجده بهذا السند فيهما ، ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف ولعلي أتداركه فيما بعد.
[23361]:- المسند (6/45) وصحيح البخاري برقم (5262) وصحيح مسلم رقم (1477).
[23362]:- في ف: "نواجذه".
[23363]:- في ت: "مبشرا".
[23364]:- المسند (3/328) وصحيح مسلم برقم (1478) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9208).
[23365]:- زيادة من ت ، ف ، والمسند.
[23366]:- زوائد المسند (1/78).
[23367]:- صحيح البخاري برقم (3820).
[23368]:- صحيح البخاري برقم (3768).
[23369]:- لم أقف عليه في صحيح البخاري. وهو في سنن الترمذي برقم (3879) من حديث عمرو بن العاص ، رضي الله عنه
[23370]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (5078) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
[23371]:- المعجم الكبير (17/291) وقال الهيثمي في المجمع (4/334): "فيه عمرو بن صالح الحضرمي ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات".
[23372]:- صحيح مسلم برقم (2451).
[23373]:- صحيح مسلم برقم (1108).
[23374]:- سنن الترمذي برقم (3894) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه".
[23375]:- زيادة من ت.

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة} الجنة {فإن الله أعد للمحسنات منكم أجرا عظيما} الجنة. فلما اخترن الله ورسوله أنزل الله عز وجل: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج} إلى آخر الآية.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 28]

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قُلْ "يا محمد لأزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمّتّعْكُنّ "يقول فإني أمتعكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهنّ بالطلاق بقوله: "وَمَتّعُوهُنّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعا بالمَعْرُوفِ حَقّا على المُحْسِنِينَ وقوله: "وأُسَرّحْكُنّ سَراحا جَمِيلاً" يقول: وأطلقكنّ على ما أذن الله به، وأدّب به عباده بقوله: "إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ". "وَإنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ" يقول: وإن كنتنّ تردن رضا الله ورضا رسوله وطاعتهما فأطعنهما، "فإنّ اللّهَ أعَدّ للْمُحْسِناتِ مِنْكُنّ" وهن العاملات منهنّ بأمر الله وأمر رسوله "أجْرا عَظِيما"...

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج صلوات، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأعلمنّ لكم شأنه فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يتكلم ويرفع صوته، حتى أذن له. قال: فجعلت أقول في نفسي: أيّ شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، أو كلمة نحوها؟ فقلت: يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها صكة، فقال: «ذلكَ حَبَسَنِي عَنكُمْ» قال: فأتى حفصة، فقال: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ما كانت لك من حاجة فإليّ ثم تتبع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يكلمهنّ، فقال لعائشة: أيغرّك أنك امرأة حسناء، وأن زوجك يحبك؟ لتنتهينّ، أو لينزلنّ فيك القرآن قال: فقالت أمّ سلمة: يا ابن الخطّاب، أو مَا بقي لك إلاّ أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه، ولن تسأل المرأة إلا لزوجها قال: ونزل القرآن "يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَهَا..." إلى قوله "أجْرا عَظِيما" قال: فبدأ بعائشة فخيرها، وقرأ عليها القرآن، فقالت: هل بدأت بأحد من نسائك قبلي؟ قال: «لا»، قالت: فإني أختار الله ورسوله، والدار الآخرة، ولا تخبرهنّ بذلك قال: ثم تتبعهنّ فجعل يخيرهنّ ويقرأ عليهنّ القرآن، ويخبرهن بما صنعت عائشة، فتتابعن على ذلك...

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: لما نزلت آية التخيير، بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة، فقال: «يا عائِشَةُ إنّي عارضٌ عَلَيْكِ أمْرا فَلا تَفْتاتِي فِيهِ بشَيْءٍ حتى تَعْرِضِيهِ على أبَوَيْكِ، أبي بَكْر وأُمّ رُومانَ» فقالت: يا رسول الله وما هو؟ قال: قال الله "يا أيّها النّبِي قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزينَتَها" إلى "عَظِيما"، فقلت: إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأمّ رومان، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقرأ الحُجَرَ فقال: «إن عائشة قالت كذا»، فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت عائشة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة} معلوم أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها لا يحتمل ألا يردن الله، ولكن إضافة ذلك إلى الله لاختيارهن المقام عند رسوله، فيدل ذلك أن كل ما أضيف إلى الله ورسوله كان المراد به رسوله نحو ما قال: {فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] وقوله: {قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1] وأمثال ذلك.

يحتمل قوله: {أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} أي إذا اخترن المقام عند رسول الله يصرن محسنات بذلك، فأعد لهن ما ذكر، فيكون ذلك الاختيار منهن الإحسان فاستوجبن ما ذكر.

ويحتمل: {وإن كنتن تردن الله ورسوله} ودمتن على ذلك، واكتسبتن الأعمال الصالحات والإحسان حتى ختمتن على ذلك، فأعد لكن ما ذكر لا نفس اختيار مقامكن معه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و {أعد} معناه يسر وهيأ و «المحسنات» الطائعات لله والرسول.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

قَوْله تَعَالَى: {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ}

الْإِحْسَانُ فِي الْفِعْلِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ. وَالثَّانِي: التَّمَادِي عَلَيْهِ من غَيْرِ رُجُوعٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ لَهُنَّ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُنَّ كَمَا أُمِرَ بِهِ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ إلَى حَالَةِ الِاحْتِرَامِ بِالْمُنْيَةِ، فَعِنْدَنَا لَهُ أَفْضَلُ الْجَلَالَةِ وَالْإِكْرَامِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} إلَى آخِرِ الْمَعْنَى، فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ وَهُوَ الْإِحْسَانُ.

قَوْله تَعَالَى: {أَجْرًا عَظِيمًا} الْمَعْنَى أَعْطَاهُنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ ثَوَابًا مُتَكَاثِرَ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}، وَزِيَادَةُ رِزْقٍ كَرِيمٍ مُعَدٍّ لَهُنَّ. أَمَّا ثَوَابُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ فَكَوْنُهُنَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا غَايَةَ بَعْدَهَا، وَلَا مَزِيَّةَ فَوْقَهَا، وَفِي ذَلِكَ من زِيَادَةِ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ عَلَى غَيْرِهِنَّ؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالنَّعِيمَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ، وَتَأْكِيدًا لِحُرْمَتِهِنَّ، وَتَشْرِيفًا لِمَنْزِلَتِهِنَّ.

الثَّانِي: أَنَّهُ حَظَرَ عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ، وَمَنَعَهُ من الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ، فَقَالَ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ من بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ من أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ}. وَالْحِكْمَةُ أَنَّهُنَّ لَمَّا لَمْ يَخْتَرْنَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ أَمَرَ بِمُكَافَأَتِهِنَّ فِي التَّمَسُّكِ بِنِكَاحِهِنَّ. فَأَمَّا مَنْعُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ مُسْتَدَامًا أَمْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهٍ من رَحْمَتِهِ وَخَيْرَاتِهِ، وَلَا يَنْقِصُ ذَلِكَ من ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْقَصُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله: {وإن كنتن تردن الله} إعلاما لهن بأن في اختيار النبي عليه السلام اختيار الله ورسوله والدار الآخرة وهذه الثلاثة هي الدين.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وإن كنتن} بما لكن من الجبلة {تردن الله} أي الآمر بالإعراض عن الدنيا للإعلاء إلى ما له من رتب الكمال {ورسوله} المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين لا يدع منه شيئاً، لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله {والدار الآخرة} التي هي الحيوان بما لها من البقاء، والعلو والارتقاء.

ولما كان ما كل من أظهر شيئاً كان عالي الرتبة فيه، قال مؤكداً تنبيهاً على أن ما يقوله مما يقطع به وينبغي تأكيده دفعاً لظن من يغلب عليه حال البشر فيظن فيه الظنون من أهل النفاق وغيرهم، أو يعمل عمل من يظن ذلك أو يستبعد وقوعه في الدنيا أو الآخرة: {فإن الله} أي بما له من جميع صفات الكمال {أعد} في الدنيا والآخرة {للمحسنات منكن} أي اللاتي يفعلن ذلك وهن في مقام المشاهدة وهو يعلم المحسن من غيره {أجراً عظيماً *} أي تحتقر له الدنيا وكل ما فيها من زينة ونعمة...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

"أَجْرًا عَظِيمًا" أي لا يقدر قدره.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} رتب الأجر على وصفهن بالإحسان، لأنه السبب الموجب لذلك، لا لكونهن زوجات للرسول فإن مجرد ذلك، لا يكفي، بل لا يفيد شيئًا، مع عدم الإحسان، فخيَّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فاخترن اللّه ورسوله، والدار الآخرة، كلهن، ولم يتخلف منهن واحدة، رضي اللّه عنهن.

وفي هذا التخيير فوائد عديدة:

منها: الاعتناء برسوله، وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية.

ومنها: سلامته صلى اللّه عليه وسلم، بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}

ومنها: تنزيهه عما لو كان فيهن، من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله، والدار الآخرة، وعن مقارنتها. ومنها: سلامة زوجاته، رضي اللّه عنهن، عن الإثم، والتعرض لسخط اللّه ورسوله. فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن، التسخط على الرسول، الموجب لسخطه، المسخط لربه، الموجب لعقابه.

ومنها: إظهار رفعتهن، وعلو درجتهن، وبيان علو هممهن، أن كان اللّه ورسوله والدار الآخرة، مرادهن ومقصودهن، دون الدنيا وحطامها. ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار، للأمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يَكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة.

ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد اللّه أن تكون نساؤه كاملات مكملات، طيبات مطيبات {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}.

ومنها: أن هذا التخيير داع، وموجب للقناعة، التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه.

ومنها: أن يكون اختيارهن هذا، سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يَكُنَّ بمرتبة، ليس فيها أحد من النساء.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لقد جمعت هذه الآية كلّ اُسس الإيمان وسلوكيات المؤمن، فمن جهة عنصر الإيمان والاعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر، ومن جهة اُخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات، وبناءً على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق. وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة واُسوة للمؤمنات على الدوام، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح، فإنّهن يبقين أزواجاً للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر، وإلاّ فعليهنّ مفارقته والبون منه. ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلاّ أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم واُسوة لهم، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائماً، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه...