فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

{ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة } أي الجنة ونعيمها { فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ } أي اللائي عملن عملاً صالحاً { أَجْراً عَظِيماً } لا يمكن وصفه ، ولا يقادر قدره وذلك بسبب إحسانهن ، وبمقابلة صالح عملهنّ .

وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبيّ صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين : القول الأوّل : أنه خيرهنّ بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق ، فاخترن البقاء ، وبهذا قالت عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة . والقول الثاني : أنه إنما خيرهنّ بين الدنيا فيفارقهنّ ، وبين الآخرة فيمسكهن ولم يخيرهنّ في الطلاق ، وبهذا قال عليّ والحسن وقتادة ، والراجح الأوّل . واختلفوا أيضاً في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يحسب مجرّد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا ؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا يكون التخيير مع اختيار المرأة لزوجها طلاقاً لا واحدة ولا أكثر . وقال علي وزيد بن ثابت : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة ، وبه قال الحسن والليث . وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك . والراجح الأوّل لحديث عائشة الثابت في الصحيحين قالت : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدّه طلاقاً . ولا وجه لجعل مجرّد التخيير طلاقاً ، ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة لمجرّد التخيير ، بل أراد تفويض المرأة وجعل أمرها بيدها ، فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية ، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة .

واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية ، أو بائنة ؟ فقال بالأوّل عمر وابن مسعود وابن عباس وابن أبي ليلى والثوري والشافعي . وقال بالثاني عليّ وأبو حنيفة وأصحابه ، وروي عن مالك . والراجح الأوّل ، لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خلاف ما أمره الله به ، وقد أمره بقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] ، وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات ، وليس لهذا القول وجه . وقد روي عن عليّ : أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء ، وإذا اختارت زوجها فواحدة رجعية .

/خ34