فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

{ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ } أي تردن رسوله ، وذكر الله للإيذان بجلالة محمد صلى الله عليه وسلم عند تعالى { وَالدَّارَ الآخِرَةَ } أي الجنة ونعيمها { فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ } أي اللاتي عملن عملا صالحا { أَجْرًا عَظِيمًا } لا يمكن وصفه ، ولا يقادر قدره ، وذلك بسبب إحسانهن وبمقابلة صالح عملهن .

وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزوجه على قولين : الأول أنه خيرهن

بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترن البقاء وبهذا قالت عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة ، والثاني : أنه إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، وبهذا قال علي والحسن وقتادة ، والراجح الأول .

واختلفوا أيضا في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يحسب مجرد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا ؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا يكون التخيير مع اختيار المرأة لزوجها طلاقا ، لا واحدة ولا أكثر . وقال علي وزيد بن ثابت : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة ، وبه قال الحسن والليث وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك .

والراجح الأول ، لحديث عائشة الثابت في الصحيحين قالت : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ، فلم يعده طلاقا ، ولا وجه لجعل مجرد التخيير طلاقا . ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة بمجرد التخيير ، بل أراد تفويض المرأة وجعل أمرها بيدها ، فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية ، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة . واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية ؟ أو بائنة ؟

فقال بالأول عمر وابن مسعود وابن عباس وابن أبي ليلى والثوري والشافعي .

وقال بالثاني علي وأبو حنيفة وأصحابه ، وروي عن مالك ، والراجح الأول ؛ لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خلاف ما أمره الله به . وقد أمره بقوله إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ، وروي عن زيد بن ثابت : أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات ، وليس لهذا القول وجه .

وقد روي عن علي أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء وإذا اختارت زوجها فواحدة رجعية .

وقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه عن جابر قال : أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس ، فلم يؤذن له . ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له ، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت ، فقال عمر : لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك فقال عمر . يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفا فوجأت في عنقها ؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال : هن حولي يسألنني النفقة .

فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما ليس عنده ؟ فنهاهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلن نساؤه : ( والله لا نسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذا المجلس ما ليس عنده ) ، وأنزل الله الخيار فبدأ بعائشة فقال : إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت ما هو ؟ فتلا عليها { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ } الآية فقالت عائشة : أفيك استأمر أبوي ؟ بل اختار الله ورسوله ، واسألك أن لا تذكر لنسائك ما اخترت فقال إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت فبدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، فقال : إن الله قال : يا أيها النبي قل لأزواجك إلى تمام الآية ، فقلت : ففي أي هذا استأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت ، ثم لما اختار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أنزل فيهن هذه الآيات تكرمة لهن وتعظيما لحقهن فقال :