الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

ثم قال : { وإن كنتن تردن الله ورسوله } رضى الله ورسوله ، { فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } أي : للعاملات منكن بأمر الله ورسوله أجرا عظيما .

روي أن هذه الآية نزلت من أجل عائشة سألت رسول الله شيئا من عرض الدنيا ، واعتزل رسول الله لذلك نساءه شهرا ، ثم أمره الله أن يخيرهن بين الصبر والرضى بما قسم لهن والعمل بطاعة الله ، وبين أن يمتعهن ويفارقهن {[55430]} .

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم " لم يخرج لصلوات فقالوا : ما شأنه ؟ فقال عمر : إن شئتم لأعلمن لكم ما شأنه ، فأتى النبي فجعل يتكلم ويرفع صوته ، حتى أذن له ، قال : فجعلت أقول في نفسي : أي شيء أكلم به رسول الله لعله ينبسط ؟ قال : فقلت يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها {[55431]}صكة ، فقال : ذلك حبسني عنكم ، فأتى عمر حفصة {[55432]} فقال لها : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ما كانت لك من حاجة فإلي ، ثم تتبع نساء النبي فجعل/يكلمهن ، فقال لعائشة : أيغرك أنك امرأة حسناء وأن زوجك يحبك ، لتنتهين أو لينزلن الله فيكن القرآن ، فقالت له أم سلمة : يا بن الخطاب أو ما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه ، من يسأل المرأة إلا زوجها ، ونزل القرآن : { يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى قوله { أجرا عظيما } فبدأ بعائشة وخيرها ، وقرأ عليها القرآن ، فقالت : هل بدأت بأحد من نسائك قبلي ؟ قال : لا ، قالت : فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، ولا تخبرهن بذلك ، ثم تتبعهن فجعل يخبرهن ويقرأ عليهن القرآن ويخبرهن بما صنعته عائشة فتتابعن على ذلك " {[55433]} .

قال قتادة والحسن : خيرهن بين الدنيا والآخرة والجنة والنار في شيء كن أردنه من الدنيا {[55434]} .

وقال عكرمة : في غيرة كانت غارتها عائشة ، وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة {[55435]} ابنة أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة {[55436]} ، وأم سلمة بنت أبي أمية {[55437]} وكانت تحته صفية بن حيي الخيبرية {[55438]} ، وميمونة بنت الحارث الهلالية {[55439]} ، وزينب بنت جحش الأسدية {[55440]} ، وجويرية بنت الحارث {[55441]} من بني المصطلق {[55442]} ، فبدأ بعائشة فاختارت الله ورسوله ، فرئي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتابعهن كلهن على ذلك {[55443]} .

قال الحسن وقتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك فقال : " لا يحل لك النساء من بعد " الآية {[55444]} ، فقصره الله عليهن {[55445]} .

وقال ابن زيد : كان سبب ذلك الغيرة {[55446]} .

وقد روي في ذلك أخبار كثيرة يختلف لفظها والمعنى يرجع إلى ما ذكرنا في جميعها .

قال ابن شهاب : امرأة واحدة اختارت نفسها فذهبت وكانت بدوية {[55447]} .

قال ربيعة {[55448]} : فكانت البتة {[55449]} {[55450]} .

قيل كان اسمها عمرة بنت يزيد الكلابية {[55451]} ، اختارت الفراق وذهبت فابتلاها الله تعالى بالجنون {[55452]} . ويقال : إن أباها تركها ترعى غنما له فصارت إحداهن ، فلم يعلم ما كان من أمرها وخبرها إلى اليوم {[55453]} .

ويقال : إنها كندية {[55454]} ويقال : إنها لم تختر وإنما استعاذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها وقال : " لقد استعذت بمعاذ " {[55455]} .

ويقال إنه دعاها ، فقالت : إنا قوم نؤتي ولا نأتي .

وإذا خير الرجل امرأته فاختارت نفسها فهي البتة {[55456]} وإن اختارت واحدة أو اثنتين {[55457]} أو لم تختر شيئا ، أو قالت : اخترت زوجي ، فلا شيء في ذلك كله بالمدخول بها ، وهي زوجة على حالها {[55458]} .

قال ابن عبد الحكم {[55459]} : معنى خيرهن : قرأ عليهن الآية . ولا يجوز أن يخيرهن بلفظ التخيير لأن التخيير إذا قبل ثلاثا ، والله أمره أن يطلق النساء لعدتهن ، وقد قال : سراحا جميلا ، والثلاث ليس مما يجمل منه ، فالسراح الجميل هو واحدة لا الثلاث التي يوجبهن قبول التخيير {[55460]} .


[55430]:ذكره الطبري في جامع البيان 21/156
[55431]:جاء في اللسان مادة "صكك" 10/456، الصك: الضرب الشديد بالشيء العريض، وقيل: هو الضرب عامة بأي شيء كان صكه يصكه صكا، قال الأصمعي صكمته ولكمته وصككته ودككته ولككته، كله إذا دفعته، وصكه: أي ضربه... ومنه قوله تعالى{فصكت وجهها}.
[55432]:هي حفصة بنت عمر بن الخطاب، صحابية جليلة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لها أحاديث في الصحيحين انظر: طبقات ابن سعد 8/81، والاستيعاب 4/1811، 3297، والإصابة 4/237،296، وتقريب التهذيب 2/594، 9
[55433]:أورده الطبري في جامع البيان 21/156، وانظره في التفسير المأثور عن عمر607
[55434]:انظر: جامع البيان 21/156، وأحكام الجصاص 3/357 وأحكام ابن العربي 3/1526 والدر المنثور6/597
[55435]:هي أم حبيبة بنت أبي سقيان اسمها رملة، وهي أشهر بكنيتها من اسمها، من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم انظر: الاستيعاب 4/1929، 4136، والإصابة 4/305، 434 وتقريب التهذيب 2/620، 15
[55436]:هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن لؤي من قريش، إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد خديجة وتوفيت بالمدينة سنة 54 هـ. انظر: طبقات ابن سعد 8/52، والاستيعاب 4/1867، والإصابة: كتاب النساء 4/338، 606 وتقريب التهذيب 2/601، 11
[55437]:هي أم سلمة هند بنت سهيل المعروف بأبي أمية، قرشية مخزومية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة للهجرة، هاجرت الهجرتين، روت عنه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ابن المسيب والشعبي. انظر: طبقات ابن سعد 8/86، وصفة الصفوة 2/40، والإصابة: كتاب النساء 4/458، 1209 وتقريب التهذيب 2/617، 2
[55438]:هي صفية بنت حيي بن أخطب من الخزرج، من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت في الجاهلية من ذوات الشرف تدين باليهودية وأسلمت فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وتوفيت بالمدينة سنة 50 هـ.انظر: طبقات ابن سعد 8/120، وحلية الأولياء 2/54، 137، وصفة الصفوة 2/52 والإصابة ـ كتاب النساء ـ 4/346،60 وتقريب التهذيب 2/603، 3
[55439]:هي ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 7هـ، وكان اسمها "برة" فسماها "ميمونة" روت عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، انظر: طبقات ابن سعد 8/132، وأسد الغابة 6/272، 7297، والإصابة ـ كتاب النساء ـ 4/413، 1036، وتقريب التهذيب 2/614، 10
[55440]:تقدمت ترجمتها.
[55441]:هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار من خزاعة إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمها "برة" فغيره النبي صلى الله عليه وسلم وسماها جويرية ، روت عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، توفيت سنة 50 هـ انظر: طبقات ابن سعد 8/116، والاستيعاب ـ كتاب النساء ـ 4/1804، 3282، والإصابة 4/265، 251، وتقريب التهذيب 2/593، 8
[55442]:بنو المصطلق بطن من خزاعة من القحطانية غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة اشتهرت بغزوة بني المصطلق انظر: نهاية الأرب 72، ومعجم قبائل العرب 3/1104
[55443]:انظر: جامع البيان 21/157، وتفسير ابن كثير 3/482
[55444]:الأحزاب: آية 52
[55445]:انظر: جامع البيان 21/157
[55446]:انظر: المصدر السابق
[55447]:انظر: أحكام ابن العربي 3/1524، حيث يرى هذا الأخير أن هذا القول لابن شهاب يصح.
[55448]:هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن، واسمه فروخ التيمي، أبو عثمان المدني، الفقيه المعروف بربيعة الرأي، روى عن أنس والسائب بن زيد، وروى عنه مالك وسليمان التيمي والليث، توفي سنة 136. انظر: تذكرة الحفاظ 1/157، 153، وتقريب التهذيب 1/247، وشجرة النور الزكية 46، 1
[55449]:معنى البتة في قول ربيعة: الفراق والطلاق البائن.
[55450]:انظر: أحكام ابن العربي 3/1524، حيث يرى هذا الأخير أن هذا القول لربيعة لم يثبت وإنما بناه من بناه على أن مذهب ربيعة في التخيير بتات.
[55451]:هي عمرة بنت يزيد بن عبيد بن أوس بن كلاب، طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بها انظر: الاستيعاب 4/1887، 4042، والإصابة 2/368، 762
[55452]:هو قول ربيعة في أحكام ابن العربي 3/1524
[55453]:انظر: أحكام ابن العربي 3/1524
[55454]:انظر: المصدر السابق
[55455]:أخرجه البخاري بمعناه في كتاب الطلاق 6/163، والنسائي في سننه: باب مواجهة الرجل المرأة بالطلاق 6/150، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق 2051 والحاكم في مستدركه 4/35، وأورده ابن عبد البر في الاستيعاب 4/1887، وابن العربي في أحكامه 3/1524
[55456]:جاء في أحكام ابن العربي: أن المرأة التي اختارت نفسها تبين لمعنيين أحدهما: أن اختيار الدنيا سبب الافتراق، فإن الفراق إذا وقع لا يتعلق باختياره إمضاؤه، أصله يمين اللعان. الثاني: أن الرجل قال لزوجته: اختاري نفسك ـ ونوى الفراق ـ واختارت، وقع الطلاق، والدنيا كناية عن ذلك. وهذا أصح القولين عند ابن العربي انظر: أحكامه 3/1526
[55457]:يعني طلقة أو طلقتين رجعيتين.
[55458]:قال الجصاص في هذه المسألة اختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد، إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة إذا أراد الزوج الطلاق. وقال مالك في الخيار: إنه ثلاث إذا اختارت نفسها، وإن طلقت نفسها واحدة لم يقع شيء. وقال الليث في الخيار: إن اختارت زوجها فلا شيء، وإن اختارت نفسها فهي بائنة. وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي في الخيار: إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة يملك بها الرجعة. وقال الشافعي في اختاري وأمرك بيدي: ليس بطلاق إلا أن يريد الزوج. ولو أراد طلاقها فقالت: اخترت نفسي، فإن أرادت طلاقا فهو طلاق، وإن لم ترده فليس بطلاق. انظر: أحكام الجصاص: 3/358.
[55459]:هو أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع فقيه مصري من أجلة أصحاب مالك، انتهت إليه رئاسة الطائفة المالكية بعد أشعب، وروى عن مالك الموطأ سماعا، توفي سنة 214 هـ انظر: وفيات الأعيان 3/34، 323
[55460]:انظر: أحكام ابن العربي 3/1527