{ وإن كنتن } أي : بما لكن من الجبلة { تردن الله } أي : الآمر بالإعراض عن الدنيا { ورسوله } أي : المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها ، المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين ، لا يدع منه شيئاً لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله تعالى { والدار الآخرة } أي : التي هي الحيوان بما لها من البقاء والعلو والارتقاء { فإن الله } بما له من جميع صفات الكمال { أعد } أي : في الدنيا والآخرة { للمحسنات منكن } أي : اللاتي يفعلن ذلك { أجراً عظيماً } تستحقر دونه الدنيا وزينتها ، ومن للبيان لأنهن كلهن محسنات .
قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية : أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه من عرض الدنيا شيئاً ، وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآلى أن لا يقربهن شهراً ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا : ما شأنه وكانوا يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه قال : فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أطلقتهن قال : لا فقلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إن شئت .
فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه » ونزل قوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ( النساء : 83 )
فكنت أنا الذي استنبط ذلك الأمر ، وأنزل الله تعالى آية التخيير وكان تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة ، خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وأربع من غير القريشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية .
فلما نزلت آية التخيير عرض عليهن رضي الله تعالى عنهن ذلك ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة رأس المحسنات إذ ذاك ، وكانت أحب أهله فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد } ( الأحزاب : 52 ) .
وعن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم أقبل عمر ثم استأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً قال : فقال لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال : «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة » ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول : لا تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً ، ثم نزلت هذه الآية { يا أيها النبي قل لأزواجك } ( الأحزاب : 28 ) حتى بلغ { للمحسنات منكن أجراً عظيماً } ( الأحزاب : 29 ) .
قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن الله لم يبعثني معنتاً ، ولكن بعثني معلماً ميسراً . قوله «واجماً » أي : مهتماً والواجم : الذي أسكته الهم ، وعلته الكآبة وقيل : الوجوم الحزن ، وقوله : فوجأت عنقها أي : دققته ، وقوله : لم يبعثني معنتاً العنت : المشقة والصعوبة ، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً ، قال الزهري : فأخبرني عروة عن عائشة قالت : فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل عليّ فقلت : يا رسول الله إنه مضى تسع وعشرون أعدهن فقال : «إن الشهر تسع وعشرون » .
تنبيه : اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويضاً للطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أو لا ، ذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم : إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى : { فتعالين أمتعكن وأسرحكن } ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : لا تعجلي حتى تستشيري أبويك ، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور ، وذهب آخرون : إلى أنه كان تفويض طلاق ، ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً .
واختلف العلماء في حكم التخيير : فقال عمر وابن مسعود وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي ، إلا أن عند أصحاب الرأي : أنه يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها .
وعند الآخرين : رجعية . وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة ، وإن اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن ورواية عن مالك ، وروي عن علي : أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة ، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء .
وعن مسروق قال : ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفاً بعد أن تختارني . قال الرازي : وهنا مسائل :
منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ، والجواب : أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ لرسالة لأن الله تعالى لما قال له : قل لهن صار من الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ، والظاهر أنه للوجوب .
ومنها : أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا : إنها لا تبين إلا بإبانة النبي صلى الله عليه وسلم فهل كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق أم لا ، الظاهر نظرا إلى منصب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجب لأن الخلف في الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم غير جائز ، بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد .
ومنها : أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا ، الظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا .
ومنها : أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها أم لا ، الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يباشره أصلاً ، لا بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب انتهى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.