معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } الآية . قال محمد بن كعب القرظي والكلبي : قالت قريش : يا محمد : إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصىً يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي شيء تحبون ؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً ، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل ؟ و أرنا الملائكة يشهدون لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا : نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين ، وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهباً فجاءه جبريل عليه السلام ، فقال له : اختر ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله عز وجل : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } ، أي : حلفوا بالله جهد أيمانهم ، أي : بجهد أيمانهم ، يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها .

قال الكلبي ومجاهد : إذا حلف الرجل بالله ، فهو جهد يمينه .

قوله تعالى : { لئن جاءتهم آية } ، كما جاءت من قبلهم من الأمم .

قوله تعالى : { ليؤمنن بها قل } يا محمد .

قوله تعالى : { إنما الآيات عند الله } ، والله قادر على إنزالها .

قوله تعالى : { وما يشعركم } ، وما يدريكم ، واختلفوا في المخاطبين بقوله { وما يشعركم } فقال بعضهم : الخطاب للمشركين الذين أقسموا . وقال بعضهم : الخطاب للمؤمنين . قوله تعالى : { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة ، وأبو بكر عن عاصم { إنها } بكسر الألف على الابتداء ، وقالوا : تم الكلام عند قوله { وما يشعركم } ، ثم من جعل الخطاب للمشركين قال : معناه : وما يشعركم أيها المشركون أنها لو جاءت آمنتم ؟ ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه : وما يشعركم أيها المؤمنون أنها لو جاءت آمنوا ؟ لأن المسلمين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى حتى يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم بقوله : { وما يشعركم } ، ثم ابتدأ فقال جل ذكره : { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } ، وهذا في قوم مخصوصين حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقرأ الآخرون : { أنها } بفتح الألف وجعلوا الخطاب للمؤمنين ، واختلفوا في قوله : { لا يؤمنون } ، فقال الكسائي : { لا } صلة ، ومعنى الآية : وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت المشركين يؤمنون ؟ كقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء :95 ] ، أي : يرجعون وقيل : إنها بمعنى لعل ، وكذلك هو في قراءة أبي ، تقول العرب : اذهب إلى السوق إنك تشتري شيئاً ، أي : لعلك ، وقال عدي بن زيد :

أعاذل ما يدريك أن منيتي *** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

أي : لعل منيتي ، وقيل : فيه حذف وتقديره : وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو لا يؤمنون ؟ وقرأ ابن عامر و حمزة { لا تؤمنون } بالتاء على الخطاب للكفار ، واعتبروا بقراءة أبي : إذا جاءتكم لا تؤمنون ، وقرأ الآخرون بالياء على الخبر ، دليلها قراءة الأعمش : { أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

{ 109 - 111 } { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }

أي : وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم . { بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : قسما اجتهدوا فيه وأكدوه . { لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم { لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } وهذا الكلام الذي صدر منهم ، لم يكن قصدهم فيه الرشاد ، وإنما قصدهم دفع الاعتراض عليهم ، ورد ما جاء به الرسول قطعا ، فإن الله أيد رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالآيات البينات ، والأدلة الواضحات ، التي -عند الالتفات لها- لا تبقي أدنى شبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به ، فطلبهم -بعد ذلك- للآيات من باب التعنت ، الذي لا يلزم إجابته ، بل قد يكون المنع من إجابتهم أصلح لهم ، فإن الله جرت سنته في عباده ، أن المقترحين للآيات على رسلهم ، إذا جاءتهم ، فلم يؤمنوا بها -أنه يعاجلهم بالعقوبة ، ولهذا قال : { قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : هو الذي يرسلها إذا شاء ، ويمنعها إذا شاء ، ليس لي من الأمر شيء ، فطلبكم مني الآيات ظلم ، وطلب لما لا أملك ، وإنما توجهون إلي توضيح ما جئتكم به ، وتصديقه ، وقد حصل ، ومع ذلك ، فليس معلوما ، أنهم إذا جاءتهم الآيات يؤمنون ويصدقون ، بل الغالب ممن هذه حاله ، أنه لا يؤمن ، ولهذا قال : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

ثم حكى القرآن بعض المقترحات المتعنتة التى كان يقترحها المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } .

الجهد : الوسع والطاقة من جهد نفسه يجهدها فى الأمر إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها فيه . وهو مصدر فى موضع الحال .

أى : وأقسم أولئك المشركون بالله مجتهدين فى أيمانهم ، مؤكدين إياها بأقصى ألوان التأكيد ، معلنين أنهم لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التى اقترحوها عليك يا محمد ليؤمنن بها أنها من عند الله وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك .

وقد لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الرد المفحم لهم فقال : { قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } .

أى : قل لهم يا محمد إن هذه الآيات التى اقترحتموها تعنتا وعنادا مردها إلى الله ، فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها حسب مشيئته وحكمته ، إن شاء أنزلها وإن شاء منعها ، أما أنا فليس ذلك إلىَّ .

أخرج ابن جرير - بسنده - عن محمد بن كعب القرظى قال : " كلم نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له ، يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا ضرب بها الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيى كان يحيى الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من هذه الآيات حتى نصدقك ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أى شىء تحبون أن آتيكم به " ؟ قالوا ، تجعل لنا الصا ذهبا ، فقال لهم " فإن فعلت تصدقونى " ؟ قالوا نعم . والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل فقال ، إن شئت أصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال صلى الله عليه وسلم " بل أتركهم حتى يتوب تائبهم " ، فأنزل الله - تعالى - قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } . إلى قوله ( ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) " .

وقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .

أى : وما يدريكم أيها المؤمنون الراغبون فى إنزال هذه الآيات طمعا فى إسلام هؤلاء المشركين أنها إذا جاءت لا يؤمنون أى : إذا جاءت هذه الآيات فأنا أعلم أنهم لا يؤمنون وأنتم لا تعلمون ذلك ولذا توقعتم إيمانهم ورغبتم فى نزول الآيات .

فالخطاب هنا للمؤمنين ، والاستفهام فى معنى النفى ، وهو إخبار عنهم بعدم العلم وليس للإنكار عليهم .

أى : إنكم إيها المؤمنون ليس عندكم شىء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذى لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءتهم الآيات التى يقترحونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعنتا وجهلا .

قال صاحب الكشاف : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } وما يدريكم { أَنَّهَآ } أى الآية التى تقترحونها { إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك ، وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون فى إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها ، فقال - عز وجل - وما يدريكم أنهم لا يؤمنون ، وقيل : إنها بمعنى " لعل " من قول العرب : ائت السوق أنك تشترى حماراً .

وقال امرؤ القيس .

عوجا على الطلل المحيل لأننا . . . نبكى الديار كما بكى ابن خذام

أى : لعلنا نبكى الديار .

وقرىء بكسر " إنها " على أن الكلام قد تم قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم ؟ ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة " .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم}، فمن حلف بالله فقد اجتهد في اليمين، وذلك أن كفار مكة حلفوا للنبي صلى الله عليه وسلم، {لئن جاءتهم آية} كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم، {ليؤمنن بها} ليؤمنن بالآية، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل إنما الآيات عند الله}، إن شاء أرسلها، وليست بيدي، {وما يشعركم} وما يدريكم {أنها إذا جاءت لا يؤمنون}، يعني لا يصدقون، لما سبق في علم الله من الشقاء.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: حلف بالله هؤلاء العادلون بالله جهد حلفهم، وذلك أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأصعبها وأشدّها:"لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ" يقول: قالوا: نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدّق ما تقول يا محمد مثل الذي جاء من قبلنا من الأمم "لَيُؤْمِنُنّ بِها "يقول: قالوا: لنصدقنّ بمجيئها بك، وأنك لله رسول مرسل، وأن ما جئتنا به حقّ من عند الله. وقيل: «ليؤمننّ بها»، فأخرج الخبر عن الآية، والمعنى لمجيء الآية. يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: "قُلْ إنّمَا الآيات عِنْدَ اللّهِ" وهو القادر على إتيانكم بها دون كلّ أحد من خلقه. "وَما يُشْعِرُكُمْ" يقول: وما يدريكم "أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ". وذكر أن الذين سألوه الآية من قومه هم الذين آيس الله نبيه من إيمانهم من مشركي قومه... "وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ".

اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ"؛ فقال بعضهم: خوطب بقوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ" المشركون المقسمون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمننّ، وانتهى الخبر عند قوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ" ثم استؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافاً مبتدأ... عن مجاهد، في قول الله: "وَما يُشْعِرُكُمْ" قال: ما يدريكم. قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون... وعلى هذا التأويل قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف: «إنّها» على أن قوله: «إنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ» خبر مبتدأ منقطع عن الأوّل...

وقال آخرون منهم: بل ذلك خطاب من الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قالوا: وذلك أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآية، المؤمنون به. قالوا: وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك أن المشركين حلفوا أن الآية أذا جاءت آمنوا، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا رسول الله ربك ذلك فسأل، فأنزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك، قل للمؤمنين بك يا محمد: إنما الآيات عند الله، وما يشعركم أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله أنهم لا يؤمنون به ففتحوا الألف من «أن»... وقد تأوّل قوم قرأوا ذلك بفتح الألف من: أنّها بمعنى: لعلها، وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبَيّ بن كعب. وقد ذُكر عن العرب سماعاً منها: اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئاً، بمعنى: لعلك تشتري... وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله، أعني قوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ"، وأن قوله «أنها» بمعنى: «لعلها».

وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب لاستفاضة القراءة في قرّاء الأمصار بالياء من قوله: "لا يُؤْمِنُونَ" ولو كان قوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ" خطاباً للمشركين، لكانت القراءة في قوله: "لا يُؤْمِنُونَ" بالتاء، وذلك وإن كان قد قرأه بعض قراء المكيين كذلك، فقراءة خارجة عما عليه قرّاء الأمصار، وكفى بخلاف جميعهم لها دليلاً على ذهابها وشذوذها.

وإنما معنى الكلام: وما يدريكم أيها المؤمنون لعلّ الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون فيعاجَلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك ولا يؤخَّروا به.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

وعدوا من أنفسهم الإيمان لو شاهدوا البرهان، ولم يعلموا أنهم تحت قهر الحكم، وما يُغْنِي وضوحُ الأدلة لمن لا تساعده سوابقُ الرحمة، ولواحق الحفظ بموجبات القسمة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما نصب سبحانه هذه الدلالات في هذه الآيات البينات حتى ختمها بما علم منهم من الإسراع إلى سب من أحسن إليهم بأن أوجدهم وأوجد لهم كل ما في الكون، وما من نعمة عليهم إلا وهي منه، عجب منهم في الوعد بالإيمان على وجه التأكيد بما يأتيهم من مقترحاتهم إعلاماً بأن ذلك مما زين لهم من عملهم، وهي أمنية كاذبة ويمين حانثة فقال عاطفاً على {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100] {وأقسموا} أي المشركون {بالله} أي الذي لا أعظم منه {جهد أيمانهم} أي باذلين فيها جهدهم حتى كأنها هي جاهدة، ووطأ للقسم فقال: {لئن جاءتهم آية} أي من مقترحاتهم، وتلقى القسم بقوله: {ليؤمنن بها}.

ولما كانوا بهذا ظالمين من أجل أنهم طلبوا من الرسول ما ليس إليه بعد إتيانه من المعجزات بما أزال معاذيرهم، وأوجب عليهم الاتباع، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: {قل} أي رداً لتعنتهم {إنما الآيات} أي هذا الجنس {عند الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال، وليس إليّ ولا إلى غيري شيء من هذا الجنس ليفيد الاقتراح شيئاً غير إغضابه.

ولما كان العبد لعجزه لا قدرة له على شيء أصلاً، فلا يصح له أن يحكم على آت أصلاً لا من أفعاله ولا من أفعال غيره، قال منكراً عليهم ملتفتاً إلى خطابهم إشارة إلى أنهم حقيقون بالمواجهة بالتبكيت: {وما} أي وأي شيء {يشعركم} أي أدنى شعور بما أقسمتم عليه من الإيمان عند مجيئها حتى يتوهموه أدنى توهم فضلاً عن الظن فكيف بالجزم ولا سيما على هذا الوجه! ثم علل الاستفهام بقوله مبيناً أنه لا فائدة في الإتيان بالآية المقترحة: {أنها} بالفتح في قراءة نافع وابن عامر وشعبة في رواية عنه وحفص وحمزة والكسائي، فكان كأنه قيل: أنكرت عليكم لأنها {إذا جاءت لا يؤمنون} بالخطاب في قراءة ابن عامر وحمزة، والالتفات إلى الغيبة في قراءة غيرهم للإعلام بأنهم بعيدون من الإيمان فهم أهل للإعراض عنهم لما استحقوا من الغضب، والتعليل عند من كسر "أنها "واضح.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} أي وأقسم أولئك المشركون المعاندون بالله أشد أيمانهم تأكيدا ومنتهى جهدهم ووسعهم مبالغة فيها، لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها أو مطلقا ليؤمنن بها أنها من عند الله للدلالة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون إيمانهم إيمانا به، أو ليؤمنن بما دعاهم إليه بسببها. {قل إنما الآيات عند الله} أي قل أيها الرسول إنما الآيات عند الله تعالى فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها، يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} [الرعد:38] ومشيئته، وكمال الأدب معه تعالى أن يفوض إليه الأمر في ذلك. وتقدم تحقيق المسألة في أوائل تفسير السورة...

{وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} أي أنكم ليس لكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبي الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءت الآية. والخطاب للمؤمنين الذين تمنوا مجيء الآية ليؤمنوا والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وقيل لهم وحدهم، ويؤيد الأول رواية دعائه بذلك ورواية طلبه القسم منهم ليؤمنن بها. وقد غفل من غفل من المفسرين عن كون الاستفهام إنكاريا نافيا لشعورهم بهذا الأمر الثابت عنده تعالى في علم الغيب فذهب إلى أن المعنى وما يشعركم أنهم يؤمنون إذا جاءت؟ فجعلوا النفي لغوا، وذهب بعضهم إلى أن « أنها» بمعنى لعلها، ونقلوا هذا عن الخليل وجاءوا عليه بشواهدَ هُمْ في غنى عنه وعنها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلاف عنه عن عاصم ويعقوب (إنها) بكسر الهمزة كأنه قال: وما يشعركم ما يكون منهم إذا جاءت وكأنهم قالوا ماذا يكون منهم؟ فأخبرهم بذلك قائلا: إنها إذا جاءت لا يؤمنون. وقرأ ابن عامر وحمزة « لا تؤمنون» بالخطاب للمشركين، وهو كسابقه التفات وتلوين.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم. {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: قسما اجتهدوا فيه وأكدوه. {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} وهذا الكلام الذي صدر منهم، لم يكن قصدهم فيه الرشاد، وإنما قصدهم دفع الاعتراض عليهم، ورد ما جاء به الرسول قطعا، فإن الله أيد رسوله صلى الله عليه وسلم، بالآيات البينات، والأدلة الواضحات، التي -عند الالتفات لها- لا تبقي أدنى شبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به، فطلبهم -بعد ذلك- للآيات من باب التعنت، الذي لا يلزم إجابته، بل قد يكون المنع من إجابتهم أصلح لهم، فإن الله جرت سنته في عباده، أن المقترحين للآيات على رسلهم، إذا جاءتهم، فلم يؤمنوا بها -أنه يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: هو الذي يرسلها إذا شاء، ويمنعها إذا شاء، ليس لي من الأمر شيء، فطلبكم مني الآيات ظلم، وطلب لما لا أملك، وإنما توجهون إلي توضيح ما جئتكم به، وتصديقه، وقد حصل، ومع ذلك، فليس معلوما، أنهم إذا جاءتهم الآيات يؤمنون ويصدقون، بل الغالب ممن هذه حاله، أنه لا يؤمن، ولهذا قال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف جملة: {وأقسموا} على جملة: {اتَّبِعْ ما أوحِي إليك من ربّك} [الأنعام: 106] الآية. والضّمير عائد إلى القوم في قوله: {وكذّب به قومك وهو الحقّ} [الأنعام: 66] مثل الضّمائر الّتي جاءت بعد تلك الآية ومعنى: {لئن جاءتهم آية} آية غيرُ القرآن. وهذا إشارة إلى شيء من تعلّلاتهم للتمادي على الكفر بعد ظهور الحجج الدّامغة لهم، كانوا قد تعلّلوا به في بعض تورّكهم على الإسلام...

والمراد بالآية ما اقترحوه على الرّسول صلى الله عليه وسلم يَعنُون بها خارق عادة تدلّ على أنّ الله أجاب مقترحهم ليصدّق رسوله عليه الصلاة والسّلام، فلذلك نُكّرت {آية}، يعني: أيَّةَ آية كانت من جنس ما تنحصر فيه الآيات في زعمهم. ومجيء الآية مستعار لظهورها لأنّ الشّيء الظّاهر يشبه حضور الغائب فلذلك يستعار له المجيء. وتقدّم بيان معنى الآية واشتقاقها عند قوله تعالى: {والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} في سورة [البقرة: 39].

ومعنى كون الآيات عند الله أنّ الآيات من آثار قدرة الله وإرادته، فأسباب إيجاد الآيات من صفاته، فهو قادر عليها، فلأجل ذلك شُبّهت بالأمور المدّخرة عنده، وأنّه إذا شاء إبرازَها أبرزها للنّاس، فكلمة {عند} هنا مجاز.

استعمل اسم المكان الشّديد القُرب في معنى الاستبداد والاستئثار مجازاً مرسلاً، لأنّ الاستئثار من لوازم حالة المكان الشّديد القرب عرفاً، كقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب} [الأنعام: 59].

والحصر ب {إنّما} ردّ على المشركين ظنّهم بأنّ الآيات في مقدور النّبيء صلى الله عليه وسلم إن كان نبيئاً فجعلوا عدم إجابة النّبيء صلى الله عليه وسلم اقتراحَهم آية أمارة على انتفاء نبوءته، فأمره الله أن يجيب بأنّ الآيات عند الله لا عند الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، والله أعلم بما يُظهره من الآيات...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

..تعكس هذه الآية صورة حيّة من صور أولئك الكافرين الذين رفضوا الإيمان كمبدأ، ولكنهم ما زالوا يحاولون تسجيل المواقف ضد الرسالة والرسول، من أجل الإيحاء للبسطاء من النّاس، بأنّهم ممن يبحثون عن الحقيقة من خلال البحث عن الدليل، ولذلك فإنهم يقدّمون الاقتراحات التي تطلب من الرسول أن يأتيهم بآيةٍ ليؤمنوا بها، تماماً كأيّ إنسان خالص النيّة، مفتوح العقل، فليس بينه وبين الإيمان إلاّ أن يرى الآية ليؤمن.. ولكنّ القرآن يطرح القضيّة بكل بساطة ليتساءل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فما هو الأساس في ذلك، وما هو الضمان؟ ولماذا يطرح القرآن هذا السؤال؟ لأن تاريخهم لا يوحي بمثل هذه الجديّة في طلب المعرفة من أجل الإيمان. فهل يملك النبيّ أمر تقديم آيةٍ يوميّةٍ، يغيّر فيها النظام المألوف للكون، لكل مقترح؟ وهل كانت المعجزات حاجةً شخصيةً لكل من يطلبها، أم أن أمر ذلك بيد الله، فهو الذي يحرّك الآيات في حركة النبوّات تبعاً لحكمته؟ ولماذا يريد هؤلاء الآية؟ أليؤمنوا؟ وهل يتوقف الإيمان على ذلك؟ إن النبي يقدّم لهم في القرآن آيةً تطرح التحدي، ويقدّم لهم المنهج العقلي الذي يريد للعقيدة أن تتحرك من مواقع التفكير، مما لو انطلقوا معه لاستطاعوا أن يصلوا إلى الحقيقة من أقرب طريق، فلماذا لم يفكروا في ذلك كله، ولماذا لم يدخلوا الحوار الهادئ الذي طرحه الرسول أمامهم كوسيلةٍ من وسائل الوصول إلى النتيجة الحاسمة في العقيدة؟. إن ذلك دليل على أنَّهم يحاولون القفز على المواقع، لينتقلوا من موقعٍ إلى موقعٍ تبعاً للحاجة، فإذا شعروا بأنهم مكشوفون في موقعٍ حاولوا أن ينتقلوا إلى موقعٍ آخر يختفون وراءه، ليسجلوا نقطةً هنا ونقطة هناك.