قوله تعالى : { قال } ، يعني ذا القرنين ، { هذا } أيظ : السد { رحمة } نعمة { من ربي فإذا جاء وعد ربي } ، قيل : القيامة . وقيل : وقت خروجهم . { جعله دكاء } ، قرأ أهل الكوفة { دكاء } بالمد والهمز ، أي : أرضاً ملساء ، وقرأ الآخرون بلا مد ، أي : جعله مدكوكاً مستوياً مع وجه الأرض ، { وكان وعد ربي حقاً } .
وروى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة يرفعه : أن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً فيعيده الله كما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله ، واستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه فيخرجون على الناس ، فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، فيرجع فيها كهيئة الدم ، فيقولون : قدرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ، فيبعث الله عليها نغفاً في أقفائهم فيهلكون ، وإن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكراً .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا محمد بن مهران الرازي ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه جبير بن نفير ، عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا ، فقال : ما شأنكم ؟ قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال ذات غداة فخفضت فيه ورفعت ، حتى ظنناه في طائفة النخل ، فقال : غير الدجال أخوفني عليكم ؟ إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، إنه شاب قطط عينه اليمنى طافية ، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج خلةً بين الشام والعراق ، فعاث يميناً وعاث شمالاً ، يا عباد الله ! فاثبتوا قلنا : يا رسول الله فما لبثه في الأرض ؟ قال : أربعون يوماً يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا ، اقدروا له قدره ، قلنا : يا رسول الله وما إسراعه في الأرض ؟ قال : كالغيث استدبرته الريح ، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له ، فيأمر السماء فتمطرا والأرض ، فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرىً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ، قال : فينصرف عنهم ، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، ويمر بالخربة ، فيقول لها : أخرجي كنوزك ، فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك ، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي باب دمشق ، بين مهرب ودستين ، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ ، فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لدً فيقتله ، ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرةً ماء ، ويحصر نبي الله وأصحابه ، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء ، ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض ، حتى يتركها كالزلفة . ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك ، وردي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ، ويستظلون بقحفها ، ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي ألفا من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبةً ، فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة " .
وبهذا الإسناد حدثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا علي بن حجر السعدي ، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، والوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بهذا الإسناد نحو ما ذكرنا " وزاد بعد قوله : لقد كان بهذه مرة ماء : ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس ، فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم إلى السماء ، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبةً دماً . وقال وهب : إنهم كانوا يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الخشب والشجر ، ومن ظفروا به من الناس ، ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا أحمد ، أنبأنا أبي ، أنبأنا إبراهيم عن الحجاج بن حجاج ، عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج " . وفي القصة : أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشهر زور . وذكر بعضهم : أن عمره كان نيفاً وثلاثين سنة .
{ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ْ } أي : من فضله وإحسانه عليَّ ، وهذه حال الخلفاء الصالحين ، إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة ، ازداد شكرهم وإقرارهم ، واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليه السلام ، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم ، قال : { هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ْ } بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض فإن النعم الكبار ، تزيدهم أشرا وبطرا .
كما قال قارون -لما آتاه الله من الكنوز ، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة- قال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ْ }
وقوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ْ } أي : لخروج يأجوج ومأجوج { جَعَلَهُ ْ } أي : ذلك السد المحكم المتقن { دَكَّاءَ ْ } أي : دكه فانهدم ، واستوى هو والأرض { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّاْ } .
ووقف ذو القرنين أمام هذا العمل العظيم ، مظهرا الشكر لله - تعالى - ، والعجز أمام قدرته - عز وجل - شأن الحكام الصادقين فى إيمانهم ، الشاكرين لخالقهم توفيقه إياهم لكل خير .
وقف ليقول بكل تواضع وخضوع لخالقه . . : { هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } .
أى : هذا الذى فعلته من بناء السد وغيره ، أثر من آثار رحمة ربى التى وسعت كل شئ .
{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } الذى حدده لفناء هذه الدنيا ونهايتها ، أو الذى حدده لخروجهم منه { جعله دكاء } أى : جعل هذا السد أرضا مستوية ، وصيره مدكوكا أى : بمساواة الأرض . ومنه قولهم : ناقة دكاء أى : لا سنام لها .
{ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } أى : وكان كل ما وعد الله - تعالى - به عباده من ثواب وعقاب وغيرهما ، وعدا حقا لا يتخلف ولا يتبدل ، كما قال - سبحانه - :
{ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
وبذلك نرى فى قصة ذى القرنين ما نرى من الدروس والعبر والعظات ، التى من أبرزها . أن التمكين فى الأرض نعمة يهبها الله لمن يشاء من عباده . وأن السير فى الأرض لإِحقاق الحق وإبطال الباطل من صفات المؤمنين الصادقين ، وأن الحاكم العادل من صفاته : ردع الظالمين عن ظلمهم ، والإِحسان إلى المستقيمين المقسطين ، والعمل على ما يجعلهم يزدادون استقامة وفضلا ، وأن من معالم الخلق الكريم ، أن يعين الإِنسان المحتاج إلى عونه ، وأن يقدم له ما يصونه عن الوقوع تحت وطأة الظالمين المفسدين ، وأن من الأفضل أن يحتسب ذلك عند الله - تعالى - . وألا يطلب من المحتاج إلى عونه أكثر من طاقته .
كما أن من أبرز صفات المؤمنين الصادقين : أنهم ينسبون كل فضل إلى الله - تعالى - وإلى قدرته النافذة ، وأنهم يزدادون شكرا وحمداً له - تعالى - كلما زادهم من فضله ، وما أجمل وأحكم أن تختتم قصة ذى القرنين بقوله - تعالى - : { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } .
ثم تسوق السورة الكريمة بعد قصة ذى القرنين آيات تذكر الناس بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتوبون ويتذكرون .
استمع إلى السورة الكريمة وهى تصور ذلك فتقول : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً . . . } .
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ، ولم تسكره نشوة القوة والعلم . ولكنه ذكر الله فشكره . ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه . وتبرأ من قوته إلى قوة الله ، وفوض إليه الأمر ، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا .
( قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء . وكان وعد ربي حقا ) . .
وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين . النموذج الطيب للحاكم الصالح ، يمكنه الله في الأرض ، وييسر له الأسباب ؛ فيجتاح الأرض شرقا وغربا ؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر ، ولا يطغى ولا يتبطر ، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي ، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان ، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق ؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه . . إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به ، ويساعد المتخلفين ، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل ؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح ، ودفع العدوان وإحقاق الحق . ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله ، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته ، وأنه راجع إلى الله .
وبعد فمن يأجوج ومأجوج ? وأين هم الآن ? وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون !
كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق ، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن ، وفي بعض الأثر الصحيح .
والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين : ( فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقا ) .
وهذا النص لا يحدد زمانا . ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار ، وانساحوا في الأرض ، ودمروا الممالك تدميرا .
وفي موضع آخر في سورة الأنبياء : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق . . . ) .
وهذا النص كذلك لا يحدد زمانا معينا لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد الحق بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول [ ص ] فجاء في القرآن : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر . فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون ، يراها البشر طويلة مديدة ، وهي عند الله ومضة قصيرة .
وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين : ( اقتربت الساعة ) ويومنا هذا . وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج .
وهناك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها حبيبة ، عن زينب بنت جحش - زوج النبي [ ص ] - قالت : استيقظ الرسول [ ص ] من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول : " ويل للعرب من شر قد اقترب . فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وحلق [ بإصبعيه السبابة والإبهام ] . قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ? قال " نعم إذا كثر الخبيث " .
وقد كانت هذه الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن . وقد وقعت غارات التتار بعدها ، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين . وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول [ ص ] وعلم ذلك عند الله . وكل ما نقوله ترجيح لا يقين .
جملة { قال هذا رحمة من ربي } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأنه لما آذن الكلام بانتهاء حكاية وصف الردم كان ذلك مثيراً سؤال من يسأل : ماذا صدر من ذي القرنين حين أتم هذا العمل العظيم ؟ فيجاب بجملة : { قال هذا رحمة من ربي } .
والإشارة بهذا إلى الرّدم ، وهو رحمة للناس لما فيه من ردّ فساد أمّة ياجوج وماجوج عن أمة أخرى صالحة .
و ( من ) ابتدائية ، وجعلت من الله لأنّ الله ألهمه لذلك ويسرّ له ما هو صعب .
وفرع عليه { فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً } نطقاً بالحكمة لأنه يعلم أن كل حادث صائر إلى زوال . ولأنه علم أن عملاً عظيماً مثل ذلك يحتاج إلى التعهد والمحافظة عليه من الانهدام ، وعلم أنّ ذلك لا يتسنى في بعض أزمان انحطاط المملكة الذي لا محيص منه لكلّ ذي سلطان .
والوعد : هو الإخبار بأمر مستقبل . وأراد به ما في علم الله تعالى من الأجل الذي ينتهي إليه دوام ذلك الردم ، فاستعار له اسم الوعد . ويجوز أن يكون الله قد أوحى إليه إن كان نبيئاً أو ألهمه إن كان صالحاً أن لذلك الردم أجلاً معيناً ينتهي إليه .
وقد كان ابتداء ذلك الوعد يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم « فُتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا ، وعقد بين أصبعيه الإبهام والسبابة » كما تقدم .
والدك في قراءة الجمهور مصدر بمعنى المفعول للمبالغة ، أي جعله مدكوكاً ، أي مسوّى بالأرض بعد ارتفاع . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف { جَعلهُ دَكّاءَ } بالمد . والدكاء : اسم للناقة التي لا سنام لها ، وذلك على التشبيه البليغ .
وجملة { وكان وعد ربي حقاً } تذييل للعلم بأنه لا بد له من أجل ينتهي إليه لقوله تعالى : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] و { لكل أمة أجل } [ يونس : 49 ] أي وكان تأجيل الله الأشياء حقاً ثابتاً لا يتخلف . وهذه الجملة بعمومها وما فيها من حكمة كانت تذييلاً بديعاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما فرغ ذو القرنين من بناء الردم: {قال هذا}، يعني: هذا الردم،
{رحمة}، يعني: نعمة، {من ربي}...
{فإذا جاء وعد ربي} في الردم، وقع الردم، فذلك قوله: {جعله دكاء}، يعني: الردم وقع، فيخرجون إلى أرض المسلمين،
{وكان وعد ربي حقا}، في وقوع الردم، يعني: صدقا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره: فلما رأى ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بني من الردم، ولا يقدرون عل نقبه، قال: هذا الذي بنيته وسوّيته حاجزا بين هذه الأمة، ومن دون الردم رحمة من ربي رحم بها من دون الردم من الناس، فأعانني برحمته لهم حتى بنيته وسوّيته ليكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم.
وقوله:"فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاء" يقول: فإذا جاء وعد ربي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم، "جعله دكاء"، يقول: سوّاه بالأرض، فألزقه بها، من قولهم: ناقة دكاء: مستوية الظهر لا سنام لها. وإنما معنى الكلام: جعله مدكوكا، فقيل: دكاء...
"وكانَ وَعْدُ رَبّي حَقّا "يقول: وكان وعد ربي الذي وعد خلقه في دكّ هذا الردم، وخروج هؤلاء القوم على الناس، وعيثهم فيه، وغير ذلك من وعده حقا، لأنه لا يخلف الميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قَالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَّبِّي} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن عمله رحمة من الله تعالى لعباده.
الثاني: أن قدرته على عمله رحمة من الله تعالى له...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والوعد: يحتمل أن يريد به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به وقت خروج يأجوج ومأجوج...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: فما قال حين أفرغه؟ قيل: {قال هذا} أي السد {رحمة من ربي} المحسن إليّ بإقداري عليه ومنع الفساد به، {فإذا جاء وعد ربي} بقرب قيام الساعة {جعله دكاء} بإقدراهم على نقبه وهدمه وتسهيل ذلك عليهم، والتعبير بالمصدر المنون في قراءة الجماعة للمبالغة في دكه هو الذي أشارت إليه قراءة الكوفيين بالمد ممنوعاً من الصرف.
ولما كان هذا أمراً مستعظماً خارقاً للعادة، علله بقوله: {وكان وعد ربي} الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج واختراقهم الأرض وإفسادهم لها ثم قيام الساعة {حقاً} كائناً لا محالة، فلذلك أعان على هدمه...
وقد ظهر أن ما تعنتوا به من قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين وما أدرج بينهما تبكيتاً لليهود الآمرين بذلك -دال من قصة موسى عليه السلام على قيام الساعة فصار كله أعظم ملزم لهم إن قبلوه، وأوضح فاضح لعنادهم إن تركوه.
ولما انقضى ما سألوا عنه على أحسن وجه في أبلغ سياق وأبدع تناسب، وأدرج في خلاله ما أدرج من التذكير والوعظ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والتبكيت للكاتمين لما عندهم من العلم، الناكبين عما استبان لهم من الطريق اللاحب والمنهج الواضح صنع القادر الحكيم الذي لا يستخفه ضجر فيستعجل، ولا يعيبه أمر فيستمهل، وختمه بما هو علم عظيم للساعة، ذكر ما يكون إذ ذاك وما يكون بعده إلى حصول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره؛ ولما كان ذلك أمراً عظيماً، دل عليه بالنون فقال عاطفاً على تقديره: فقد بان أمر ذي القرنين أي بيان، وصدق في قوله {فإذا جاء وعد ربي} فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاء فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... {فَإِذَا جَاء وَعْدُ ربِّي}... وهو يومُ القيامةِ لا خروجُ يأجوجَ ومأجوجَ كما قيل إذ لا يساعده النَّظْمُ الكريمُ، والمراد بمجيئه ما يَنتظِم مجيئَه ومجيءَ مَبادِيه مِن خروجِهم وخروجِ الدّجّالِ ونزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوِ ذلك لا دُنُوُّ وقوعِه فقط كما قيل، فإن بعضَ الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئِه حتماً... {جَعَلَهُ دَكَّاءَ}... وفيه بيانٌ لِعِظَمِ قدرتِه عزَّ وجلَّ بعد بَيانِ سَعَةِ رحمتِه
{وَكَانَ وَعْدُ ربّي} أي وَعْدُه المعهودُ أو كلُّ ما وَعَدَ به فيَدخُل فيه ذلك دخولاً أولياً {حَقّاً} ثابتاً لا محالةَ واقعاً البتّة، وهذه الجملةُ تذييلٌ من ذي القرنين لِمَا ذَكره مِن الجملة الشَّرطيّةِ ومُقرِّرٌ مُؤكِّدٌ لِمضمونِها وهو آخِرُ ما حُكِيَ من قصّته...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ْ} أي: من فضله وإحسانه عليَّ، وهذه حال الخلفاء الصالحين، إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم، واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليه السلام، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ْ} بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض فإن النعم الكبار، تزيدهم أشرا وبطرا. كما قال قارون -لما آتاه الله من الكنوز، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة- قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ْ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم. ولكنه ذكر الله فشكره. ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه. وتبرأ من قوته إلى قوة الله، وفوض إليه الأمر، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا. (قال: هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء. وكان وعد ربي حقا)...
. وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين. النموذج الطيب للحاكم الصالح، يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب؛ فيجتاح الأرض شرقا وغربا؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه.. إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق. ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله...
وبعد فمن يأجوج ومأجوج؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون! كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن، وفي بعض الأثر الصحيح...
لم يَفُتْ ذا القرنين وهو الرّجلُ الصّالُح أن يُسنِد النِّعمةَ إلى المُنْعِم الأوّلِ، وأن يَعترِف بأنه مجرّدُ واسطةٍ وأداةٍ لتنفيذ أمرِ الله: {قال هذا رحمةٌ مِن ربّي فإذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وكان وَعْدُ رَبِّي حَقّاً}: لأنني أخذتُ المُقَوِّماتِ التي منَحني اللهُ إياها، واستعْمَلْتُها في خِدمة عبادِه. الفِكْرُ مخلوقٌ لله، والطاقةٌ والقوّةُ مخلوقةٌ لله، الموادُّ والعناصرُ في الطبيعة مخلوقةٌ لله، إذن: فما لي أن أقول: أنا عَمِلْتُ كذا وكذا؟...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} فهو مكنني من الخير وهيَّأ لي الظروف وساعدني على مساندة الآخرين لي في ما أريد القيام به في خط المواجهة للمفسدين في الأرض، وفي مجابهة القوة العدوانية بالقوة العادلة.
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} وقامت القيامة، وزالت الجبال وتحولت إلى هباء...
{جَعَلَهُ دَكَّآءَ} فلا يبقى منه شيء، بل يتحول إلى تراب يطير مع الريح {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} لا ريب فيه، فهو أصدق من وعد، فلا مبدل لكلماته وهو اللطيف الخبير. وربما كان المراد من الوعد الحق، الزمن المحدد الذي يختص بهذا السد عند اقتراب الساعة، كما قد توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ* وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 9697]...