محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا} (98)

{ قَالَ هَذَا } أي السد { رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } على القاطنين عنده . لأمنهم من شر من سد عليهم به ، ورحمة على غيرهم ، لسد الطريق عليهم { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي } بدحره وخرابه { جَعَلَهُ دَكَّاء } بالمد أي أرضا مستوية ، وقرئ { دَكَّا } أي مدكوكا مستوى بالأرض . { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } أي كائنا لا محالة . وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين .

تنبيهات :

الأول : قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات والعبر والأحكام ، والآداب تجلت في سياق الوقائع ، ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات ، وما يستنبط من تلك الآيات . وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى . نذكر ما فتح علينا منها ، ونكل ما لم نحط به علما إلى العليم الخبير .

/ فمن فوائدها : الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض . ورزقه من يشاء بغير حساب ملكا ومالا . لماله من خفي الحكم وباهر القدرة . فلا إله سواه .

ومنها : الإشارة إلى القيام بالأسباب ، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل . وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس ، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار ، وركوب الأوعار والبحار ، ثم إحرازه ذلك الفخار ، الذي لا يشق له غبار ، أكبر عبرة لأولي الأبصار .

ومنها : تنشيط الهمم لرفع العوائق . وأنه ما تيسرت الأسباب ، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر ، عذرا في الخمول والرضاء بالدون . بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته ، حلاوة عقباه من الراحة والهناء . كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار : إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون .

ومنها : وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة . إذ من الخطأ التسويف فيه ؟ إلى الاكتهال . فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره . وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفتاء . فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم . كأنه القضاء المبرم . ولم يقف في وجهه عدد ولا عُدد . وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل . وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية وهو شاب . وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره كما دونه محققوا المؤرخين .

ومنها : أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم ، فلا ينبغي له أن تكسره لذة السلطة بسوقهم بعضا الإذلال ، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال . بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته . فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله : { قال أما من ظلم } إلى آخره ، نهاية في العدل وغاية الإنصاف .

/ ومنها : أن على الملك ، إذا اشتكى إليه جور مجاورين ، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن ، دفاعا عن الوطن العزيز ، وصيانة للحرية والتمدن ، من مخالب التوحش والخراب ، قياما بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين . كما لبى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد . وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار ، لرد غارات البرابرة ، وصد هجماتهم .

ومنها : أن على الملك التعفف عن أموال رعيته ، والزهد في أخذ أجرة ، في مقابلة عمل يأتيه ، ما أغناه الله عنه ، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته . كما يأبى الإسكندر تفضلا وتكرما .

ومنها : التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام . كقول الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم ، والشفقة عليهم { ما مكني فيه ربي خير } كقول سليمان { فما آتاني الله خير مما آتاكم } وقد قيل : إن دخل إسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية .

ومنها : تدعيم الأسوار والحصون في الثغور ، وتقويتها بذوب الرصاص وبوضع صفائح النحاس ، خلال الصخور الصم ، صدقا في العمل ونصحا فيه . لينتفع به على تطاول الأجيال . فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه .

ومنها : مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال ، تنشيطا لهمتهم وتجزئة لهم وترويحا لقلوبهم . وقد كان الإسكندر يقاسم الرجال الأتعاب ، ويدير العمل بنفسه ، كما بينه الذكر الحكيم في قوله : { ءاتوني أفرغ عليه قطرا } .

ومنها : تعريف ثمرة العمل المهم ، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره . ولذا قال : { هذا رحمة من ربي } .

/ ومنها : الإعلام بالدور الأخروي ، وانقضاء هذا الطور الأولي ، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمدي . ولذا قال : { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي } .

ومنها : الاعتبار بتخليد جميل الثناء ، وجليل الآثار . فإن من أنعم النظر فيما قص عنه في هذه الآيات الكريمة ، يتضح له جليا حسن سجاياه وسمو مزاياه . من الشجاعة وعلو الهمة والعفة والعدل . ودأبه على توطيد الأمن وإثباته المحسنين وتأديبه للظالمين . والإحسان إلى النوع البشري ، لاسيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة ، وحشية فاسدة .

ومنها : الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أمما متباينة . كما كان يرمي إليه سعي الإسكندر . فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد . وقد حكى أنه كان يجيش من كل أمة استولى عليها ، جيشا عرمرما ، يضيفه إلى جيشه المكدوني اليوناني . ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم ، لتوثيق عرى المحبة والارتباط ، وإزالة البغض والشحناء .

ومنها : الاعتبار بما يبلغه الإنسان ، وما فيه من بليغ الاستعداد . يقضي على المرء أن يعيش أولا طفلا مرضعا . لا يعلم ما حوله ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة ، قياما بما تقتضيه أسباب الحياة ، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له . وعرضة لأسقام تذيقه الآلام ، وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئا من هذا النظام . فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات ، وسرت بجسمه قوى الشبيبة ، وصرف ما أنعم الله عليه ، إلى ما خلق لأجله ، ترعرع إنسانا عظيما ظافرا بمنتهى أمله .

التنبيه الثاني : في ذي القرنين . اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر المقدوني وهو ابن فيليس ، وقال ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) في الكلام على الفلاسفة : من ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيليس وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن . بل بينهما قرون كثيرة وبينهما في الدين أعظم تباين . فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .

وكان يغزو عباد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها . وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج . وأما هذا المقدوني ، فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته . وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة . والنصارى تؤرخ له . وكان ارسطاطاليس وزيره . وكان مشركا يعبد الأصنام . انتهى كلامه .

وفيه نظر . فإن المرجع في ذلك هم أئمة التاريخ وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فيليس باني الإسكندرية بتسعمائة وأربعة وخمسين سنة قبل الهجرة ، وثلاثمائة واثنين وثلاثين سنة قبل ميلاد عيسى عليه السلام . وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا . وأما دعوى أنه كان مشركا يعبد الأصنام ، فغير مسلم ، وإن كان قومه وثنيين ، لأنه كان تلميذا لأرسطاطاليس . وقد جاء في ترجمته – كما في طبقات الأطباء وغيرها – أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر وأريد السعاية به إلى الملك . فلما أحس بذلك شخص عن أثينا . لأنه كره أن يبتلى أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراطيس معلم أفلاطون . فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم . وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام . وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها . فثوروا عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله . فأودعه السجن ليكفيهم عنه . ثم لم يرض المشركون إلا بقتله . فسقاه السم خوفا من شرهم ، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم . كما في ( طبقات الأطباء وتراجم الفلاسفة ) فالوثنية ، وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم ، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يهاجرون به أو يكتمونه . كالنجاشي ملك الحبشة . فإن جاهر بالإيمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وشعبه وأهل مملكته كلهم نصارى . وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله . فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد . قال القاضي صاعد : كان فيثاغورس – أستاذ سقراط – يقول ببقاء النفس وكونها ، فيما بعد ، في ثواب أو عقاب على رأي الحكماء الإلهيين . فتأمل قوله ( على رأي الحكماء الإلهيين ) يتحقق ما ذكرناه .

وأما قول الفخر الرازي : ( إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالا قويا . وهو أنه كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه ، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بان مذهب أرسطاطاليس حق وصدق . وذلك مما لا سبيل إليه ) فلا يخفى دفع هذا اللزوم . فإن من كان تابعا لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله ، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه . إذ يقوم فيه من الخلال والمزايا ما لا يوجد في متبوعه . وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلدا . أفلا يمكن أن يكون حرا في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق . ومن آتاه الله من الملك ما آتاه ، أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه ؟ هذا على فرض أن متبوعه مذموم . وقد عرفت أن متبوعه ( أعني أرسطاطاليس ) ، كان موحدا . وهو معروف في التاريخ لا سترة فيه . على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات ، وكفى بها كمالا . وللرازي فرص يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف لمذهبهم ، وهذه منها . وإن صبغها – سامحه الله – في هذا الأسلوب . عرف ذلك من عرف .

التنبيه الثالث : اختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين . فقيل لأنه طاف قرني الدنيا . يعني جانبيها شرقها وغربها . أو لأنه كان له قرنان أي ضفيرتان . أو لأنه ملك الروم وفارس . قال الزمخشري : ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته ، كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه .

أقول : هذا اللقب من الكناية عن كل ذي قوة وبأس وسلطان . لأن ذا القرون من المواشي أقواها وأشدها . والكناية بالقرن عن القوة والسلطان معروفة عند اليهود ، الذين هم السائلون . وقد وقع في توراتهم في نبوة دانيال عليه السلام قوله عن الملك : ( فإذا أنا بكبش واقف عند النهر . وله قرنان ) ثم قوله : { ( وبينما كنت متأملا إذا بتيس معز قد أقبل من المغرب على وجه الأرض كلها . وللتيس قرن عجيب المنظر بين عينيه ) قالوا : القرن هنا رمز إلى القوة والسلطان . والتيس رمز إلى مملكة اليونان . وقرنه رمز إلى أول ملك على هذه المملكة وهو الإسكندر الكبير . وما أشار إليه من سرعة مسير هذا التيس إيماء إلى كثرة ما دهم البلاد به من الغارات المتواصلة . وقوله : ( خرج من المغرب ) إشارة إلى خروجه من مكدونية ، التي هي إلى غرب فارس ، وذلك حين تقدم على جيوش داريوس وكسره . وتعقبه إلى داخل مملكته ، والقصد أن هذا اللقب ( ذو القرنين ) شهير وليس من أوضاع العرب خاصة ، كما زعمه بعضهم . بل هو معروف عند العبرانيين أيضا . وقد يظهر أنه من رموزهم الخاصة التي سرت إلى العرب ، وأقرتهم عليها .

التنبيه الرابع : قال الرازي : اختلفوا في ذي القرنين . هل كان من الأنبياء أم لا ؟ منهم من قال : إنه كان نبيا . واحتجوا عليه بوجوه :

الأول : قوله : { إنا مكنا له في الأرض } والأولى حمله على التمكين في الدين . والتمكين الكامل في الدين هو النبوة .

الثاني : قوله : { و آتيناه من كل شيء سببا } ومن جملة الأشياء النبوة . فمقتضى العموم في قوله : { و آتيناه من كل شيء سببا } هو أنه تعالى آتاه من النبوة سببا .

الثالث : قوه تعالى : { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا } والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبيا .

ومنهم من قال : إنه كان عبدا صالحا وما كان نبيا . انتهى .

ثم قال الرازي بعد : يدل قوله تعالى : { قلنا يا ذا القرنين } على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة . وذلك يدل على أنه كان نبيا . وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء – فهو عدول عن الظاهر . انتهى .

ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته . لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص . وأما تعمق الجري وراء العمومات ، لاستفادة مثل ذلك ، فغير مقنع .

وأما قوله تعالى : { قلنا يا ذا القرنين } فقدمنا أنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم . لا أنه قول مشافهة . وإلا لو كان ذلك لكان مخيرا منه تعالى وملقنا ما يفعل بهم . فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر . ولا يقال إن الأصل في الإطلاق الحقيقة . لأنا نقول به ، ما لم يمنع منه مانع ، من نحو ما ذكرناه . وللتنزيل الكريم أسلوب خاص ، عرفه من أنعم النظر في بديع بيانه . نعم . لو كان مراد القائل بنبوته أنه من الملهمين – ذهابا في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع ، ومن الإلهام ، لكان قريبا . فتكون نبوته من القسم الثاني وهو الإلهام . ويطلق الصوفية على مثله الوارد . وجاء في الحديث تسمية صاحبه محدثا . وإطلاق النبوة عليه ، وإن كان محظورا في الإسلام ، إلا أنه كان معروفا قبله في العباد الأخيار .

التنبيه الخامس : حكى في قوله تعالى : { ويسئلونك عن ذي القرنين } قولان في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم . ورجح الأول من وجهين :

أولهما : أن للإسكندر عند اليهود شانا وقدرا . وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس ، خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة . فدخلها إسكندر وسمع نبوة التوراة فسر وأحسن إلى اليهود . وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان ، ولم يروها أحد من مؤرخيهم .

/ ثانيهما : أن عنوان ( ذو القرنين ) من رموز الإسرائيليين كما قدمناه عنهم .

التنبيه السادس : قالوا : المراد ب ( العين الحمئة ) البحر المحيط . وتسميته عينا لكونه بالنسبة لعظم قدرته تعالى ، كقطرة . وإن عظم عندنا . قالوا : رأى الشمس في منظره تغرب في البحر . وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله ، يراها كأنها تغرب فيه . وهي لا تفارق فلكها .

وللإمام ابن حزم عليه الرحمة – رأي آخر في الآية . ذكره في كتاب ( الملل ) في بحث كروية الأرض قال : ذو القرنين هو كان في العين الحمئة الحامية كما تقول ( رأيتك في البحر ) تريد أنك إذا رأيته كنت أنت في البحر . وبرهان هذا أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل . ومقدار ما بين أول مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت من رأس السرطان – مرئي مشاهد . ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك . وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسي أقل من مقدار السدس . يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيف . وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم ( عين ) البتة . لاسيما أن تكون ( عينا حمئة ) حامية . وباللغة العربية خوطبنا . فلما تيقنا أنها ( عين ) بإخبار الله عز وجل ، الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، علمنا يقينا أن ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة . وانقطع له إمكان المشي بعدها لاعتراض البحار له هنالك . وقد علمنا بالضرورة أن ذا القرنين وغيره من الناس ، ليس يشغل من الأرض إلا مقدار مساحة جسمه فقط . قائما ، أو قاعدا أو مضطجعا . ومن هذه صفته ، فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض ، بمقدار مكان المغارب كلها ، لو كان مغيبها في عين من الأرض . كما يظن أهل الجهل ، ولا بد من أن يلقى خط بصره من حدبة الأرض ، ومن نشز من أنشازها ، ما يمنع الخط من التمادي ، إلا أن يقول قائل : إن تلك العين هي البحر . فلا يجوز أن يسمى البحر لا في اللغة ( عينا حمئة ) ولا حامية . وقد أخبر الله عز وجل أن الشمس تسبح في الفلك . وأنها إنما هي من الفلك سراج . وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يتناقض . فلو غابت في عين من الأرض ، كما يظن أهل الجهل ، أو في البحر ، لكانت الشمس قد زالت عن السماء وخرجت عن الفلك ، وهذا هو الباطل . فصح يقينا ، بلا شك ، أن ذا القرنين كان هو في العين الحمئة والحامية ، حين انتهى إلى آخر البر في المغارب . لا سيما مع ما قام البرهان عليه ، من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض . وبرهان آخر قاطع وهو قوله تعالى : { وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما } فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس . انتهى كلام ابن حزم .

التنبيه السابع : قال الرازي : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال . وقيل : جبلان بين أرمينية وأذربيجان . وقيل : هذا المكان في منقطع أرض الترك . وحكى محمد بن جرير الطبري في ( تاريخه ) أن صاحب أذربيجان ، أيام فتحها ، وجه إنسانا إليه من ناحية الخزر . فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع ، وراء خندق عميق وثيق منيع .

وذكر ابن خرداد في كتاب ( المسالك والممالك ) أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم ، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه . فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد ، مشدود بالنحاس المذاب ، وعليه باب مقفل . ثم إن ذلك الإنسان ، لما حاول الرجوع ، أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند .

قال أبو الريحان : مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة . والله أعلم بحقيقة الحال . انتهى كلام الرازي .

وقال الإمام ابن حزم في ( الملل والنحل ) جزء أول صحيفة ( 120 ) في تنفيذ دعوى اليهود أن الجنة التي أهبط منها آدم في الأرض ، ما مثاله . فإن قيل : ذكر في القرآن سد يأجوج ومأجوج . ولا يدري مكانه ولا مكانهم . قلنا : مكانه معروف في أقصى الشمال / في آخر المعمورة منه . وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى . وقد ذكر يأجوج ومأجوج والسد أرسطاطاليس في كتابه في ( الحيوان ) عند كلامه على الغرانيق . وقد ذكر سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه المسمى ( جغرافيا ) وذكر طول بلادهم وعرضها . وقد بعث إليه الواثق أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه . ذكر ذلك أحمد بن الطيب السرخسي وغيره . وقد ذكره قدامة بن جعفر والناس . فهيهات خبر من خبر . وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد ، فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه ، لما ضر ذلك خبرنا شيئا . لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها ، وبعدها كما هو في الجهة الشمالية . بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة ، والهواء كهواء بعض البلاد التي يوجد فيها النبات والتناسل . واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان ، فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان – فهو كاذب مبطل جاهل ، أو مجاهل . لا سيما إذا أخبره به من قد قام البرهان على صدق خبره . وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل . فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذب مفتر . ونعوذ بالله من البلاء . انتهى كلام ابن حزم .

وقال بعض المحققين : اعلم أنه كثيرا ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال . وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا . فإذا سلم أن سد ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن ، فربما كان ذلك ناشئا من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره . ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة . أما قوله تعالى : { هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء } فمعناه أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه . تمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم ، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أن مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير ، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله . ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم ، فلا هذا السد ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة ، لحظة واحدة أمام قدرة الله . بل يدكها جمعاء دكا في لمح البصر . فمراد ذي القرنين بهذا القول تنبيه لتلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد ، أو الإعجاب والغرور بقوتهم . فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله . فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم القيامة ، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت كان ، وكان هذا السد موجودا ، دكه الله دكا . وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى . كالزلازل إذا قدم عهده . وكالثورات البركانية كما قلنا . وليس في الآية ما ينافي ذلك . وأما قوله تعالى : { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض ، كما يخرج الشيء المحبوس أو المضغوط إذا انفجر . واستعمال لفظ ( الفتح ) مجازا شائع في اللغة . ومنه قولك : ( فتحوا البلاد ) وقوله تعالى : { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } فليس للأشياء أبواب . وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم . بل هم من كل حدب ينسلون . والغالب أن المراد بخروجهم هذا ، خروج المغول والتتار ، وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري . وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض ، بعد أن انتشروا فيها ، من الإفساد والنهب والقتل والسبي . والراجح أن السد كان موجودا بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا ، بين مدينتي دربند وخوزار . فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم ، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة ب ( السد ) وبه موضع يسمى ( باب الحديد ) وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب ( بجبل قاف ) وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم . ويظنون أنه في نهاية الأرض . وذلك بحسب ما عرفوه منها . ومن ورائه قبيلتا يأجوج ومأجوج . انتهى .

وجاء في ( صفوة الاعتبار ) أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس ، هو سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين . فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلا ، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما ، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما . وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما . وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إليه أربعين قدما . بني لرد الهجمات على المملكة الصينية الأصلية ، من المغول والقبائل الشمالية . والسور الآن خراب في جهات كثيرة . فإن كان هو المراد بالسد في الآية ، لزم حمل الصفات المذكورة فيه ، من كونه من زبر الحديد ، ومفرغا عليه النحاس ، على بقاع من ذلك السور . والصدفان حينئذ طرفان من ذلك السور . كما تؤول صفات يأجوج ومأجوج ، إلى ما يصح إطلاقها به على التتر والمنشورية . ويكون وعد الله الذي يدك فيه السد هو قرب الساعة . ولا شك أنها قربت بإعلام الشارع . وحينئذ يكون الفساد الموعود به في النصوص من أولئك القوم ، هو ما وقع من التتر من الفساد في المماليك . كما في عهد جنكزخان ، وما عثاه هو وأصحابه في الدنيا والله أعلم . انتهى .

وجاء في الجغرافية العمومية ، في المقالة السابعة والأربعين في تخطيط آسيا ، بلاد القوقاسيين أي أهالي كوه قاف ، أي جبل قاف : إن في تلك الأقطار يمتد هذا الجبل كالسور العظيم . وفيه مجازان يسميان عند القدماء الأبواب القوقازية والأبواب الألبانية . فالمجاز الأول هو الأبواب القوقازية هو الذي كان يخشى منه هجوم المتبربرين على كل من دولة الرومانيين والعجم . ثم إن الحصن الذي كان يسد هذا المجاز يسمى بأسماء مختلفة عند القدماء . وأما أبواب الألبانية فأشهر الآراء فيها أنها مجاز دربند . على امتداد بحر الخزر .

ثم قال : هناك حكاية مشهورة بين أهالي ( كوه قاف ) تقتضي أن هذا الجبل كان مسدودا بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين ، وهذا السد العظيم تارة يعزى للإسكندر ، وتارة الأنو شروان ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن ، ترى لمن يروم ذلك .

التنبيه الثامن – قال أبو البقاء : يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان ، لم ينصرفا للعجمة والتعريف . ويجوز همزهما وترك همزهما . وقيل : هما عربيان . ف ( يأجوج ) يفعول مثل يربوع . ( ومأجوج ) مفعول مثل معقول . وكلاهما من ( أج الظليم ) إذ أسرع . أو من ( أجت النار ) إذا التهبت . ولم ينصرفا للتعريف والتأنيث – أي للقبيلة كالمجوس . فالكلمتان من أصل واحد من الاشتقاق . وعلى العجمة ، لا يؤتى تصريفه . ولا يعتبر وزنه إلا بتقدير كونه عربيا ، كما في ( تذكرة أبي علي ) .

قال الرازي : واختلفوا في أنهم من أي الأقوام ؟ فقيل : إنهما من الترك . وقيل : يأجوج من الترك ، ومأجوج من الجبل والديلم . ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة . انتهى .

وقال بعض المحققين : كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز ، والمعروف عند العرب ب ( جبل قاف ) ، في إقليم داغستان ، قبيلتان . تسمى إحداهما ( أقوق ) ، والثانية ( ماقوق ) فعربهم العرب ب ( يأجوج ومأجوج ) وهما معروفان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب . ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا .

التنبيه التاسع – توسع من لم يشترط الصحة ولا الحسن في مصنفاته من الرواة ، في تخريج ما روي عن يأجوج ومأجوج . وكله إما من الإسرائيليات أو المنكرات أو الموضوعات . ومن ذلك حديث ( إن يأجوج أمة ومأجوج أمة . وكل أمة أربعمائة ألف أمة . لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه . كل قد حمل السلاح إلخ ) . رواه ابن العدي في ( الضعفاء ) عن حذيفة مرفوعا . وقال : موضوع منكر ، ومحمد بن إسحاق العكاشي كذاب يضع ، وقد أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه .

وقال الحافظ ابن جرير هاهنا ، عن وهب بن منبه ، أثرا طويلا عجيبا ، في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له . وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم .

وروى أبي حاتم عن أبيه في ذلك ، أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها . انتهى .

فجزى الله البخاري أحسن الجزاء ، على نبذه تلك الروايات ، واشتراطه الصحة في المرويات ، فقد جنت الآثار المنكرة على الأمة أنكر الآثار . ومن طالع مقدمة ( صحيح مسلم ) صدق قوله : ( أن راوي الضعاف غاش آثم مضل ) وبالله المستعان .