السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا} (98)

ثم إنه قيل فما قال حين فراغه قيل : { قال هذا } أي : السد يعني الإقدار عليه { رحمة } أي : نعمة { من ربي } أي : المحسن إليّ بإقداري عليه ومنع العادية { فإذا جاء وعد ربي } بقرب قيام الساعة أو بوقت خروجهم { جعله دكاً } أي : مدكوكاً مبسوطاً ، روي أنهم يخرجون على الناس فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون : قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسوة وعلواً ، فيبعث اللّه تعالى عليهم نغفاً في رقابهم ، وفي رواية في آذانهم فيهلكون ، قال صلى الله عليه وسلم «فو الذي نفسي بيده إنّ دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكراً » أخرجه الترمذي ، قوله قسوة وعلواً أي : غلظة وفظاظة وتكبراً ، والنغف دود يخرج في أنوف الإبل والغنم ، وقوله : وتشكر من لحومهم شكراً يقال : شكرت الشاة شكراً حين امتلأ ضرعها لبناً ، والمعنى أنها تمتلئ أجسادها لحماً وتسمن ، وعن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة من النخل فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا فقال : " ما شأنكم " قلنا : يا رسول اللّه ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : " غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه واللّه خليفتي على كل مسلم وإنه شاب قطط أي : شديد الجعودة ، وقيل : حسن الجعودة عينه طافية أي : بارزة ، وقيل : مخسوفة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج من حلة بين الشام والعراق فعاث أي : أفسد يميناً وعاث شمالاً يا عباد اللّه فاثبتوا " قلنا : يا رسول اللّه وما مكثه في الأرض قال : " أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيام كأيامكم " قلنا : يا رسول اللّه فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا أقدروا له قدره أي : واليوم الثاني والثالث كذلك ، وسكت عن ذلك للعلم به من الأوّل ، قلنا : يا رسول اللّه وما إسراعه في الأرض قال : «كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت درّاً واسعة ضروعها وأملأها خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردّون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، ويمرّ بالخربة فيقول لها : أخرجي كنزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شاباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث اللّه المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق بين مهرودتين أي : حلتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه حتى يدركه بباب لد قرية بالشام قريبة من الرملة فيقتله ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم اللّه منه فيمسح عن وجوههم ويخبرهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه تعالى إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فجوّز عبادي إلى الطور ويبعث يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقول : لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبي اللّه وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه تعالى فيرسل اللّه تعالى عليهم النغف في رقابهم وهو بالتحريك دود يكون في أنوف الإبل والغنم كما مرّ واحدتها نغفة فيصبحون فرساً أي : قتلى الواحد فريس ، ثم يهبط نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه رممهم ونتنهم فيرغب نبيّ اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل اللّه تعالى عليهم طيراً كأعناق البخت فتحملهم حيث شاء اللّه تعالى ، ثم يرسل اللّه تعالى مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة وهي بالتحريك جمعها زلف مصانع الماء ، ويجمع على المزالف أيضاً أي : فتصير الأرض كأنها مصنعة من مصانع الماء ، وقيل كالمرآة ، وقيل الزلفة الروضة ، وقيل بالقاف أيضاً ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل وهو بتحريك الراء والسين من الإبل والغنم من عشرة إلى خمسة وعشرين حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس وهو مهموز الجماعة الكثيرة واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه تعالى عليهم ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيهاتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة { وكان وعد ربي } الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج وإحراقهم الأرض وإفسادهم لها قرب قيام الساعة { حقاً } كائناً لا محالة فلذلك أعان تعالى على هدمه " هذا آخر حكاية ذي القرنين . وفي القصة أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشيرزور وذكر بعضهم أنّ عمره كان نيفاً وثلاثين سنة ، سبحان من يدوم عزه وبقاؤه ، ثم إنه تعالى قال عاطفاً على ما تقديره فقد بان أمر ذي القرنين أيّ بيان وصدق في قوله : { فإذا جاء وعد ربي } فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاً فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال .