{ أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } أي : ما الذي فضله علينا ، حتى ينزل الذكر عليه من دوننا ، ويخصه اللّه به ؟ وهذه أيضا شبهة ، أين البرهان فيها على رد ما قاله ؟ وهل جميع الرسل إلا بهذا الوصف ، يَمُنُّ اللّه عليهم برسالته ، ويأمرهم بدعوة الخلق إلى اللّه ، ولهذا ، لما كانت هذه الأقوال الصادرة منهم لا يصلح شيء منها لرد ما جاء به الرسول ، أخبر تعالى من أين صدرت ، وأنهم { فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي } ليس عندهم علم ولا بينة .
فلما وقعوا في الشك وارتضوا به ، وجاءهم الحق الواضح ، وكانوا جازمين بإقامتهم على شكهم ، قالوا ما قالوا من تلك الأقوال لدفع الحق ، لا عن بينة من أمرهم ، وإنما ذلك من باب الائتفاك منهم .
ومن المعلوم ، أن من هو بهذه الصفة يتكلم عن شك وعناد ، إن قوله غير مقبول ، ولا قادح أدنى قدح في الحق ، وأنه يتوجه عليه الذم واللوم بمجرد كلامه ، ولهذا توعدهم بالعذاب فقال : { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي : قالوا هذه الأقوال ، وتجرأوا عليها ، حيث كانوا ممتعين في الدنيا ، لم يصبهم من عذاب اللّه شيء ، فلو ذاقوا عذابه ، لم يتجرأوا .
ثم صرحوا فى نهاية المطاف بالسبب الحقيقى الذى حال بينهم وبين الإِيمان ، ألا وهو الحقد والحسد ، وإنكار أن يختص الله تعالى رسوله من بينهم بالرسالة ، فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا ؟ . . . } .
والاستفهام للإِنكار والنفى . أى : يف يدعى محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد نزل عليه القرآن من بيننا ، ونحن السادة الأغنياء العظماء ، وهو دوننا فى ذلك ؟ إننا ننكر وننفى دعواه النبوة من بيننا .
قال صاحب الكشاف : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم ، كما قالوا : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } وهذا الإِنكار ترجمة عما كانت تغلى به صدورهم من الحسد على ما أوتى من شرف النبوة من بينهم .
ولقد حكى القرآن أحقادهم هذه على النبى صلى الله عليه وسلم فى آيات كثيرة ورد عليها بما يبطلها ومن ذلك قوله - تعالى - :
{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ . . . } ولقد صرح أبو جهل بهذا الحسد للنبى صلى الله عليه وسلم فعندما سأله سائل ، أتظن محمدا على حق أم على باطل ؟ كان جوابه : إن محمد لعلى حق ولكن متى كنا لبنى هاشم تبعا . أى : متى كانت أسرتنا تابعة لبنى هاشم ! !
وفى رواية أنه قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسى رهان ، قالوا : منا نبى يأتيه الوحى من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصرفه .
وقوله - سبحانه - : { بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } إضراب عن كلام يفهم من السياق . وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم من أذى .
أى : هؤلاء الجاحدون الحاقدون لم يقطعوا برأى فى شأنك - أيها الرسول الكريم - وفى شأن ما جئتهم به ، ولم يستندوا فى أقوالهم إلى دليل أو ما يشبه الدليل ، وإنما هم فى شك من هذا القرآن الذى أيدناك به ، بدليل أنك تراهم يصفونك تارة بالسحر ، وتارة بالكهانة ، وتارة بالشعر ، ولو عقلوا وأنصفوا لآمنوا بك وصدقوك .
وقوله - سبحانه - : { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } إضراب عن مجموع الكلامين السابقين المشتملين على الحسد والشك .
أى : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - من مسالكهم الخبيثة ، وأقوالهم الفاسدة . فإنهم ما فعلوا ذلك إلا أنهم لم يذوقوا عذابى بعد ، فإذا ذاقوه زال حسدهم وشكهم ، وتيقنوا بأنك على الحق المبين ، وهم على الباطل الذى لا يحوم حوله حق .
وفى التعبير بقوله { لما } إشارة إلى أن نزول العذاب هبم وتذويقهم له ، قريب للحصول .
وقد مضوا بعد هذا يعجبون من اختياره [ صلى الله عليه وسلم ] ليكون رسولاً :
( أأنزل عليه الذكر من بيننا ? ) . .
وما كان في هذا من غرابة . ولكنه كان الحسد . الحسد الذي يدعو إلى العناد والمكابرة والشقاق .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، أنه حدث ، أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يصلي من الليل في بيته . فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً . ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوه أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض . لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك . ثم تفرقوا . . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . فقال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به كذلك ! قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه في بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ? فقال : ماذا سمعت ? تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه ! فقام عنه الأخنس وتركه . .
فهو الحسد كما نرى . يقعد بأبي جهل عن الاعتراف بالحق الذي غالب نفسه عليه فغلبته ثلاث ليال ! هو الحسد أن يكون محمد قد بلغ إلى ما لا مطمع فيه لطامع . وهو السر في قولة من كانوا يقولون :
( أأنزل عليه الذكر من بيننا ? ) . .
وهم الذين كانوا يقولون : ( لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) . . يقصدون بالقريتين مكة والطائف ، وفيهما كان كبراء المشركين وعظماؤهم الحاكمون المسودون ؛ الذين كانوا يتطلعون إلى السيادة عن طريق الدين ، كلما سمعوا أن نبياً جديداً قد أطل زمانه . والذين صدموا صدمة الحسد والكبر حينما اختار الله - على علم - نبيه محمداً [ صلى الله عليه وسلم ] وفتح له من أبواب رحمته وأفاض عليه من خزائنها ما علم أنه يستحقه دون العالمين .
ويرد على تساؤلهم ذاك رداً تفوح منه رائحة التهكم والإنذار والتهديد :
( بل هم في شك من ذكري . بل لما يذوقوا عذاب ) . .
إنهم يسألون : ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ! ) . . وهم في شك من الذكر ذاته ، لم تستيقن نفوسهم أنه من عند الله ؛ وإن كانوا يمارون في حقيقته ، وهو فوق المألوف من قول البشر مما يعرفون .
ثم يضرب عن قولهم في الذكر ، وعن شكهم فيه ، ليستقبل بهم تهديداً بالعذاب ، ( بل لما يذوقوا عذاب ) . . وكأنما ليقول : إنهم يقولون ما يقولون لأنهم في منجاة بعد من العذاب ؛ فأما حين يذوقونه فلن يقولوا من هذا شيئاً ، لأنهم حينئذ سيعرفون !
وقولهم : { أَأُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } يعني : أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم كما قالوا في الآية الأخرى : { لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] قال الله تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الزخرف : 32 ] ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم ، قال الله تعالى : { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي : إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله ونقمته سيعلمون غب ما قالوا ، وما كذبوا به يوم يُدَعّون إلى نار جهنم دَعّا .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَاُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكّ مّن ذِكْرِي بَل لّمّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين من قريش : أأُنزل على محمد الذكر من بيننا فخُصّ به ، وليس بأشرف منا حسبا . وقوله : بَلْ هُمْ فِي شَكّ مِنْ ذِكرِي يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء المشركين أن لا يكونوا أهل علم بأن محمدا صادق ، ولكنهم في شكّ من وحينا إليه ، وفي هذا القرآن الذي أنزلناه إليه أنه من عندنا بَلْ لَمّا يَذُوقُوا عَذَابِ يقول بل لم ينزل بهم بأسنا ، فيذوقوا وبال تكذيبهم محمدا ، وشكهم في تنزيلنا هذا القرآن عليه ، ولو ذاقوا العذاب على ذلك علموا وأيقنوا حقيقة ما هم به مكذّبون ، حين لا ينفعهم علمهم أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العَزِيزِ الوَهّابِ يقول تعالى ذكره : أم عند هؤلاء المشركين المنكرين وحي الله إلى محمد خزائن رحمة ربك ، يعني مفاتيح رحمة ربك يا محمد ، العزيز في سلطانه ، الوهاب لمن يشاء من خلقه ، ما يشاء من مُلك وسلطان ونبوّة ، فيمنعوك يا محمد ، ما منّ الله به عليك من الكرامة ، وفضّلك به من الرسالة .
ثم قالوا على جهة التقرير من بعضهم لبعض ، ومضمن ذلك الإنكار : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } بمعنى نحن الأشراف الأعلام ، فلم خص هذا ؟ وكيف يصح هذا ؟ فرد الله تعالى قولهم بما تقضيه بل ، لأن المعنى ليس تخصيص الله وإنعامه جار على شهواتهم ، { بل هم في شك من ذكري } أي في ريب أن هذا التذكير بالله حق ، ثم توعدهم بقوله : { بل لما يذوقوا عذاب } أي لو ذاقوه لتحققوا أن هذه الرسالة حق ، أي هم لجهالتهم لا يبين لهم النظر ، وإنما يبين لهم مباشرة العذاب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين من قريش: أأُنزل على محمد الذكر من بيننا فخُصّ به، وليس بأشرف منا حسبا.
وقوله:"بَلْ هُمْ فِي شَكّ مِنْ ذِكرِي" يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين أن لا يكونوا أهل علم بأن محمدا صادق، ولكنهم في شكّ من وحينا إليه، وفي هذا القرآن الذي أنزلناه إليه أنه من عندنا.
"بَلْ لَمّا يَذُوقُوا عَذَابِ "يقول بل لم ينزل بهم بأسنا، فيذوقوا وبال تكذيبهم محمدا، وشكهم في تنزيلنا هذا القرآن عليه، ولو ذاقوا العذاب على ذلك علموا وأيقنوا حقيقة ما هم به مكذّبون، حين لا ينفعهم علمهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يدل على أنهم قد رأوا أن من أنزل عليه الذكر من السماء، إنما ينزل لفضل وخصوصية، لكن إنما رأوا الفضل والخصوصية لأنفسهم لما لهم الفضل في الدنيا، فلم يروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك أنكروا إنزال الذكر عليه دونهم، ولذلك قالوا: {لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]...
{بل هم في شك من ذكري}:... الشك هو الذي لا يوجب القطع على شيء، بل يوجب الوقف ويبطل القطع على شيء. فكيف قطعتم على الرد والإنكار دون أن تقفوا فيه؟
{بل لما يذوقوا عذاب} يحتمل أن يكون هذا على الإخبار عن الإياس من إيمانهم أنهم لا يؤمنون حتى يذوقوا العذاب كقوله: {إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون} {ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96/97]...
وقال مقاتل: اللام زائدة كأنه قال {بل هم في شك من ذكري} بل ما ذاقوا عذابي. يذكر سفههم في ردهم الذكر وتكذيبهم إياه على الشك منهم، ثم فيه الدلالة على أن الحجج والبراهين قد تلزم من جهل الحقيقة ولم تتحقق عنده؛ إذا كانت تسأل التحقق لها والوقوف عليها بالتأمل والنظر فيها، وإن كانت لم تتحقق عنده بالبديهة وعند قرعها سمعه، فهو حجة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لو استبصروا في دينهم لَمَا أَقدموا على ما أسرفوا فيه من جحودهم، ولولا أَنَّا أَدَمْنا لهم العوافيَ لَماَ تَفَرَّغُوا إلى طغيانهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم كما قالوا: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوّة من بينهم {بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ} من القرآن، يقولون في أنفسهم: إما وإما. وقولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق} كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد حينئذ، يعني: أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه.
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لأولئك الكفار وهي الشبهة المتعلقة بالنبوات، وهي قولهم: إن محمدا لما كان مساويا لغيره في الذات والصفات والخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة، فكيف يعقل أن يختص هو بهذه الدرجة العالية والمنزلة الشريفة؟...
{بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب} فيه وجهان:
أحدهما: {بل هم في شك من ذكري} أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم، فحيث لم يعرفوا ذلك كان لأجل أنهم تركوا النظر والاستدلال...
وثانيها: {بل هم في شك من ذكرى} النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر، ثم إنهم أصروا على الكفر، ولم ينزل عليهم العذاب، فصار ذلك سببا لشكهم في صدقه...
{بل لما يذوقوا عذاب} معناه أن ذلك الشك إنما حصل بسبب عدم نزول العذاب.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم: {إن هذا إلا اختلاق}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان مرادهم بهذه التأكيدات الدلالة على أنهم في غاية الثبات على ما كانوا عليه قبل دعائه، وأبى الله أن يبقى باطلاً بغير إمارة يقرنه بها تفضحه، وسلطان يبطله ويهتكه، أتبع ذلك حكاية قولهم الذي جعلوه دليلاً على حرمهم، فكان دالاً على عدم صدقهم في هذا الحكم الجازم غاية الجزم بالاختلاق المنادى عليهم بأن أصل دائهم والحامل لهم على تكذيبهم إنما هو الحسد، فقال دالاً بتعبيرهم بالإنزال على أنه صلى الله عليه وسلم كان جديراً بأن يتوهم فيه النبوة بما كان له قبل الوحي من التعبد والأحوال الشريفة، وقدموا ما يدل على اختصاصه عناداً لما يعلمون من أحواله المقتضية للخصوصية بخلاف ما يذكر في القمر، وعبروا بحرف الاستعلاء إشارة إلى أن مثل هذا الذي يذكره لا يقوله إلا من غلب على عقله فقالوا: {أءنزل عليه} أي خاصة.
{الذكر} أي الذي خالف ما نحن عليه وصار يذكر به، وزادوا ما دلوا به على الاختصاص تصريحاً فقالوا: {من بيننا} ونحن أكبر سناً وأكثر شيئاً، وهذا كله كما ترى مع مناداته عليهم بالحسد العظيم ينادي عليهم غاية المناداة بالفضيحة؛ لأنه إن كان المدار على رعاية حق الآباء حتى لا يسوغ لأحد تغيير دينهم والطعن عليهم بدين محدث، وإن قامت عليه الأدلة وتعاضدت على حقيته البراهين فما لآبائهم غيروا دين آبائهم؛ لأجل ما أحدثه عمرو بن لحي -شخص ليس من قبيلتهم، وشهدوا على آبائهم بالضلال وهم عالمون بأن ما غيروه دين إسماعيل ومن قبله إبراهيم ومن تبعهما من صالحي أولادهما عليهم السلام، وإن كان المدار على المحدث حتى ساغ تغيير دين الأنبياء ومن تبعهم بإحسان عليهم السلام بما أحدثه عمرو بن لحي فما لهم لا يغيرون ما ابتدع من الضلال بما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم وسموه محدثاً.
وإن كان المدار على الحق فما لهم لا ينظرون الأدلة ويتبعون الحجج. ولما كان هذا دالاًّ على أنهم ليسوا على ثقة مما جزموا به قال: {بل} أي إنهم ليسوا جازمين بما قالوا وإن أكدوه غاية التأكيد، بل {هم في شك} أي تردد محيط بهم مبتدئ لهم
{من ذكري} أي فلهذا لا يثبتون فيه على قول واحد، أي إن أحوالهم في أقوالهم وأفعالهم أحوال الشاك، وعدل عن مظهر العظمة إلى الإفراد لأن هذا السياق للتوحيد فالإفراد أولى به وليكون نصاً على المراد بعد ذكر آلهتهم قطعاً لشبه متعنتيهم.
ولما كانوا في الحقيقة على ثقة من حقيقته وإن كان قولهم وفعلهم قول الشاك قال: {بل} أي ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك.
ولما كانوا قد جرت لهم مصائب ومحن، وشدائد وفتن، ربما: ظنوا أنه لا يكون شيء من العذاب فوقها، نفى أن يكونوا ذاقوا شيئاً من عذابه الذي يرسله عند إرادة الانتقام، فعبر بما يفيد استغراق النفي في جميع الزمن الماضي فقال: {لما يذوقوا} من أول أمرهم إلى الآن.
{عذاب} أي الذي أعددته للمكذبين فهم في عزة وشقاق، ولو ذاقوه لانحلت عرى عزائمهم، وصاروا أذل شيء وأحقره أدناه وأصغره! وإطباق أهل الرسم وأكثر القراء على حذف يائه رسماً وقراءة؛ إشارة إلى أنه العذاب الأدنى المذهب لحمية الجاهلية، وإثبات يعقوب وحده لها في الحالين؛ إشارة إلى أنه العذاب المعد لإهلاك الأمم الطاغية لا مطلق العذاب...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{بَل لمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ}... في لمَّا دلالةٌ على أنَّ ذوقَهم على شرف الوقوع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن يكون {أأنزِلَ عليه الذكر من بيننا} من كلام عموم الكافرين المحكي بقوله: {وقال الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كذَّابٌ} فيكون متصلاً بقوله: {أجعَلَ الآلِهة إلها واحداً} ويكون قوله {أءُنزلَ عليه الذكرُ} بياناً لجملة {كَذَّابٌ}، لأن تقديره: هذا كذّاب إذ هو خبر ثان ل (كان)، ولكونه بياناً للذي قبله لم يعطف عليه، ويكون ما بينهما من قوله: {وانطلق الملأُ منهم} إلى قوله: {إن هذا إلا اختلاقٌ} اعتراضاً بين جملتي البيان.
ويجوز أن يكون من تمام كلام الملأ واستغني به عن بيان جملة {كَذَّابٌ} لأن نطق الملأ به كافٍ في قول الآخرين بموجَبه فاستغنوا عن بيان جملة {كذابٌ}
والاستفهام إنكاري، ومناط الإِنكار هو الظرف {من بيننا} وهو في موضع حال من ضمير {عليه}، ولم يريدوا بهذا الإِنكار تجويز أصل الرسالة عن الله وإنما مرادهم استقصاء الاستبعاد فإنهم أنكروا أصل الرسالة، وهذا الأصل الثاني من أصول كفرهم التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {أجعل الآلهة إلها واحداً}، وهو أصل إنكار بعثه رسول منهم.
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} يجوز أن يكون هذا جواباً عن قولهم: {أءُنزِلَ عليه الذكر من بيننا} أي ليس قصدهم الطعن في اختصاصك بالرسالة ولكنهم شاكُّون في أصل إنزاله، فتكون {في شَكّ من ذِكري} شكّاً من وقوعه... والشك يطلق على اليقين مجازاً مرسلاً بعلاقة الإِطلاق والتقييد.
ويجوز أن يكون انتقالاً من خبر عنهم إلى خبر آخر فيكون استئنافاً وتكون {بل} للإِضراب الانتقالي، والمعنى: وهم في شك من ذكري، أي في شك من كنه القرآن، فمرة يقولون: افتراه، ومرة يقولون: شعر، ومرة: سحر، ومرة: أساطير الأولين، ومرة: قول كاهن. فالمراد بالشك حقيقتهُ أي التردد في العلم.
وإضافة الذكر إلى ضمير المتكلم وهو الله تعالى إضافة تشريف، ولتحقيق كونه من عند الله.
والذكر على هذا الوجه هو عين المراد من قوله: {أءُنزل عليه الذكر} وإنما وقع التعبير عنه بالظاهر دون الضمير توصلاً إلى التنويه به بأنه من عند الله.
{في} للظرفية المجازية، جُعلت ملابسة الشك إياهم بمنزلة الظرف المحيط بمحويه في أنه لا يخلو منه جانب من جوانبه.
{مِن} في قوله: {مِن ذِكري} ابتدائية لكون الشك صفة لهم، أي نشأ لهم الشك من شأن ذكري أي من جانب نفي وقوعه، أو في جانب ما يصفونه به.
إضافة {عذاب} إلى ياء المتكلم لاختصاصه بالله؛ لأنه مُقدِّره وقاض به عليهم ولوقوعه على حالة غير جارية على المعتاد؛ إذ الشأن أن يستأصل الجيش القوي الجيشَ القليل، وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً للفاصلة، وأبقيت الكسرة دليلاً عليها وهو حذف كثير في الفواصل والشعر على نحو حذفها من المنادَى.
{أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ}
هذه نَقْلة أخرى في جدالهم وتكذيبهم لرسول الله، فقبل ذلك كانوا يعترضون على بشرية الرسول، ويطلبون أنْ يكون الرسول مَلَكاً، والآن يتنازلون عن هذا المبدأ ويتحوَّلون إلى الذات، كما قال تعالى في موضع آخر: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
يعني: لماذا محمد بالذات، وفينا أناس عظماء وسادة كانوا أَوْلَى منه بالرسالة؟ وهنا قالوا: {أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} لذلك الحق سبحانه يرد عليهم
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] فجعل نبوته صلى الله عليه وسلم رحمة بهم.
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32].
يعني: كيف تتدخلون في هذه المسألة الهامة، تريدون أنْ تقسموا رحمة الله، والله هو الذي قَسَم لكم أمور الدنيا الهيِّنة، فجعل منكم سادة وعبيداً وأغنياء وفقراء.. إلخ إنْ كان الحق سبحانه هو الذي ينظم لكم أبسطَ أمور حياتكم، فكيف تطمعون في أنْ تقسموا أنتم فضل الله ورحمته؟
{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وذلك فَضْل الله يؤتيه مَنْ يشاء.
وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} الذكْر هنا يعني القرآن، وكأن الحق سبحانه وتعالى يُسلِّي رسوله ويطيب خاطره، كما خاطبه في موضع آخر بقوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام.33]
والمعنى: لا تحزن يا محمد. فقومك لا يُكذِّبونك أنت إنما يُكذِّبون ما جئتَ به من الذكر، فأنت عندهم الصادق الأمين الذي لا غبارَ عليه، يعني المسألة ليست متعلقة بك وبشخصك أنت، إنما متعلقة بي أنا، فكأن الله تعالى حملها عن رسوله ليُطمئنه ويُسلِّيه ويُخفِّف عنه ما يلاقي من عناد قومه له.
وقوله سبحانه: {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} هذا لون من ألوان التهديد، يعني: لن يظلوا على هذه الحال من السلامة والنجاة فعذابهم قادم؛ ذلك لأن (لما) تفيد نَفْي الحدث في الماضي مع إثبات حدوثه في المستقبل، تقول: فلان لم يأْتِ يعني في الماضي وقد لا يأتي في الحاضر والمستقبل، إنما فلان لمَّا يَأْتي يعني: لم يأت في الماضي، وسوف يأتي في الحاضر أو المستقبل، فمعنى {لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} يعني: حتى الآن لم ينزل بهم عذاب الله، لكن ينزل لا محالة.