قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } ، أي : أن يبين لكم ، كقوله تعالى : { وأمرت لأعدل بينكم } [ الشورى :15 ] أي : أن أعدل ، وقوله : { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } [ الأنعام :71 ] . وقال في موضع آخر { وأمرت أن أسلم } [ غافر :66 ] . ومعنى الآية : ( يريد الله أن يبين لكم ) ، أي : يوضح لكم شرائع دينكم ، ومصالح أموركم ، قال عطاء : يبين لكم ما يقربكم منه ، قال الكلبي : يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم .
قوله تعالى : { ويهديكم } ، ويرشدكم .
قوله تعالى : { سنن } ، شرائع .
قوله تعالى : { الذين من قبلكم } ، في تحريم الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، فإنها كانت محرمة على من قبلكم ، وقيل : ويهديكم الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام . قوله تعالى : { ويتوب عليكم } ، ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ، وقيل : يرجع بكم من المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته ، وقيل : يوفقكم للتوبة .
قوله تعالى : { والله عليم } بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم .
{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا }
يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة ، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي : جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل ، والحلال والحرام ، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم ، في سيرهم الحميدة ، وأفعالهم السديدة ، وشمائلهم الكاملة ، وتوفيقهم التام . فلذلك نفذ ما أراده ، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم ، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل .
{ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي : يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا{[206]} من الوقوف على ما حده الله ، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده .
ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه ، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له . فله الحمد والشكر على ذلك .
وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : كامل الحكمة ، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، ومنها هذه الأشياء والحدود . ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه ، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة .
وبعد أن بين - سبحانه - فيما سبق من آيات كثيراً من الأوامر والنواهى والمحرمات والمباحات . . عقب ذلك ببيان جانب من مظهر فضله على عباده ورحمته بهم فقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله . . . . ضَعِيفاً } .
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 26 ) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ( 27 ) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ( 28 )
قوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } استئناف مقرر لما سبق من الأحكام ، وقد ساقه - سبحانه - لإِيناس قلوب المؤمنين حتى يمتثلوا عن اقتناع وتسليم لما شرعه الله لهم من أحكام .
قال الآلوسى : ومثل هذا التركيب - قوله { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } . وقع فى كلام العرب قديما وخرجه النحاة على مذاهب :
فقيل مفعول { يُرِيدُ } محذوف أى : يريد الله تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه . واللام للتعليل . . . نسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين .
فتعلق الإِرادة غير التبيين ، وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف .
وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك ، كما قيل به فى قولهم : " تسمع بالمعيدى خير من أن تراه " أى إرادتى كائنة للتبين . وفيه تكلف .
وذهب الكوفيون إلى أن اللام هى الناصبة للفعل من غير إضمار أن ، وهى وما بعدها مفعول للفعل المقدم أى : يريد الله البيان لكم .
والمعنى : يريد الله - تعالى - بما شرع لكم من أحكام ، وبما ذكر من محرمات ومباحات أن يبين لكم ما فيه خيركم وصلاحكم وسعادتكم ، وأن يميز لكم بين الحلال والحرام والحسن والقبيح .
وقوله : { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } معطوف على ما قبله .
والسنن : جمع سنة وهى الطريقة وفى أكثر استعمالها تكون للطريقة المثلى الهادية إلى الحق .
أى : ويهديكم مناهد وطرائق من تقدمكم من الأنبياء والصالحين ، لتقتفوا آثارهم وتسلكوا سبيلهم .
وليس المراد أن جميع ما شرعه من حلال أو من حرام كان مشروعا بعينه للأمم السابقة . بل المراد أن الله كما قد شرع للأمم السابقة من الأحكام ما هم فى حاجة إليه وما اقتضته مصالحهم ، فكذلك قد شرع لنا ما نحن فى حاجة إليه وما يحقق مصالحنا ، فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة فى ذاتها إلا أنها متفقة فى باب المصالح .
وقوله : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } معطوف على ما قبله .
والتوبة معناها : ترك الذنب مع الندم عليه والعزم على عدم العود ، وذلك مستحيل فى حقه - سبحانه - لذا قالوا : المراد بها هنا المغفرة لتسببها عنها . أو المراد بها قبول التوبة .
أى : ويقبل توبتكم متى رجعتم إليه بصدق وإخلاص ، فقد تكفل - سبحانه - لعباده أن يغفر لهم خطاياهم متى تابوا إليه توبة صادقة نصوحا وفى التعبير عن قبول التوبة بقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } إشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب ، ومنع لكشفها ، فهى غطاء على المعاصى يمنعها من الظهور حتى يذهب تأثيرها فى النفس :
فالآية الكريمة تحريض على التوبة ، لأن الوعد بقبولها متى كانت صادقة يغرى الناس .
بطرق بابها وبالإِكثار منها . .
وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أى والله - تعالى - ذو علم شامل لجميع الأشياء ، فيعلم أن ما شرع لكم من أحكام مناسب لكم ، وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم ، ومتى تكون توبة أحدكم صادقة ومتى لا تكون كذلك { حَكِيمٌ } يضع الأمور فى مواضعها . فيبين لمن يشاء ، ويهدى من يشاء ، ويتوب على من يشاء .
فأنت ترى أن هذه الآية قد بينت جانبا من مظاهر فضل الله ورحمته بعباده ، حيث كشفت للناس أن الله - تعالى - يريد بإنزاله لهذا القرآن أن يبين لهم التكاليف التى كلفهم بها ليعرفوا الخير من الشر ، وأن يرشدهم إلى سبل من تقدمهم من أهل الحق ، وأن يغفر لهم ذنوبهم متى أخلصوا له التوبة .
ثم يجيء التعقيب الشامل على تلك الأحكام ؛ وعلى تلك التنظيمات التي شرعها الله للأسرة في المنهج الإسلامي ، ليرفع بها المجتمع المسلم من وهدة الحياة الجاهلية ؛ وليرفع بها مستواه النفسي والخلقي والاجتماعي إلى القمة السامقة النظيفة الوضيئة التي رفعه إليها . يجيء التعقيب ليكشف للجماعة المسلمة عن حقيقة ما يريده الله لها بهذا المنهج وبتلك الأحكام والتشريعات والتنظيمات ؛ وعن حقيقة ما يريده بها الذين يتبعون الشهوات ويحيدون عن منهج الله :
( يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم ، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا ) . .
إن الله - سبحانه - يتلطف مع عباده ؛ فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم ، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر . إنه يكرمهم - سبحانه - وهو يرفعهم إلى هذا الأفق . الأفق الذي يحدثهم فيه ، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم ؛ وليقول لهم : إنه يريد : أن يبين لهم . .
يريد الله ليكشف لكم عن حكمته ؛ ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة ، وأن تتدبروها ، وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب ؛ فهي ليست معميات ولا ألغازا ؛ وهي ليست تحكما لا علة له ولا غاية ؛ وأنتم أهل لإدراك حكمتها ؛ وأهل لبيان هذه الحكمة لكم . . وهو تكريم للإنسان ، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم .
( ويهديكم سنن الذين من قبلكم ) . .
فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعا . وهو منهج ثابت في أصوله ، موحد في مبادئه ، مطرد في غاياته وأهدافه . . هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد . ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون .
بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان ؛ ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان ؛ ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول ، في الطريق اللاحب الطويل . وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه . . إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله ، تجمعها آصرة المنهج الإلهي ، على اختلاف الزمان والمكان ، واختلاف الأوطان ؛ والألوان وتربطها سنة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل ، ومن كل قبيل .
فهو - سبحانه - يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ليرحمكم . . . ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل ، والتوبة من المعصية . ليمهد لكم الطريق ، ويعينكم على السير فيه . .
فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات . ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات . العلم بنفوسكم وأحوالكم . والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم . والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء . .
يخبر تعالى أنه يُريدُ أن يبين لكم - أيها المؤمنون - ما{[7153]} أحل لكم وحرم عليكم ، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها ، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : طرائقهم الحميدة واتباع{[7154]} شرائعه التي يحبها ويرضاها { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي من الإثم{[7155]} والمحارم ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله .
{ يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } حلاله وحرامه ، { وَيهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يقول وليسددكم سنن الذين من قبلكم ، يعني : سبل من قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه ومناهجهم ، فيما حرم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات ، وسائر ما حرم عليكم في الاَيتين اللتين بين فيهما ما حرم من النساء . { ويَتُوبَ عَلَيْكُمْ } يقول : يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك مما كنتم عيه من معصيته في فعلكم ذلك قبل الإسلام ، وقبل أن يوحي ما أوحى إلى نبيه من ذلك عليكم ، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم . { وَاللّهُ عَلِيمٌ } يقول : والله ذو علم بما يصلح عباده في أديانهم ودنياهم ، وغير ذلك من أمورهم ، وبما يأتون ويذرون ما أحلّ أو حرّم عليهم حافظ ذلك كله عليهم ، حكيم بتدبيره فيهم في تصريفهم فيما صرفهم فيه .
واختلف أهل العربية في معنى قوله : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } فقال بعضهم : معنى ذلك ، يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم ، وقال : ذلك كما قال : { وَأُمِرْتُ لاِءَعْدِلَ بَيْنُكُمْ } بكسر اللام ، لأن معناه : أمرت بهذا من أجل ذلك .
وقال آخرون : معنى ذلك : يريد الله أن يبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم¹ وقالوا : من شأن العرب التعقيب بين كي ولام كي وأن ، ووضع كل واحدة منهنّ موضع كل واحدة من أختها مع أردت وأمرت ، فيقولون : أمرتك أن تذهب ولتذهب ، وأردت أن تذهب ولتذهب ، كما قال الله جلّ ثناؤه : { وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ } ، وقال في موضع آخر : «وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوّلَ مَن أسْلَمَ » ، وكما قال : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ } ، ثم قال في موضع آخر : { يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا } واعتلوا في توجيههم «أن » مع «أمرت » و«أدت » إلى معنى «كي » وتوجيه «كي » مع ذلك إلى معنى «أن » لطلب «أردت » و«أمرت » الاستقبال ، وأنها لا يصلح معها الماضي ، لا يقال : أمرتك أن قمت ولا أردت أن قمت . قالوا : فلما كانت «أن » قد تكون مع الماضي في غير «أردت » و«أمرت » ، ذكروا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال ، من «كي » واللام التي في معنى «كي »¹ قالوا : وكذلك جمعت العرب بينهنّ أحيانا في الحرف الواحد ، فقال قائلهم في الجمع :
أرَدْتَ لِكَيْما أنْ تَطِيرَ بِقِرْبَتِي ***فَتَتْرُكَهَا شَنّا بِبَيْدَاءَ بَلْقَعِ
فجمع بينهنّ لاتفاق معانيهنّ واختلاف ألفاظهنّ ، كما قال الاَخر :
ذ المَالَ الهِدانُ الجافِي ***بغير لا عَصْفٍ ولا اصْطِرَافِ
فجمع بين «غير » و«لا » ، توكيدا للنفي¹ قالوا : وإنما يجوز أن يجعل «أن » مكان كي ، وكي مكان أن في الأماكن التي لا يصحب جالب ذلك ماض من الأفعال أو غير المستقبل¹ فأما ما صحبه ماض من الأفعال وغير المستقبل فلا يجوز ذلك . لا يجوز عندهم أن يقال : ظننت ليقوم ، ولا أظنّ ليقوم ، بمعنى : أظنّ أن يقوم ، لأن التي تدخل مع الظن تكون مع الماضي من الفعل ، يقال : أظنّ أن قد قام زيد ومع المستقبل ومع الأسماء .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال : إن اللام في قوله : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } بمعنى : يريد الله أن يبين لكم¹ لما ذكرت من علة من قال إن ذلك كذلك .
اختلف النحاة في اللام من قوله : { ليبين } فمذهب سيبويه رحمه الله : أن التقدير «لأن يبين » والمفعول مضمر ، تقديره : يريد الله هذا ، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلا بد فيهما من تقدير «أن » لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون : اللام نفسها بمنزلة «أن » وهو ضعيف ، ونظير هذه اللام قول الشاعر : [ الطويل ]
أريدُ لأنسى ذكرَها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[3966]}
وقال بعض النحاة : التقدير إرادتي لأنسى . { ويهديكم } بمعنى : يرشدكم ، لا يتوجه غير ذلك ، بقرينة السنن ، وال { سنن } : الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا ، وليس ذلك كذلك ، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين ، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهياً وأمراً ، كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدينا سننهم في ذلك ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم ، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة{[3967]} .
والذين من قبلنا : هم المؤمنون في كل شريعة ، وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له ، وحسن { عليم } هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح و { حكيم } أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يريد الله ليبين لكم}: أن يبين لكم، {ويهديكم سنن الذين من قبلكم}: شرائع هدى من كان قبلكم من المؤمنين من تحريم النسب والصهر، {ويتوب عليكم}: ويتجاوز عنكم من نكاحكم، يعني تزويجكم إياهن من قبل التحريم، {والله عليم حكيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ} حلاله وحرامه. {وَيهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: وليسددكم سنن الذين من قبلكم، يعني: سبل من قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه ومناهجهم، فيما حرم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وسائر ما حرم عليكم في الآيتين اللتين بيّن فيهما ما حرم من النساء. {ويَتُوبَ عَلَيْكُمْ}: يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك مما كنتم عيه من معصيته في فعلكم ذلك قبل الإسلام، وقبل أن يوحي ما أوحى إلى نبيه من ذلك عليكم، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم. {وَاللّهُ عَلِيمٌ}: والله ذو علم بما يصلح عباده في أديانهم ودنياهم، وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذرون ما أحلّ أو حرّم عليهم حافظ ذلك كله عليهم، حكيم بتدبيره فيهم في تصريفهم فيما صرفهم فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يريد الله ليبين لكم} يحتمل قوله: {يريد الله} أن يبين لكم ما تؤتون وما تتقون، وما لكم وما عليكم، ويبين ما به صلاحكم ومعاشكم في أمر دينكم... {ويهديكم سنن الذين من قبلكم} يحتمل وجوها: أي يبين لكم سبيل الذين من قبلكم، أي سبيل الأنبياء والرسل عليهم السلام وهم أهل الهدى والطاعة منهم، ليعملوا ما عملوا هم وينتهوا عما انتهوا... ويحتمل: قوله: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: أمر الرسالة والنبوة؛ ليهديكم مُحَمَّد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وهو رسول؛ إذ أمر الرسالة والنبوة ليس ببديع، قد كان في الأمم السالفة رسل وأنبياء -عليهم السلام- فأمر رسالة مُحَمَّد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ونبوته ليس ببديع ولا حادث؛ كقوله -تعالى -: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف 9) ويحتمل قوله تعالى: {ويهديكم سنن الذين من قبلكم} أي يبين لكم أن كيف كانت سنته في الذين خلوا من قبل في إهلاك من عاند الله ورسوله واستئصال من استأصلهم بتكذيب الرسل والأنبياء عليهم السلام والخلاف لهم كقوله تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} (الأحزاب 38) وقوله تعالى: {فقد مضت سنت الأولين} (الأنفال 38) وقيل: {سنن الذين من قبلكم} شرائع {الذين من قبلكم} من المحرمات والمحللات من أهل التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب...
وقوله تعالى: {ويتوب عليكم} يريد أن يتوب عليكم...
وقوله تعالى: {والله عليم} بما يؤتى ويتقي {عليم} بما به معاشكم وصلاحكم وما به فسادكم وفساد معاشكم ونحوه: {حكيم} وضع كل شيء موضعه، والله أعلم...
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يعني والله أعلم: يريد ليبين لنا ما بنا الحاجة إلى معرفته. والبيان من الله تعالى على وجهين: أحدهما بالنصّ والآخر بالدلالة، ولا تخلو حادثة صغيرة ولا كبيرة إلا ولله فيها حكم إما بنصّ وإما بدليل، وهو نظير قوله: {ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 19]، وقوله: {هذا بيان للناس} [آل عمران: 138]، وقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38]. وقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} من الناس من يقول:"إن هذا يدل على أن ما حرّمه علينا وبيّن لنا تحريمه من النساء في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كان محرَّماً على الذين كانوا من قبلنا من أمم الأنبياء المتقدمين". وقال آخرون: "لا دلالة فيه على اتفاق الشرائع، وإنما معناه أنه يهديكم سُنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بيّنه لهم، وإن كانت العبادات والشرائع مختلفة في أنفسها، إلا أنها وإن كانت مختلفة في أنفسها فهي متفقة في باب المصالح". وقال آخرون: "يبيّن لكم سُنَنَ الذين من قبلكم من أهل الحق وغيرهم لتجتنبوا الباطل وتحبّوا الحق"...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}: طريقة الأنبياء والأولياء وهو التفويض والرضاء، والاستسلام للحكم والقضاء. وقيل: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ}: يتقَبَّلُ توبتكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبين كما زيدت في: لا أبالك، لتأكيد إضافة الأب. والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم. {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ويرشدكم إلى طاعات إن قمتم بها كانت كفارات لسيآتكم فيتوب عليكم ويكفر لكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ويهديكم}: يرشدكم، لا يتوجه غير ذلك، بقرينة السنن، وال {سنن}: الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها.
ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا، وليس ذلك كذلك، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين؛ إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهياً وأمراً، كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم، وشرع لنا كما شرع لهم، فهدينا سننهم في ذلك، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم.
والأمر الثاني: أنّا هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة.
والذين من قبلنا: هم المؤمنون في كل شريعة. وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له، وحسن {عليم} هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح و {حكيم} أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.
قال بعض المفسرين: قوله: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} معناهما شيء واحد، والتكرير لأجل التأكيد، وهذا ضعيف، والحق أن المراد من قوله: {ليبين لكم} هو أنه تعالى بين لنا هذه التكاليف، وميز فيها الحلال من الحرام والحسن من القبيح. ثم قال: {ويهديكم سنن الذين من قبلكم} وفيه قولان: أحدهما: أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله لنا من النساء في الآيات المتقدمة، فقد كان الحكم أيضا كذلك في جميع الشرائع والملل، والثاني: أنه ليس المراد ذلك، بل المراد أنه تعالى يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بينه لهم، فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها، إلا أنها متفقة في باب المصالح، وفيه قول ثالث: وهو أن المعنى: أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق لتجتنبوا الباطل وتتبعوا الحق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتم سبحانه الحلال والحرام من هذه الحدود والأحكام، وختمها بصفة الرحمة بين ما أراد بها من موجبات الرحمة تذكيراً بالنعمة لتشكر، وتحذيراً من أن تنسى فتكفر فقال تعالى: {يريد الله} أي الملك الأعظم إنزال هذه الأحكام على هذا النظام {ليبين لكم} أي ليوقع لكم البيان الشافي فيما لكم وعليكم من شرائع الدين {ويهديكم} أي يعرفكم {سنن} أي طرق {الذين} ولما كان المراد بعض الماضين قال: {من قبلكم} أي من أهل الكتاب: الأنبياء وأتباعهم {ويتوب عليكم} أي يرجع بكم عن كل ما لا يرضيه، لا سيما ما يجر إلى المقاطعة -مثل منع النساء والأطفال الإرث، ومثل نكاح ما يحرم نكاحه وغير ذلك، فأعلمهم بهذا أنهم لم يخصهم بهذه التكاليف، بل يسلك بهم فيها صراط الذين أنعم عليهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول وأعون على الامتثال، وليتحققوا أن إلقاء أهل الكتاب الشبه إليهم وتذكيرهم بالأضغان لإرادة إلقاء العداوة محض حسد لمشاركتهم لهم في مننهم إذ هدوا لسننهم، وما أحسن ختم ذلك بقوله: {والله} أي المحيط بأوصاف الكمال {عليم حكيم} فلا يشرع لكم شيئاً إلا وهو في غاية الإحكام. فاعملوا به يوصلكم إلى دار السلام...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
مضت سنة القرآن الحكيم بأن يعلل الأحكام الشرعية ويبين حكمها بعد بيانها، وفي هذه الآيات تعليل بيان لما تقدم من أحكام النكاح. قال الأستاذ الإمام: قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} الخ استئناف بياني، كأن قائلا يقول: ماهي حكمة هذه الأحكام وفائدتها لنا؟ وهل كلف الله تعالى أمم الأنبياء السابقين إياها أو مثلها فلم يبح لهم أن يتزوجوا كل امرأة؟ وهل كان ما أمرنا به ونهانا عنه تشديدا علينا أم تخفيفا عنا؟؟ فجاءت الآيات مبينة أجوبة هذه الأسئلة التي من شأنها أن تخطر بالبال بعد العلم بتلك الأحكام. وقوله: {ليبين} معناه أن يبين فاللام ناصبة بمعنى أن المصدرية كما قال الكوفيون، ومثله {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} [التوبة:32] أقول ويجعل البصريون متعلق الإرادة محذوفا واللام للتعليل أو العاقبة، أي يريد الله ذلك التحريم والتحليل لأجل أن يبين لكم به ما فيه مصلحتكم وقوام فطرتكم. ولهم في هذه اللام أقوال أخرى. وقد حذف مفعول "ليبين "لتتوجه العقول السليمة، إلى استخراجه من ثنايا الفطرة القويمة، وقد أشار الأستاذ الإمام إلى بعض الحكم في تحريم تلك المحرمات عقب سردها ورأينا أن نؤخر ذكرها فنجعله في هذا الموضع ليكون بيانا لما وجهت إليه النفوس هنا بحذف المفعول، وإنما كتبنا عنه في مذكرتنا بيان عاطفة الأب السائقة إلى تربية ولده وهي تذكير بغيرها من مراتب صلات القرابة وإننا نذكر ما يتعلق بهذا المقام بالإيجاز، ومحل الإسهاب فيه كتب الأخلاق. إن الله تعالى جعل بين الناس ضروبا من الصلة يتراحمون بينها ويتعاونون على دفع المضار وجلب المنافع، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة وصلة الصهر، ولكل واحدة من هاتين الصلتين درجات متفاوتة، فأما صلة القرابة فأقواها ما يكون بين الأولاد والوالدين من العاطفة والأريحية، فمن اكتنه السر في عطف الأب على ولده يجد في نفسه داعية فطرية تدفعه إلى العناية بتربيته إلى أن يكون رجلا مثله، فهو ينظر إليه كنظره إلى بعض أعضائه، ويعتمد عليه في مستقبل أيامه، ويجد في نفس الولد شعورا بأن أباه كان منشأ وجوده وممد حياته، وقوام تأديبه وعنوان شرفه، وبهذا الشعور يحترم الابن أباه، وبتلك الرحمة والأريحية يعطف الأب على ابنه ويساعده.
هذا ما قاله الأستاذ. ولا يخفى على إنسان أن عاطفة الأم الوالدية أقوى من عاطفة الأب، ورحمتها أشد من رحمته، وحنانها أرسخ من حنانه، لأنها أرق قلبا وأدق شعورا، وأن الولد يتكون جنينا من دمها الذي هو قوام حياتها، ثم يكون طفلا يتغذى من لبنها، فيكون له مع كل مصة من ثديها، عاطفة جديدة يستلها من قلبها، والطفل لا يحب أحدا في الدنيا قبل أمه، ثم إنه يحب أباه ولكن دون حبه لأمه، وإن كان يحترمه أشد مما يحترمها، أفليس من الجناية على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والأولاد حب استمتاع الشهوة فيزحمه ويفسده وهو خير ما في هذه الحياة؟ بلى، ولأجل هذا كان تحريم نكاح الأمهات هو الأشد المقدم في الآية ويليه تحريم البنات، ولولا ما عهد في الإنسان من الجناية على الفطرة والعبث بها والإفساد فيها لكان لسليم الفطرة أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات، لأن فطرته تشعر بأن النزوع إلى ذلك من قبيل المستحيلات.
وأما الإخوة والأخوات فالصلة بينهما تشبه الصلة بين الوالدين والأولاد من حيث أنهم كأعضاء الجسم الواحد فإن الأخ والأخت من أصل واحد يستويان في النسبة إليه من غير تفاوت بينهما ثم إنهما ينشآن في حجر واحد على طريقة واحدة في الغالب، وعاطفة الأخوة بينهما متكافئة ليست أقوى في أحدهما منها في الآخر كقوة عاطفة الأمومة والأبوة على عاطفة البنوة فلهذه الأسباب يكون أنس أحدهما بالآخر أنس مساواة لا يضاهيه أنس آخر إذ لا يوجد بين البشر صلة أخرى فيها هذا النوع من المساواة الكاملة، وعواطف الود والثقة المتبادلة، ويحكى أن امرأة شفعت عند الحجاج في زوجها وابنها وأخيها وكان يريد قتلهم فشفعها في واحد مبهم منهم وأمرها أن تختار من يبقى فاختارت أخاها فسألها عن سبب ذلك فقالت إن الأخ لا عوض عنه وقد مات الوالدان وأما الزوج والولد فيمكن الاعتياض عنهما بمثلهما. فأعجبه هذا الجواب وعفا عن الثلاثة وقال لو اختارت الزوج لما أبقيت لها أحدا. وجملة القول إن صلة الأخوة صلة فطرية قوية وإن الإخوة والأخوات لا يشتهي بعضهم التمتع ببعض لأن عاطفة الأخوة تكون هي المستولية على النفس بحيث لا يبقى لسواها معها موضع ما سلمت الفطرة فقضت حكمة الشريعة بتحريم نكاح الأخت حتى لا يكون لمعتلي الفطرة منفذ استبدال داعية الشهوة بعاطفة الأخوة.
وأما العمات والخالات فهن من طينة الأب والأم وفي الحديث "عم الرجل صنو أبيه" أي هما كالصنوان يخرجان من أصل النخلة وتقدم هذا في تفسير {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة:133] فعدوا إسماعيل من آبائه لأنه أخ لإسحاق فكأنه هو. ولهذا المعنى الذي كانت به صلة العمومة من صلة الأبوة وصلة الخؤولة من صلة الأمومة قالوا إن تحريم الجدات مندرج في تحريم الأمهات وداخل فيه فكان من محاسن دين الفطرة المحافظة على عاطفة صلة العمومة والخؤولة والتراحم والتعاون بها وأن لا تنزو الشهوة عليها وذلك بتحريم نكاح العمات والخالات.
وأما بنات الأخ وبنات الأخت فهما من الإنسان بمنزلة بناته من حيث إن أخاه وأخته كنفسه وصاحب الفطرة السليمة يجد لهما هذه العاطفة من نفسه وكذا صاحب الفطرة السقيمة إلا أن عاطفة هذا تكون كفطرته في سقمها، نعم إن عطف الرجل على بنته يكون أقوى لكونها بضعة منه نمت وترعرعت بعنايته ورعايته، وأنسه بأخيه وأخته يكون أقوى من أنسه ببناتهما لما تقدم. وأما الفرق بين العمات والخالات، وبين بنات الإخوة والأخوات، فهو أن الحب لهؤلاء حب عطف وحنان، والحب لأولئك حب تكريم واحترام، فهما من حيث البعد عن مواقع الشهوة متكافئان، وإنما قدم في النظم الكريم ذكر العمات والخالات، لأن الإدلاء بهما من الآباء والأمهات، فصلتهما أشرف وأعلى من صلة الإخوة والأخوات.
هذه هي أنواع القرابة القريبة التي يتراحم الناس بها ويتعاطفون، ويتوادون ويتعاونون، بما جعل الله لها في النفوس من الحب والحنان، والعطف والاحترام، فحرم الله فيها النكاح لأجل أن تتوجه عاطفة الزوجية ومحبتها إلى من ضعفت الصلة الطبيعية أو النسبية بينهم كالغرباء والأجانب، والطبقات البعيدة من سلالة الأقارب، كأولاد الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وبذلك تتجدد بين البشر قرابة الصهر، التي تكون في المودة والرحمة كقرابة النسب، فتتسع دائرة المحبة والرحمة بين الناس، فهذه حكمة الشرع الروحية في محرمات القرابة.
ثم أقول: إن هنالك حكمة جسدية حيوية عظيمة جدا وهي أن تزوج الأقارب بعضهم ببعض يكون سببا لضعف النسل فإذا تسلسلت واستمرت يتسلسل الضعف والضوى فيه إلى أن ينقطع. ولذلك سببان أحدهما وهو الذي أشار إليه الفقهاء أن قوة النسل تكون على قدر قوة داعية التناسل في الزوجين وهي الشهوة وقد قالوا إنها تكون ضعيفة بين الأقارب، وجعلوا ذلك علة لكراهة تزوج بنات العم وبنات العمة الخ وسبب ذلك أن هذه الشهوة شعور في النفس يزاحمه شعور عواطف القرابة المضاد له فإما أن يزيله وإما أن يزلزله ويضعفه كما علم مما بيناه آنفا.
والسبب الثاني يعرفه الأطباء وإنما يظهر للعامة بمثال تقريبي معروف عند الفلاحين وهو أن الأرض التي يتكرر زرع نوع واحد من الحبوب فيها يضعف هذا الزرع فيها مرة بعد أخرى إلى أن ينقطع لقلة المواد التي هي قوام غذائه وكثرة المواد الأخرى التي لا يتغذى منها ومزاحمتها لغذائه أن يخلص له، ولو زرع ذلك الحب في أرض أخرى وزرع في هذه الأرض نوع آخر من الحب لنمى كل منهما. بل ثبت عند الزراع أن اختلاف الصنف من النوع الواحد من أنواع البذار يفيد فإذا زرعوا حنطة في أرض وأخذوا بذرا من غلتها فزرعوه في تلك الأرض يكون نموه ضعيفا وغلته قليلة وإذا أخذوا البذر من حنطة أخرى وزرعوه في تلك الأرض نفسها يكون أنمى وأزكى. كذلك النساء حرث كالأرض يزرع فيهن الولد وطوائف الناس كأنواع البذار وأصنافه فينبغي أن يتزوج أفراد كل عشيرة من أخرى ليزكو الولد وينجب فإن الولد يرث من مزاج أبويه ومادة أجسامهما ويرث من أخلاقهما وصفاتهما الروحية ويباينهما في شيء من ذلك، فالتوارث والتباين سنتان من سنن الخليقة ينبغي أن تأخذ كل واحدة منهما حظها لأجل أن ترتقي السلائل البشرية ويتقارب الناس بعضهم من بعض، ويستمد بعضهم القوة والاستعداد من بعض، والتزوج من الأقربين ينافي ذلك فثبت بما تقدم كله أنه ضار بدنا ونفسا، مناف للفطرة مخل بالروابط الاجتماعية عائق لارتقاء البشر.
وقد ذكر الغزالي في الإحياء أن من الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة أن لا تكون من القرابة القريبة، قال فإن الولد يخلق ضاويا أي نحيفا وأورد في ذلك حديثا لا يصح. ولكن روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث أن عمر قال لآل السائب: "اغتربوا لا تضووا" أي تزوجوا الغرائب لئلا تجيء أولادكم نحافا ضعافا. وعلل الغزالي ذلك بقوله: إن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحساس بالنظر أو اللمس وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد فأما المعهود الذي دام النظر إليه فإنه يضعف الحس عن تمام إدراكه والتأثر به ولا تنبعث به الشهوة. اه. وتعليله لا ينطبق على كل صورة والعمدة ما قلناه.
وأما حكمة التحريم بالرضاعة فقد بيناها في تفسير {وأخواتكم من الرضاعة ويزيده ما قلناه آنفا في حكمة محرمات النسب تبيانا فمن رحمته تعالى بنا أن وسع لنا دائرة القرابة بإلحاق الرضاع بها وقد ذكرنا أن بعض بدن الرضيع يتكون من لبن المرضع وفاتنا أن نذكر هناك أنه بذلك يرث منها كما يرث ولدها الذي ولدته.
وأشرنا أيضا إلى حكمة تحريم محرمات المصاهرة بما ذكرناه في حكمة تحريم الربيبة وهي بنت الزوجة، وأمها أولى بالتحريم لأن زوجة الرجل شقيقة روحه بل مقومة ماهيته الإنسانية ومتممتها فينبغي أن تكون أمها بمنزلة أمه في الاحترام، ويقبح جدا أن تكون ضرة لها فإن لحمة المصاهرة كلحمة النسب فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها وتجددت في نفسه عاطفة مودة جديدة لهم. فهل يجوز أن يكون سببا للتغاير والضرار بين الأم وبنتها؟ كلا إن ذلك ينافي حكمة المصاهرة والقرابة، ويكون سبب فساد العشيرة، فالموافق للفطرة الذي تقوم به المصلحة، هو أن تكون أم الزوجة كأم الزوج وبنتها التي في حجره، كبنته من صلبه، وكذلك ينبغي أن تكون زوجة ابنه بمنزلة ابنه، يوجه إليها العاطفة التي يجدها لبنته، كما ينزل الابن امرأة أبيه منزلة أمه، وإذا كان من رحمة الله وحكمته أن حرم الجمع بين الأختين وما في معناهما لتكون المصاهرة لحمة مودة، غير مشوبة بسبب من أسباب الضرار والنفرة، فكيف يعقل أن يبيح نكاح من هي أقرب إلى الزوجة كأمها أو بنتها أو زوجة الوالد للولد وزوجة الولد للوالد؟ وقد بين لنا أن حكمة الزواج هي سكون نفس كل من الزوجين إلى الآخر والمودة والرحمة بينهما وبين من يلتحم معهما بلحمة النسب فقال: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:21] فقيد سكون النفس الخاص بالزوجية ولم يقيد المودة والرحمة لأنها تكون بين الزوجين ومن يلتحم معهما بلحمة النسب، وتزداد وتقوى بالولد، كما بينا ذلك بالإسهاب في مقالات (الحياة الزوجية) التي نشرناها في المجلد الثامن من المنار.
فهذا ما فتح الله به علينا في بيان المراد من قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} من حيث إنه لم يذكر معمول {ليبين} لنلتمسه من سنن الفطرة بمعونة إرشادنا إلى كون ديننا دين الفطرة بقوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم:30] فقد جاءت هذه الآية بعد آية الزوجية بثمان آيات. وقال تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين* وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات:20 21] وقد هدانا بذلك جلت حكمته إلى الاستقلال في طلب العلم والحكمة، وتزكية النفس بالأدب والفضيلة، ولا غرو فالقرآن هدى للمتقين، لا قوانين وضعية للمتكلفين، ولا رسوم عرفية للجامدين.
بعد كتابة ما تقدم ذهبت إلى إحدى دور الكتب (في القسطنطينية) حيث أنا فراجعت كتاب حجة الله البالغة للشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي، فإذا هو يقول في حكم محرمات النكاح: "والأصل في التحريم أمور: منها: جريان العادة بالاصطحاب والارتباط وعدم إمكان لزوم الستر فيما بينهم وارتباط الحاجات من الجانبين على الوجه الطبيعي دون الصناعي، فإنه لو لم تجر السنة بقطع الطمع عنهن والإعراض عن الرغبة فيهن لهاجت مفاسد لا تحصى، وأنت ترى الرجل يقع بصره على محاسن امرأة أجنبية فيتوله بها، ويقتحم في المهالك لأجلها، فما ظنك فيمن يخلو معها وينظر إلى محاسنها ليلا ونهارا. وأيضا لو فتح باب الرغبة فيهن ولم يسد ولم تقم اللائمة عليهم فيه أفضى ذلك إلى ضرر عظيم عليهن فإنه سبب عضلهم إياهن عمن يرغبن فيه لأنفسهم فإنه بيدهم أمرهن وإليهم إنكاحهن، وأن لا يكون لهم إن نكحوهن من يطالبهم عنهن بحقوق الزوجية مع شدة احتياجهن إلى من يخاصم عنهن". ونظر لذلك بمسألة عضلهم لليتامى الغنيات كما تقدم في أوائل السورة.
قال ومنها: الرضاعة فإن التي أرضعت تشبه الأم من حيث إنها سبب اجتماع أمشاج بنيته وقيام هيكله غير أن الأم جمعت خلقته في بطنها وهذه درت عليه سد رمقه من أول نشأته فهي أم بعد الأم وأولادها إخوة بعد الإخوة، وقد قاست في حضانته ما قاست، وقد ثبت في ذمته من حقوقها ما ثبت، وقد رأت منه في صغرها ما رأت، فيكون تملكها والوثوب عليها مما تمجه الفطرة السليمة، وكم من بهيمة عجماء لا تلتفت إلى أمها أو إلى مرضعتها هذه اللفتة، فما ظنك بالرجال (وأيضا) فإن العرب كانوا يسترضعون أولادهم في حي من الأحياء فيشب فيهم الولد ويخالطهم كمخالطة المحارم ويكون عندهم للرضاعة لحمة كلحمة النسب" ثم ذكر الحديث في هذا المعنى والرضاع المحرم وكون الأصل في مقداره عشر رضعات والخمس للاحتياط.
قال ومنها: الاحتراز عن قطع الرحم بين الأقارب فإن الضرتين تتحاسدان وينجر البغض إلى أقرب الناس منهما والحسد بين الأقارب أخنع وأشنع. وقد كره جماعة من السلف ابنتي العم والخال لذلك فما بالك بامرأتين أيهما فرض ذكرا حرمت عليه الأخرى كالأختين والمرأة وعمتها أو خالتها "ثم ذكر ما ورد في الجمع.
قال ومنها: المصاهرة فإنه لو جرت السنة بين الناس أن يكون للأم رغبة في زوج بنتها وللرجال في حلائل الأبناء وبنات نسائهم لأفضى إلى السعي في فك ذلك الربط أو قتل من يشح به، وإن أنت تسمعت إلى قصص قدماء الفارسيين واستقرأت حال أهل زمانك من الذين لم يتقيدوا بهذه السنة الراشدة وجدت أمورا عظاما ومهالك ومظالم لا تحصى (وأيضا) فإن الاصطحاب في هذه القرابة لازم، والستر متعذر، والتحاسد شنيع، والحاجات من الجانبين متنازعة، فكان أمرها بمنزلة الأمهات والبنات أو بمنزلة الأختين".
قال: ومنها:"العدد الذي يمكن الإحسان إليه في العشرة الزوجية "ولم يأت بشيء جديد في التعدد إلا قوله في بيان حكمة الأربع:"ذلك أن الأربع عدد يمكن لصاحبه أن يرجع إلى كل واحدة بعد ثلاثة ليال وما دون ليلة لا يفيد فائدة القسم ولا يقال في ذلك بات عندها، وثلاث أول حد الكثرة وما فوقها زيادة الكثرة "اه. وقد وفينا هذا المقام حقه في تفسير الآية التي تبيح التعدد من جزء التفسير الرابع.
قال: ومنها: اختلاف الدين وهو قوله: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة:221] وذكر أن ذلك مفسدة للدين وهي تخف في الكتابية فرخص فيها. وتقدم إيضاح ذلك في الجزء الثاني. وقد نقل ابن جرير عن بعض مفسري السلف أن المشركين والمشركات المحرم على المؤمنين التناكح معهم هم المشركون والمشركات من العرب. وقد كان من حكمة الإسلام أن يكون عرب الجزيرة كلهم مسلمين فشدد في معاملتهم ما لم يشدد في معاملة غيرهم كما بينا في المنار.
قال: ومنها: كون المرأة أمة لآخر فإنه لا يمكن تحصين فرجها بالنسبة إلى سيدها ولا اختصاصه بها بالنسبة إليه إلا من جهة التفويض إلى دينه وأمانته، ولا جائز أن يصد سيدها عن استخدامها والتخلي بها فإن ذلك ترجيح أضعف الملكين على أقواهما، فإن هنالك ملكين ملك الرقبة وملك البضع والأول هو الأقوى المشتمل على الآخر المستتبع له، والثاني هو الضعيف المندرج، وفي اقتضاب الأدنى للأعلى قلب الموضوع، وعدم الاختصاص بها وعدم إمكان ذب الطامع فيها هو أصل الزنا. وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل في تحريم الأنكحة التي كان الجاهلية يتعاملونها كالاستبضاع كما بينته عائشة رضي الله عنها. فإذا كانت فتاة مؤمنة بالله محصنة فرجها واشتدت الحاجة إلى نكاحها لمخافة العنت وعدم طول الحرة خف الفساد وكانت الضرورة والضرورات تبيح المحظورات" اه.
ثم ذكر كون المرأة مشغولة بنكاح مسلم أو كافر وقال في حكمته: "فإن أصل الزنا هو الازدحام على الموطوءة من غير اختصاص أحدهما وغير قطع طمع الآخر فيها".
وأما قوله تعالى: {ويهديكم سنن الذين من قبلكم} فمعناه أنه يريد أيضا بما شرعه لكم من الأحكام الموافقة لمصالحكم ومنافعكم أن يهديكم سنن الذين أنعم عليهم من قبلكم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين أي طرقهم في العمل بمقتضى الفطرة السليمة؛ وهداية الدين والشريعة، كل بحسب حال الاجتماع في زمانه، كما قال: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة:48] وإنما كان دين جميع الأنبياء واحدا في التوحيد وروح العبادة وتزكية النفس بالأعمال التي تقوم الملكات وتهذب الأخلاق.
ثم قال: {ويتوب عليكم} أي ويريد بتلك الأحكام أن يجعلكم بالعمل بها تائبين مما سلف في زمن الجاهلية وأول الإسلام إذ كنتم منحرفين عن سنة الفطرة تنكحون ما نكح آباؤكم، وتقطعون أرحامكم، ولا تراعون ما في الزوجية من تجديد قرابة الصهر، بدون تنكيت لقوى روابط النسب، وقيل المراد بالتوبة ما هي سبب له من الغفران {والله عليم حكيم} أي أنه ذو العلم والحكمة الثابتين اللذين تصدر عنهما أحكامه فتكون موافقة لمصالحكم ومنافعكم لأن علمه الواسع محيط بها وحكمته البالغة تقضي بها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل. {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي: يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما حده الله، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده. ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله الحمد والشكر على ذلك...
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: كامل الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعا. وهو منهج ثابت في أصوله، موحد في مبادئه، مطرد في غاياته وأهدافه.. هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد. ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون. بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان؛ ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان؛ ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول، في الطريق اللاحب الطويل. وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه.. إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله، تجمعها آصرة المنهج الإلهي، على اختلاف الزمان والمكان، واختلاف الأوطان؛ والألوان وتربطها سنة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل، ومن كل قبيل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تذييل يقصد منه استئناس المؤمنين واستنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدّمة من أوّل السورة إلى هنا، فإنّها أحكام جمّة وأوامر ونواه تفضي إلى خلع عوائدَ ألفوها، وصرفِهم عن شهوات استباحوها، كما أشار إليه قوله بعد هذا {ويريد الذين يتبعون الشهوات} [النساء: 27]، أي الاسترسال على ما كانوا عليه في الجاهلية، فأعقب ذلك ببيان أنّ في ذلك بيانا وهُدى. حتّى لا تكون شريعة هذه الأمّة دون شرائع الأمم التي قبلها، بل تفوقُها في انتظام أحوالها، فكان هذا كالاعتذار على ما ذكر من المحرّمات. فقوله: {يريد الله ليبين لكم} تعليل لتفصيل الأحكام في مواقع الشبهات كي لا يضلّوا كما ضلّ من قبلهم، ففيه أنّ هذه الشريعة أهدى ممّا قبلها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين سبحانه في الآيات السابقة المحرمات، ونبه إلى ما كان يقع فيه أهل الجاهلية من استباحة بعض هذه المحرمات، كزواجهم ممن كانوا أزواجا لآبائهم، وكاستباحتهم الجمع بين المرأة وأختها. وفي هذه النص الكريم يبين سبحانه أن ما قرره هو الهداية، وهو سنة الفطرة، وهو شريعة النبيين أجمعين. ثم بين سبحانه بالإشارة والعبارة أن تحصين الفروج مطلب ديني سام، وأن الإحصان حماية لمعنى الإنسانية وترفع عن الحيوانية.
وفي هذا النص بأهل الإيمان الخير، ولكن يريدون أن تتحكم الأهواء والشهوات لا يريدون بأهل الإيمان الخير، ولكن يريدون أن تتحكم الأهواء والشهوات، وتسيطر وتدفع إلى العبث والحيوانية ويريد سبحانه أن يبين سنن الذين من قبلكم، أي الطريقة المثلى التي كانت تسير عليها المجتمعات الفاضلة قبلكم، وما جاء به النبيون، وهدى إليه المرسلون، فيبين أن هذا هو سنن الذين من قبلكم وهو سنة الفطرة. ولم يصرح بأن ذلك هو ما جاء به النبيون، وإن كان ذلك مفهوما، بل صرح بأن هذا هو سنن الذين من قبلكم للإشارة إلى أنه أمر مشتق من الفطرة الإنسانية. وأن من يخالفه إنما يشذ عن مقتضى الفطرة وحكم العقل، وسنة الإنسانية. فبعض الملوك أو الأمم الذين استباحوا المحرمات كانوا في حكم الأجيال الإنسانية من شذاذ؛ لأنهم خرجوا عن سنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
في هذا الربع آيات كريمة أخرى من المناسب أن نقف عندها وقفة خاصة، إذ لها علاقة وثيقة بما حدده الله من الحلال والحرام في موضوع الزواج الذي هو أساس تكوين الأسرة وكل ما يتفرع عنها، وما هو حرام في هذا الموضوع الخطير، إرشادا للمؤمنين من عباده وهداية لهم إلى أحسن الطرق وأفضل النظم، حتى يقفوا عند حدودها ولا يتجاوزوها. كما أنه مهد طريق التوبة وفتح باب العفو في وجه أولئك الذين عرفوا انحراف الجاهلية وفوضاها الاجتماعية والخلقية، فلم يؤاخذهم على ما سلف قبل نزول القرآن الكريم. وفيها علاوة على ذلك تنبيه إلى أن عبيد الشهوات وأسراء اللذات سوف لا يرتاحون لهذا النظام الإلهي الأخلاقي وأحكامه الطاهرة، لأنه يقف في وجوههم، ويسد أمامهم طريق الفوضى والتلاعب بالأعراض، بل إنهم سيحاولون إغواء بقية المسلمين وإغراءهم على تعدي الحدود التي رسمها الحق سبحانه وتعالى، وسيدعونهم إلى نبذ أحكامه وتعاليمه ظهريا. وأخيرا في هذه الآيات امتنان من الله على عباده بأنه يريد أن يخفف عنهم، ولذلك أحل لهم ما فيه الخير والنفع، مما يفتح في وجوههم أبواب الفضائل، وحرم عليهم ما فيه الشر والأذى، ليقفل من خلفهم أبواب الرذائل. ثم سجل كتاب الله في نهاية هذا الموضوع حقيقة لا ينازع فيها إنسان، ألا وهي أن الإنسان مخلوق ضعيف أمام نداء الشهوة وإغراء الشيطان. وإذن فلا بد لتوجيهه وإنقاذه وحمايته من الأخذ بيده وحضه على الإيمان بالله، وأمره بالتزام شريعته...
ماذا يبين لنا؟ إنه سبحانه يبين القوانين الحاكمة لانتظام الحياة.. وقلنا إنه لا يمكن أن يوجد تجريم إلا بنص ولا توجد عقوبة إلا بتجريم. فقبلما يعاقبك على أمر فهو يقول لك: هذه جريمة وينص عليها، إنه لا يأتي ليقول لك: فعلت الشيء الفلاني وهذه عقوبته؛ لأنك قد تقول له: فعلت هذا الفعل من قبل ولم أعرف أنه جريمة وعليه عقوبة. إذن فلا يمكن أن تعاقب إلا إذا أجرمت، ولا يمكن أن تجرم إلا بنص، فيريد الله أن يبصركم ببيان ما تصلح به حركة حياتكم، والله آمن عليكم من أنفسكم، لأنه هو سبحانه الذي خلق وهو يعلم من خلق. إن سبحانه وحده الذي يقنن ما يصلح مخلوقه، أما أن يخلق هو وأنت تقنن فهذا اعتداء؛ لأنه سبحانه يقنن لما يعلم ولله المثل الأعلى وقلنا سابقا: إن المهندس الذي يصنع التلفزيون هو الذي يضع له قانون الصيانة؛ لأنه هو الذي صمم الآلة، وهو الجدير بأن يضع لها قانون صيانتها، فيعلمنا: المفتاح هذا لكذا، وهذا للصورة، وهذا للصوت. إن الذي خلق الإنسان هو الذي يضع قانون صيانته المتمثل في "افعل ولا تفعل"، وترك سبحانه أمورا لم يرد فيها افعل ولا تفعل، وهي متروكة على الإباحة، تفعله أو لا تفعله، إنه سبحانه: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم}، والسنة هي الناموس الحاكم لحركة الحياة. والحق يقول: {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا 62} (سورة الأحزاب). والرسل سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وعرفنا الذين أطاعوا رسلهم ماذا حدث لهم، والذين كذبوا رسلهم ماذا حدث لهم. لقد قال الحق في شأنهم: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون 40} (سورة العنكبوت). فالله يريد أن يبين لنا سنن من قبلنا، أي الطرائق التي حكموا بها، وماذا حدث لأهل الحق وماذا حدث لأهل الباطل. إذن فهو ليس تقنينا أصم، بل هو تقنين مسبوق بوقائع تؤكده وتوثقه، {ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم} وهو سبحانه يبين ويوضح ويتوب، {والله عليم} لأنه خالق، "حكيم "يضع الأمر في موضعه والنهي في موضعه. فالحكمة هي: وضع الشيء في موضعه، وسبحانه يضعه عن علم، فالعلم يقتضي اتساع المعلومات، والحكمة هي وضع كل معلوم في موقعه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنه اللطف الإلهي الذي يفيض بالرحمة والعطف والحنان والرعاية، في كل صغيرة وكبيرة من أمور المؤمنين؛ فهو يتعهدهم دائماً ببيان الوسائل التي يستطيعون من خلالها الانفتاح على الآفاق الواسعة للحياة، في كل ما تحمله من عناصر الخير والصلاح، ويلتقوا بالينابيع الصافية المتفجرة بالماء الذي ينساب في الأرض، لينشر فيها الخصب والرخاء؛ ويرتفعوا إلى القيم الروحية التي ترتفع بالإنسان عن الحدود الضيقة للمادة الجامدة، إلى الأجواء الروحية العالية التي يحدّق فيها في امتداد السماء...
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} لينير لكم السبيل لأنكم لا تستطيعون معرفة الطريق الواضح المستقيم الذي يحفظ لكم خطواتكم من الضياع ويصونها من الانزلاق في منحدرات الهاوية؛ بل الله هو الذي يهديكم ذلك ويخرجكم من الظلمات إلى النور. ففي كلماته الوحي الذي يفتح القلوب، والضياء الذي يفتح العيون، والهدى الذي يشق الطريق إلى حيث الانطلاق الكبير في رحاب الله. وذلك بأن يفصّل الله لكم برنامج الحياة الذي يتضمن الخلاص في معاشكم ومعادكم بما يبيّنه من أحكام دينكم في دنياكم، باعتبار أنه وحده الذي يحقق السعادة للإنسان في دنياه وآخرته...
{وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} لأن الله يريد لكل أمة أن تكمل الطريق الذي بدأه الآخرون؛ فلا تبقى الأقدام دائماً متحركة في عملية تراجعية إلى بداية الطريق. فقد جعل الرسالات متتابعة في حياة الأمم، ليكون كل رسول متمّماً لما بدأه الرسول الذي قبله، ولتكون كل أمة امتداداً للأمة التي قبلها؛ ولهذا أراد الله سبحانه في كل كتاب جديد من كتبه أن يحدّث رسوله وأمته عن المناهج التي سارت عليها الأمم السابقة، ليعتبروا ويعرفوا حركة الساحة التي يعملون فيها، في ما عاشته من تجارب، وما واجهته من تحديات، وما بلغته من أهداف، لتكون الرؤية واضحة أمامهم، فلا يحتاجون إلى أن يبدؤوا التجربة من جديد، بل كل ما هناك أن يفهموا التجارب السابقة ويعتبروا بها، في ما يستقبلون من تجارب الحياة. وتلك هي قصة التاريخ في مفهوم الإسلام؛ فلسنا مسؤولين عن حركة التاريخ في كل مراحل فشله ونجاحه، أو استقامته وانحرافه، بل أن يمتد التاريخ في وحيه العملي في حركة المستقبل الجديد الذي نصنعه بإرادتنا وإيماننا...
{وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} هل التوبة التي هي إرادة الله لنا، هي المغفرة عما سلف من ذنوبنا، لتكون الكلمة توجيهاً للإنسان في أن يفتش عن طريق التوبة، فيحاسب نفسه على الأخطاء التي قد ارتكبها، ليقف بين يدي الله حاملاً مشاعر الندم، ويطلب منه التوبة على ذلك كله... أم هي أسلوب قرآني في التعبير عن المعنى الذي توحي به التوبة، وهو السير على الخط المستقيم الذي يؤدي إلى رضا الله، بكلمة التوبة، فكأنه يقول: إن الله يريد أن يرضى عنكم من خلال استقامتكم، من خلال ما يثيره أمامكم من فرص المعرفة والهداية التي تؤدي بكم إلى العمل الصالح؟...