البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم } مفعول يتوب محذوف وتقديره : يريد الله هذا هو مذهب سيبويه فيما نقل ابن عطية ، أي : تحليل ما حلل ، وتحريم ما حرم ، وتشريع ما تقدّم ذكره .

والمعنى : يريد الله تكليف ما كلف به عباده مما ذكر لأجل التبيين لهم بهدايتهم ، فمتعلق الإرادة غير التبيين وما عطف عليه ، هذا مذهب البصريين .

ولا يجوز عندهم أن يكون متعلق الإرادة التبيين ، لأنه يؤدي إلى تعدي الفعل إلى مفعوله المتأخر بوساطة اللام ، وإلى إضمار أنّ بعد لام ليست لام الجحود ، ولا لام كي ، وكلاهما لا يجوز عندهم .

ومذهب الكوفيين : أنّ متعلق الإرادة هو التبيين ، واللام هي الناصبة بنفسها لا أن مضمرة بعدها .

وقال بعض البصريين : إذا جا مثل هذا قدر الفعل الذي قبل اللام بالمصدر فالتقدير : إرادة الله لما يريد ليبين ، وكذلك أريد لا ينسى ذكرها ، أي : إرادتي لا ينسى ذكرها .

وكذلك قوله تعالى : { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } أي : أمرنا بما أمرنا لنسلم انتهى .

وهذا القول نسبه ابن عيسى لسيبويه والبصريين ، وهذا يبحث في علم النحو .

وقال الزمخشري : أصله يريد الله أن يبين لكم ، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين ، كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب ، والمعنى : يريد الله أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم انتهى كلامه وهو خارج عن أقوال البصريين والكوفيين .

وأما كونه خارجاً عن أقوال البصريين فلأنه جعل اللام مؤكدة مقوية لتعدي يريد ، والمفعول متأخر ، وأضمر أن بعد هذه اللام .

وأما كونه خارجاً عن قول الكوفيين فإنهم يجعلون النصب باللام ، لا بأن ، وهو جعل النصب بأن مضمرة بعد اللام .

وذهب بعض النحويين إلى أن اللام في قوله : ليبين لكم ، لام العاقبة ، قال : كما في قوله : { ليكون لهم عدواً وحزناً } ولم يذكر مفعول يبين .

قال عطاء : يبين لكم ما يقربكم .

وقال الكلبي : يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير .

وقيل : ما فصل من المحرمات والمحللات .

وقيل : شرائع دينكم ، ومصالح أموركم .

وقيل : طريق من قبلكم إلى الجنة .

ويجوز عندي أن يكون من باب الإعمال ، فيكون مفعول ليبين ضميراً محذوفاً يفسره مفعول ويهديكم ، نحو : ضربت وأهنت زيداً ، التقدير : ليبينها لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، أي ليبين لكم سنن الذين من قبلكم .

والسنن : جمع سنة ، وهي الطريقة .

واختلفوا في قوله : سنن الذين من قبلكم ، هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم ؟ أو على التشبيه ؟ أي : سنناً مثل سنن الذين الذين من قبلكم .

فمن قال بالأول أراد أنّ السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة .

وقيل : المراد بالسنن ما عنى في قوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } وقيل : المراد بها ما ذكره في قوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } وقيل : طرق من قبلكم إلى الجنة .

وقيل : مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين ، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم ، وهذا قريب مما قبله .

وعلى هذا الأقوال فيكون الذين من قبلكم المراد به الأنبياء وأهل الخير .

وقيل : المراد بقوله سنن طرق أهل الخير والرشد والغي ، ومن كان قبلكم من أهل الحق والباطل ، لتجتنبوا الباطل ، وتتبعوا الحق .

والذين قالوا : إنّ ذلك على التشبيه قالوا : إن المعنى أنّ طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وبيان الأحكام ، وكذلك جعل طريقكم أنتم .

فأراد أن يرشدكم إلى شرائع دينكم وأحكام ملتكم بالبيان والتفصيل ، كما أرشد الذين من قبلكم من المؤمنين .

وقيل : الهداية في أحد أمرين : أما أنا خوطبنا في كل قصة نهياً أو أمراً كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدايتنا سننهم في الإرشاد ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم .

والأمر الثاني : أنّ هدايتنا سننهم في أنّ سمعنا وأطعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة .

والمراد بالهداية هنا الإرشاد والتوضيح ، ولا يتوجه غير ذلك بقرينة السنن ، والذين من قبلناهم المؤمنون من كل شريعة .

وقال صاحب ري الظمآن وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ، أي : يريد أن يبين ، أو يريد إنزال الآيات ليبين لكم .

وقوله تعالى : ويهديكم ، قال المفسرون : معناهما واحد ، والتكرار لأجل التأكيد ، وهذا ضعيف .

والحق أنَّ المراد من الأول تبيين التكاليف ، ثم قال : ويهديكم .

وفيه قولان : أحدهما : أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة ، فقد كان الحكم كذلك أيضاً في جميع الشرائع ، وإن كانت مختلفة في نفسها ، متفقة في باب المصالح انتهى .

وتقدم معنى هذه الأقوال التي ذكرها .

وقوله : أي يريد أن يبين ، موافق لقول الزمخشري .

{ ويتوب عليكم } أي يردكم من عصيانه إلى طاعته ، ويوفقكم لها .

{ والله عليم حكيم } عليم بأحوالكم وبما تقدم من الشرائع والمصالح ، حكيم يصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان .

/خ28