مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم } .

فيه مسائل :

المسألة الأولى : اللام في قوله : { ليبين لكم } فيه وجهان : الأول : قالوا : إنه قد تقام اللام مقام «أن » في أردت وأمرت ، فيقال : أردت أن تذهب ، وأردت لتذهب ، وأمرتك أن تقوم ، وأمرتك لتقوم ، قال تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله } يعني يريدون أن يطفؤا ، وقال : { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } .

والوجه الثاني : أن نقول ؛ إن في الآية إضمارا ، والتقدير : يريد الله إنزال هذه الآيات ليبين لكم دينكم وشرعكم ، وكذا القول في سائر الآيات التي ذكروها ، فقوله : { يريدون ليطفئوا نور الله } يعني يريدون كيدهم وعنادهم ليطفؤا ، وأمرنا بما أمرنا لنسلم .

المسألة الثانية : قال بعض المفسرين : قوله : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } معناهما شي واحد ، والتكرير لأجل التأكيد ، وهذا ضعيف ، والحق أن المراد من قوله : { ليبين لكم } هو أنه تعالى بين لنا هذه التكاليف ، وميز فيها الحلال من الحرام والحسن من القبيح .

ثم قال : { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } وفيه قولان : أحدهما : أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله لنا من النساء في الآيات المتقدمة ، فقد كان الحكم أيضا كذلك في جميع الشرائع والملل ، والثاني : أنه ليس المراد ذلك ، بل المراد أنه تعالى يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بينه لهم ، فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها ، إلا أنها متفقة في باب المصالح ، وفيه قول ثالث : وهو أن المعنى : أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق لتجتنبوا الباطل وتتبعوا الحق .

ثم قال تعالى : { ويتوب عليكم } قال القاضي : معناه أنه تعالى كما أراد منا نفس الطاعة ، فلا جرم بينها وأزال الشبهة عنها ، كذلك وقع التقصير والتفريط منا ، فيريد أن يتوب علينا ، لأن المكلف قد يطيع فيستحق الثواب ، وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي بالتوبة .

واعلم أن في الآية إشكالا : وهو أن الحق إما أن يكون ما يقول أهل السنة من أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، وإما أن يكون الحق ما تقوله المعتزلة من أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى ، والآية مشكلة على كلا القولين . أما على القول الأول : فلأن على هذا القول كل ما يريده الله تعالى فإنه يحصل ، فإذا أراد أن يتوب علينا وجب أن يحصل التوبة لكلنا ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، وأما على القول الثاني : فهو تعالى يريد منا أن نتوب باختيارنا وفعلنا ، وقوله : { ويتوب عليكم } ظاهره مشعر بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ويحصل لنا هذه التوبة ، فهذه الآية مشكلة على كلا القولين .

والجواب أن نقول : إن قوله : { ويتوب عليكم } صريح في أنه تعالى هو الذي يفعل التوبة فينا . والعقل أيضا مؤكد له ، لأن التوبة عبارة عن الندم في الماضي ، والعزم على عدم العود في المستقبل ، والندم والعزم من باب الإرادات ، والإرادة لا يمكن إرادتها ، وإلا لزم التسلسل ، فإذن الإرادة يمتنع أن تكون فعل الإنسان ، فعلمنا أن هذا الندم وهذا العزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى ، فصار هذا البرهان العقلي دالا على صحة ما أشعر به ظاهر القرآن ، وهو أنه تعالى هو الذي يتوب علينا ، فأما قوله : لو تاب علينا لحصلت هذه التوبة ، فنقول : قوله : { ويتوب عليكم } خطاب مع الأمة ، وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات ، وحصلت هذه التوبة لهم ، فزال الإشكال ، والله أعلم .

ثم قال تعالى : { والله عليم حكيم } أي عليم بأحوالكم ، حكيم في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم .