اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

للنَّاس في مثل التركيب مذاهب ، فمذهبُ البصريين أنَّ مفعول " يريدُ " محذوف تقديره يريد اللَّهُ تحريم ما حرَّم [ عليكم ]{[7523]} وتحليل ما حلَّل ، وتشريعَ ما تقدَّم لأجلِ التَّبيين لكم ، ونسبه بعضهم لسيبويه ، فتملَّقُ الإرادة غير التّبيين وما عطف عليه ، وَإِنَّما تأوَّلوهُ بذلك ؛ لئلاَّ يلزم{[7524]} تعدّي الفعل إلى مفعوله المُتَأَخّر عنه باللاَّمِ ، وهو ممتنع وإلى إضمار " إن " بعد اللام الزائدة .

والمذهبُ الثَّانِي - ويُعْزَى أيضاً لبعض البصريّين - : أن يُقَدَّرَ الفعل الَّذي قبل اللام بمصدر في محلِّ رفع بالابتداء ، والجارّ بعده خبره ، فيقدر : يريدُ اللَّهُ ليبيِّن إرادة اللَّهَ تعالى للتّبيين وقوله : [ شعر ] [ الطويل ]

أُرِيدُ لأنْسى ذِكْرَهَا [ فَكَأَنَّمَا *** تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبيلِ ]{[7525]}

أي : إرادتي ، وقوله تعالى { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ } [ الأنعام : 71 ] أي : أُمِرْنا بما أُمِرْنَا لنسلم ، وفي هذا القول تأويل الفعل بمصدر ، من غير حرف مصدر ، وهو ضعيفٌ نحو : " تَسْمَعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه " {[7526]} قالوا : تقديره : أن تسمع فلما حذف " أن " رفعِ الفعل وهو من تأويل المصدر لأجل الحرف المُقدَّر [ فكذلك هذا ]{[7527]} فلام الجرِّ على الأوَّل في محلِّ نصب لتعلقها ب " يُريدُ " وعلى الثَّاني في محلِّ رفع لوقوعها خبراً .

الثالث : وهو مذهبُ الكوفيّين أنَّ اللامَ هي النَّاصبة بنفسها من غير إضمار " أنْ " ، وما بعدها مفعول الإرادة ، لأنَّها قد تُقَامُ اللامُ مقام " أنْ " في : أردت وأمرت ، فيقال : أردتُ أن تذهب ، وأردت لتذهب ، وأمرتك لتقُومَ ، وأمرتُكَ أن تَقُومَ ، قال تعالى :

{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ } [ الصف : 8 ] ، وقال في موضع آخر : [ { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ } ]{[7528]} [ التوبة : 32 ] . وقال : { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 71 ] وفي موضع آخر :{ وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ } [ غافر : 66 ] وقال : { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } [ الشورى : 15 ] أي : أنْ أعدل بينكم ، ومنع البصريُّون ذلك ؛ لأنَّ اللام ثبت بها الجرُّ في الأسماء ، فلا يجوزُ أن ينصب بها فالنَّصب عندهم بإضمار " أنْ " كما تَقَدَّمَ .

الرَّابِعُ ، وإليه ذهب الزَّمخشريُّ ، وأبُو البقاءِ{[7529]} : أنَّ اللامَ زائدةٌ ، و " أنْ " مضمرة بعدها ، والتَّبْيينُ مفعول [ الإرادة .

قال الزمخشري : { يُرِيدُ اللَّهُ ليبين } يريدُ اللَّهُ أن يُبيِّنَ ، فزيدت اللامُ مؤكدة لإرادة التبيين ، كَمَا ]{[7530]} زيدت في " لا أبا لك " لتأكيد إضافة الأبِ وهذا خارج عن أقوال البَصْرِيِّيِنَ ، والكوفيين ، وفيه أن " أنْ " تضمر بعد اللام الزَّائدة ، وهي لا تضمر فيما نصَّ النحويون{[7531]} بعد لام إلاَّ وتلك اللامُ للتعليل ، أو للجُحُودِ .

وقال بعضهم : اللامُ " لام " العاقبة كهي في قوله تعالى { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } ]{[7532]} [ القصص : 8 ] ولم يذكر مفعول التبيين ، بل حذفه للعلم به فقدَّره بعضهم : ليبيِّن لكم ما يقرّ ربّكم ، ومنه قول بعضهم إنَّ الصبر عن نكاح الإماء خير .

فالأوَّلُ قاله عطاء .

والثَّاني قاله الكلبيُّ . وبعضهم : ما فصَّلَ من الشَّرائع ، وبعضهم أمر دينكم ، وهي متقاربة ، ويجوز في الآية وجه آخر [ حَسَنٌ ]{[7533]} ؛ وهو أن تكون المسألَةُ من باب الإعمال تنازع : " يبيِّن " و " يَهدي " في { سنن الذين من قبلكم } ، لأنَّ كلاَّ منهما يطلبه من جهة المعنى ، وتكونُ المسألة من إعمال الثَّاني ، وحذف الضَّمير من الأوَّلِ تقديره : ليبينها لكم ويهديكم سُننَ الَّذين من قبلكم .

والسُّنَّةُ : الطَّريقَةُ ؛ لأنَّ المفسِّرين نقلوا أن كلَّ ما{[7534]} بَيَّن لنا تحريمه وتحليله من النِّساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك أيضاً في الأمم السَّالفةِ ، أو أنه بين لَكُمْ المصالح ؛ لأنَّ الشَّرَائِعَ ، وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنَّها متَّفِقَةٌ في المصلحة .

فصل

قال بعضُ المفسَّرينَ{[7535]} { لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ } معناهما واحد وقال آخرون هذا ضعيفٌ .

والحقُّ أنَّ قوله : { لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي : يميِّزَ الحلالَ من الحرامِ ، والحسن من القبيح .

وقوله تعالى : { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : أن الذي بيَّن تحريمه ، وتحليله لنا في الآيات المتقدّمة وقد كان كذلك في شرائع [ الإسْلام ]{[7536]} من قبلنا ، أو يكون المراد منه { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ في ]{[7537]} بيان{[7538]} ما لكم فيه من المصلحة [ فإنَّ الشَّرائعَ ، وإن اختلفت في نفسها إلاَّ أنَّهَا متفقة في المصالح ]{[7539]} .

قوله : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } قال القاضي{[7540]} : معناه أنَّهُ تعالى كما أراد منّا نفس الطّاعة ، فلا جَرَمَ بيَّنَها وأزال الشُّبْهَةَ عنها وإذا وقع التَّقصيرُ والتَّفريط منَّا ؛ فيريد أن يتوبَ علينا ؛ لأنَّ المكلف قد يطيع فيستحق الثَّوابَ ، وقد يعصي فيحْتَاج إلى التلافي في التَّوبَةِ وفي التَّوْبَةِ وفي الآية إشكالٌ ، وهو أنَّ الحَقَّ إمَّا أن يكون قول أهل السُّنَّةِ [ من أنَّ فعل العبدِ ]{[7541]} مخلوقٌ للَّهِ [ وَإمَّا أن الحقَّ قولُ المعتزلة : من أنَّ فعلَ العبدِ ليسَ مخلوق اللَّهِ تعالى ؛ والآيةُ مُشْكَلَةٌ على القَوْلَيْنِ ]{[7542]} أمَّا على الأوَّلِ [ فلأنّ ]{[7543]} كلِّ مَا يريده الله تعالى [ فَإنَّهُ ]{[7544]} يحصلُ ، فإذا أرَادَ أن يتُوبَ علينا وأحبَّ أن تحصل التَّوْبَةَ لكلنا ، ومعلومٌ أنَّهُ ليس لذلك ، وأمَّا على القول الثَّاني : فهو تعالى يريدُ مِنَّا أن نتُوبَ باختيارنا ، وفعلنا وقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [ ظاهره ]{[7545]} مشعر بأنَّهُ تعالى هو الَّذي يخلق التَّوْبَةَ فينا .

فالجوابُ أن قوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } صريحٌ في أنَّهُ تعالى هو الذي يقبلُ التَّوْبَةَ فينا والعقل يؤكِّدُهُ ؛ لأنَّ التَّوْبَةَ عبارةٌ عن النَّدمِ في الماضي ، والعزم على التَّرْكِ في المستقبل ، والنَّدم والعزم من باب الإرادَاتِ ، والإرادةُ لا يمكن إرادتها وإلا لزم التَّسلسل ؛ فإذن الإرادةُ يمتنعُ أن تكونَ فعل الإنسان فعلمنا أن هذا النَّدم والعزم لا يحصلان إلا بتخليق اللَّهِ تعالى فَدَلَّ البرهانُ العقليُّ على صحَّةِ ما أشعر به القرآن ، وهو أنَّهُ تعالى [ هو ]{[7546]} الذي يتوبُ علينا .

وإن قالوا : لو تاب عليْنَا لحصلتْ هذه التَّوْبَةُ [ لهم فزاد هذا الإشكالُ واللَّهُ أعلم ]{[7547]} .

فنقولُ : قوله تعالى : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } خطابٌ مع الأمَّةِ ، وقد تابَ عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيَّات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التَّوْبَةِ لهم فَزَالَ الإشكالُ واللَّهُ أعلم .

[ ثم قال { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : ]{[7548]} [ عليم ]{[7549]} بمصالح عبادة حكيم في أمر دينهم ودنياهم وحكيم فيما دبَّرَ من أمورهم .


[7523]:سقط في ب.
[7524]:في أ: ليلازم.
[7525]:تقدم.
[7526]:ينظر: مجمع الأمثال 1/227.
[7527]:سقط في ب.
[7528]:سقط في أ.
[7529]:ينظر: الإملاء 1/176.
[7530]:سقط في أ.
[7531]:في ب: البصريون.
[7532]:سقط في ب.
[7533]:سقط في ب.
[7534]:في أ: كلما.
[7535]:ينظر: تفسير الرازي 10/54.
[7536]:سقط في ب.
[7537]:سقط في ب.
[7538]:في أ: إتيان.
[7539]:سقط في ب.
[7540]:ينظر تفسير الرازي 10/54.
[7541]:سقط في ب.
[7542]:سقط في ب.
[7543]:سقط في ب.
[7544]:سقط في ب.
[7545]:سقط في ب.
[7546]:سقط في ب.
[7547]:سقط في ب.
[7548]:سقط في ب.
[7549]:سقط في ب.