معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

قوله تعالى : { ربنا وابعث فيهم } . أي في الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل وقيل : في أهل مكة .

قوله تعالى : { رسولاً منهم } . أي مرسلاً منهم أراد به محمداً صلى الله عليه وسلم . حدثنا السيد أبو القاسم علي بن موسى ، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن عباس البلخي ، أنا الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي ، أنا محمد بن المكي ، أنا إسحاق بن إبراهيم ، أنا ابن أخي ابن وهب أنا عمي أنا معاوية ، عن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني عند الله مكتوب خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري : أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام " . وأراد بدعوة إبراهيم هذا فإنه دعا أن يبعث في بني إسماعيل رسولاً منهم .

قال ابن عباس : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

قوله تعالى : { يتلو } . يقرأ .

قوله تعالى : { عليهم آياتك } . كتابك يعني القرآن والآية من القرآن كلام متصل إلى انقطاعه وقيل هي جماعة حروف ، يقال خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم .

قوله تعالى : { ويعلمهم الكتاب } . يعني القرآن .

قوله تعالى : { والحكمة } . قال مجاهد : فهم القرآن ، وقال مقاتل : مواعظ القرآن وما فيه من الأحكام ، قال قتيبة : هي العلم والعمل ، ولا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما ، وقيل : هي السنة ، وقيل : هي الأحكام والقضاء ، وقيل : الحكمة الفقه . قال أبو بكر بن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة .

قوله تعالى : { ويزكيهم } . أي يطهرهم من الشرك والذنوب ، وقيل : يأخذ الزكاة من أموالهم ، وقال ابن كيسان : يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ ، من التزكية ، وهي التعديل .

قوله تعالى : { إنك أنت العزيز الحكيم } . قال ابن عباس : العزيز الذي لا يوجد مثله ، وقال الكلبي : المنتقم بيانه قوله تعالى { والله عزيز ذو انتقام } وقيل : المنيع الذي لا تناله الأيدي ولا يصل إليه شيء وقيل : القوي ، والعزة القوة قال الله تعالى : ( فعززنا بثالث ) أي قوينا وقيل : الغالب قال الله تعالى إخباراً : { وعزني في الخطاب } أي غلبني ، ويقال في المثل : من عز بز أي من غلب سلب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ } أي : في ذريتنا { رَسُولًا مِنْهُمْ } ليكون أرفع لدرجتهما ، ولينقادوا له ، وليعرفوه حقيقة المعرفة . { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } لفظا ، وحفظا ، وتحفيظا { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } معنى .

{ وَيُزَكِّيهِمْ } بالتربية على الأعمال الصالحة والتبري من الأعمال الردية ، التي لا تزكي النفوس{[100]}  معها . { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ } أي : القاهر لكل شيء ، الذي لا يمتنع على قوته شيء . { الْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها ، فبعزتك وحكمتك ، ابعث فيهم هذا الرسول . فاستجاب الله لهما ، فبعث الله هذا الرسول الكريم ، الذي رحم الله به ذريتهما خاصة ، وسائر الخلق عامة ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " أنا دعوة أبي إبراهيم "


[100]:- في ب: النفس.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

ثم ختم إبراهيم وإسماعيل دعواتهما بتلك الدعوة التي فيها خيرهم في الدنيا والآخرة ، فقالا - كما حكي القرآن عنهما : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } .

الضمير في قوله : { مِّنْهُمْ } يعود إلى الذرية أو الأمة المسلمة في قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } .

والرسول : من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه : وتلاوة الشيء : قراءته والمراد بقوله تعالى : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } يقرؤها عليهم قراءة تذكير وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع .

والآيات : جمع آية ، والمراد بها ما يشهد بوحدانية الله ، وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه ، أو المراد بها آيات القرآن الكريم فهو يتلوها عليهم ليحفظوها بألفاظها كما نزلت ، ويتعبدوا بتلاوتها ، وليعرفوا من فضل بلاغتها وروعة أساليبها وجهاً مشرقاً من وجوه إعجازها .

والكتاب : القرآن ، وتعلمه يكون ببيان معانيه وحقائقه ، ليعرفوا ما أقامه لهم من دلائل التوحيد وما اشتمل عليه من أحكام وحكم ومواعظ وآداب .

والحكمة : العلم النافع المصحوب بالعمل الواقع موقعه اللائق به . ووضعها بجانب الكتاب يرجح أن المراد بها السنة النبيوة المطهرة التي تنتظم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، إذ بالكتاب وبالسنة يعرف الناس أصلح الأعمال ، وأعدل الأحكام وأسنى الآداب ، وتنفتح لهم طرق التفقه في أسرار الدين ومقاصده .

ويزكيهم : أي يطهرهم من أرجاس الشرك ومن كل ما لا يليق التلبس به ظاهراً أو باطناً .

يقال : زكاة الله ، أي طهره وأصلحه ، ومنه زكاة المال لتطهره بها ، وأصل الزكاة - بالمد - النماء والزيادة ، يقال . زكا الزرع زكاء وزكوا ، أي نما .

والمعنى : ونسألك يا ربنا أن تبعث فثي الأمة المسلمة ، أو في ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك الدالة على وحدانيتك ، ويعلمهم كتابك بأن يبين لهم معانيه ، ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب ، كما يهديهم إلى الحكمة التي تتمثل في اتباع سنة نبيك - والتي بها يتم التفقه في الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده ، والتي يكمل بها العلم بالكتاب إنك يا مولانا أنت العزيز الحكيم .

أي القادر الذي لا يغلب على أمره ، العالم الذي يدبر الأمور على وفق المصلحة ، ومن كان قادراً على كل ما يريد ، عليما بوجوه المصالح ، كانت استجابته قريبة من دعاء الخير الصادر عن إخلاص وابتهال .

وقد جاءت ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة ؛ لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه ، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطير من كل ما لا يليق التلبس به في الظاهر ، أو الباطن .

وقد سأل إبراهيم وإسماعيل ربهما أن تكون بعثة الرسول في ذريتهما فيكون أمر الإِيمان قريبا منهم ، فإن نشأته بينهم ، ومعرفة سيرته قبل الرسالة وشهادتهم له بالصدق والأمانة ، وكل ذلك يحمل العقلاء على المبادرة إلى تصديقه فيما يبلغه عن ربه .

ولقد حقق الله تعالى دعوة هذين النبيين الكريمين ، فأرسل في ذريتهما رسولا منهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم أرسله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً .

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه دعوة إبراهيم ، فقال : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات المؤمنين يرين "

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

124

ثم ألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة :

( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . إنك أنت العزيز الحكيم ) . .

وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون . بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، يتلو عليهم آيات الله ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من الأرجاس والأدناس . إن الدعوة المستجابة تستجاب ، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته . غير أن الناس يستعجلون ! وغير الواصلين يملون ويقنطون !

وبعد فإن لهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان يشجر بين اليهود والجماعة المسلمة من نزاع عنيف متعدد الأطراف . إن إبراهيم وإسماعيل اللذين عهد الله إليهما برفع قواعد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والمصلين ، وهما أصل سادني البيت من قريش . . إنهما يقولان باللسان الصريح : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) . . ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) كما يقولان باللسان الصريح : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) . . وهما بهذا وذاك يقرر أن وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم ، ووراثتها للبيت الحرام سواء . وإذن فهو بيتها الذي تتجه إليه ، وهي أولى به من المشركين . وهو أولى بها من قبلة اليهود والمسيحيين !

وإذن فمن كان يربط ديانته بإبراهيم من اليهود والنصارى ، ويدعي دعاواه العريضة في الهدى والجنة بسبب تلك الوراثة ، ومن كان يربط نسبه بإسماعيل من قريش . . فليسمع : إن إبراهيم حين طلب الوراثة لبنيه والإمامة ، قال له ربه : ( لا ينال عهدي الظالمين ) . . ولما أن دعا هو لأهل البلد بالرزق والبركة خص بدعوته : ( من آمن بالله واليوم الآخر ) . . وحين قام هو وإسماعيل بأمر ربهما في بناء البيت وتطهيره كانت دعوتهما : أن يكونا مسلمين لله ، وأن يجعل الله من ذريتهما أمة مسلمة ، وأن يبعث في أهل بيته رسولا منهم . . فاستجاب الله لهما ، وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله ، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله . الوارثة لدين الله .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم - أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، أي من ذرية إبراهيم . وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَرَ الله السابق في تعيين محمد - صلوات الله وسلامه عليه{[2821]} - رسولا في الأميين إليهم ، إلى سائر الأعجمين ، من الإنس والجن ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين{[2822]} يَرَيْنَ " {[2823]} .

وكذلك{[2824]} رواه ابن وهب ، والليث ، وكاتبه عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، وتابعه أبو بكر بن أبي مريم ، عن سعيد بن سُويَد ، به .

وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا لقمان بن عامر : سمعت أبا أمامة قال : قلت : يا رسول الله ، ما كان أول بَدْء أمرك ؟ قال : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " {[2825]} .

والمراد أن أول من نَوّه بذكره وشهره في الناس ، إبراهيم{[2826]} عليه السلام . ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا ، وهو عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا ، وقال : { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] ؛ ولهذا قال في هذا الحديث : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بن مريم " .

وقوله : " ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " قيل : كان منامًا رأته حين حملت به ، وقَصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة . وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام ، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها . ولهذا جاء في الصحيحين : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " {[2827]} . وفي صحيح البخاري : " وهم بالشام " {[2828]} .

قال{[2829]} أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم . فقيل له : قد استجيبت لك ، وهو كائن في آخر الزمان . وكذا قال السدي وقتادة .

وقوله تعالى : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ } يعني : القرآن { وَالْحِكْمَةَ } يعني : السنة ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك وغيرهم . وقيل : الفهم في الدين . ولا منافاة .

{ وَيُزَكِّيهِمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني طاعة الله ، والإخلاص .

وقال محمد بن إسحاق { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } قال : يعلمهم الخير فيفعلوه ، والشر فيتقوه ، ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته ، وتجنبوا ما سخط من معصيته .

وقوله : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : العزيز الذي لا يعجزه شيء ، وهو قادر على كل شيء ، الحكيم في أفعاله وأقواله ، فيضع الأشياء في محالها ، وحكمته وعدله .


[2821]:في جـ: "صلى الله عليه وسلم".
[2822]:في أ: "المؤمنين".
[2823]:المسند (4/127).
[2824]:في جـ، ط: "وكذا".
[2825]:المسند (5/262).
[2826]:في جـ: "إبراهيم الخليل".
[2827]:هذا لفظ حديث ثوبان في صحيح مسلم برقم (1920) ورواه أيضا بنحوه من حديث معاوية برقم (1037) وهو في صحيح البخاري برقم (7460) من حديث معاوية رضي الله عنه برقم (7459) من حديث المغيرة رضي الله عنه.
[2828]:صحيح البخاري برقم (7460) من حديث معاذ رضي الله عنه.
[2829]:في جـ، ط: "وقال".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }

وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى » .

حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان الكلاعي : أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال «نعم ، أنا دَعْوَةُ أبي إبْرَاهِيمَ ، وبُشْرَى عِيسَى صلى الله عليه وسلم » .

حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، قال : حدثنا أبو اليمان ، قال : حدثنا أبو كريب ، عن أبي مريم ، عن سعيد بن سويد ، عن العرباض بن سارية السلمي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّي عِنْدَ اللّهِ فِي أُمّ الكِتابِ خَاتِمُ النّبِيّينَ وَإِنّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِه ، وَسَوْفَ أُنَبّئُكُمْ بِتَأوِيلِ ذَلِكَ : أنا دَعْوَة أبي إبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَه وَرُؤيا أُمي » .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية ، وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن معاوية بن صالح ، قالا جميعا ، عن سعيد بن سويد ، عن عبد الله بن هلال السلمي ، عن عرباض بن سارية السلمي ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن سعيد بن سويد ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن عرباض بن سارية أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكر نحوه .

وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { رَبّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } ففعل الله ذلك ، فبعث فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه ، يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { رَبنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } هو محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمُ } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : قد استجيب ذلك ، وهو في آخر الزمان . ويعني تعالى ذكره بقوله : { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُعَلّمهُم الكِتابَ وَالحِكْمَةَ } .

ويعني بالكتاب القرآن . وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن كتابا وما تأويله . وهو قول جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { ويعلمهم الكتاب } : القرآن .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هي السنة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، { والحكمة } : أي السنة .

وقال بعضهم : الحكمة هي المعرفة بالدين والفقه فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قلت لمالك : ما الحكمة ؟ قال : المعرفة بالدين ، والفقه في الدين ، والاتباع له .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَالحكْمَةَ قال : الحكمة : الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم يعلمهم إياها . قال : والحكمة : العقل في الدين وقرأ : { وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرا كَثِيرا } . وقال لعيسى :

{ وَيُعَلّمُهُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَإِلانْجِيلَ } . قال : وقرأ ابن زيد : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأ الّذِي آتَيْنَاهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْهَا } . قال : لم ينتفع بالاَيات حيث لم تكن معها حكمة . قال : والحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوّر له به .

والصواب من القول عندنا في الحكمة ، أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمعرفة بها ، وما دلّ عليه ذلك من نظائره . وهو عندي مأخوذ من «الحُكْمِ » الذي بمعنى الفصل بين الحقّ والباطل بمنزلة «الجِلسة والقِعدة » من «الجلوس والقعود » ، يقال منه : إن فلانا لحكيم بيّنُ الحكمة ، يعني به أنه لبيّن الإصابة في القول والفعل . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم ، وفصل قضائك ، وأحكامك التي تعلمه إياها .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُزَكّيهِمْ } .

قد دللنا فيما مضى قَبْلُ على أن معنى التزكية : التطهير ، وأن معنى الزكاة : النماء والزيادة . فمعنى قوله : { ويُزكيهِمْ } في هذا الموضع : ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان وينميهم ويكثرهم بطاعة الله . كما :

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُزَكّيهِمْ } قال : يعني بالزكاة ، طاعة الله والإخلاص .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : { وَيُزَكّيهِمْ } قال : يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه .

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } .

يعني تعالى ذكره بذلك : إنك يا ربّ أنت العزيز القويّ الذي لا يعجزه شيء أراده ، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك . والحكيم : الذي لا يدخل تدبيره خَلَلٌ ولا زَلَلٌ ، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا ، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ( 129 )

قوله تعالى : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } الآية ، هذا هو الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى »( {[1270]} ) ، ومعنى { منهم } أن يعرفوه ويتحققوا فضله ويشفق عليهم ويحرص ، { يتلو } في موضع نصب نعت لرسول أي تالياً عليهم ، ويصح أن يكون في موضع الحال ، والآيات آيات القرآن ، و { الكتاب } القرآن ، ونسب التعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها ويعلم طرق النظر بما يلقيه الله إليه ويوحيه ، وقال قتادة : { الحكمة } السنة وبيان النبي صلى عليه وسلم الشرائع( {[1271]} ) ، وروى ابن وهب عن مالك : أن الحكمة الفقه في الدين والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى ، و { يزكيهم } معناه يطهرهم وينميهم بالخير ، ومعنى الزكاة لا يخرج عن التطهير أو التنمية ، و { العزيز } الذي يغلب ويتم مراده ولا يرد ، و { الحكيم } المصيب مواقع الفعل المحكم لها .


[1270]:- فدعوة إبراهيم هي قوله تعالى: (وابعث فيهم رسولا) الآية، وقد حقق الله هذا الدعاء، و جعله في آخر الزمان، فكانت رسالته صلى الله عليه وسلم خاتمة للرسالات كلها.
[1271]:- هذا قول أكثر المفسرين، وهو الصحيح، ولا منافاة بينه وبين قول الإمام مالك: الحكمة الفقه في الدين والفهم الذي هو نور من الله تعالى، فالسنة هي التي تفقه في كتاب الله، والعمل بها هو النور، وبذلك تكون هي العلم والفهم والعمل والاتباع.