تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

127

المفردات :

الكتاب : القرآن

الحكمة : أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة . قال ابن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة ، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة . والحكمة أيضا وضع الأمور في مواضعها .

ويزكيهم : يطهر نفوسهم من دنس الشرك وضروب المعاصي .

العزيز : القوي الغالب .

الحكيم : الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة .

التفسير :

129- ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم .

ونسألك أن تتم على ذريتنا نعمتك بأن تبعث فيهم رسولا منهم لا من غيرهم يتحدث بلغتهم ويتلو عليهم آياتك البينات ، ويعلمهم معاني القرآن وأسراره ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب ويبين لهم أحكام الدين وأسرار الوحي وحكمة التشريع وأهداف الإسلام .

ويعلمهم الحكمة ، أي وضع الأمور في نصابها ويربيهم فيحسن تربيتهم ويرشدهم إلى اتباع السنة النبوية التي بها يتم التفقه في الدين ويطهرهم من دنس الشرك وقبح العادات .

إنك أنت العزيز : الغالب الذي لا يقهر .

الحكيم : المدبر عن حكمة وإتقان .

وقد جاء ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة ، لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه ، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطهير من كل ما يليق التلبس به في الظاهر أو الباطن .

لقد كان إبراهيم أبا وفيا أكثر الدعاء لذريته ، وطلب من الله أن يرزقها من الثمرات . ثم طلب من الله أن يبعث فيهم رسولا منهم يبين لهم الهداية والعبادة .

وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد قرون وقرون . بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، يقرأ القرآن ويبلغ الوحي ويعلم المسلمين ويبشر بالجنة ويحذر من النار ، ويؤدي رسالة ربه ، فكان نورا وهداية ودعوة مثمرة فيها الحياة والسعادة ، جمعت العرب ووحدتهم ولقنتهم التوحيد والإيمان ، والعلم والأحكام ، وصاروا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم .

لقد كان اليهود والنصارى يدعون أنهم أولى بإبراهيم ، ويربطون ديانتهم به ، ويدعون دعاوي عريضة في الهدى والجنة بسبب وراثتهم لإبراهيم . فأسمعهم القرآن أن إبراهيم حين طلب الإمامة لبنيه وورثته قال له ربه : لا ينال عهدي الظالمين . وحين طلب الرزق والثمرات والبركة خص بدعوته . من آمن منهم بالله واليوم الآخر .

وحين قام هو وإسماعيل ببناء البيت والتقرب إلى الله كانا يتضرعان إلى الله طلبا للقبول ، والتوفيق على الإسلام ، وهداية ذريتهما إلى طريق الإسلام ، ومناسكه ، وأن يبعث في هذه الذرية رسولا منهم ، فاستجاب الله لهما وأرسل من أهل البيت الحرام محمدا عبد الله وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله والوارثة لدين الله .

وقد أورد الحافظ ابن كثير حديثا طويلا رواه البخاري فيه : أن إبراهيم أخذ ولده إسماعيل وأمه هاجر قرب بيت الله الحرام ، وأخذت هاجر تسعى بين الصفا والمروة سبع مرات بحثا عن الماء . ثم سمعت صوت ملاك يبشرها بنبع زمزم ، ثم جاءت قبيلة جرهم واستأذنت من هاجر في أن تقيم حول البيت ، وشب إسماعيل وتزوج من قبيلة جرهم .

ثم جاء إبراهيم وقد كبر ولده إسماعيل فأخبر إبراهيم ولده أن الله يبني له بيتا ، فأعانه إسماعيل ، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم( 308 ) .

البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم :

بشرت برسول الله صلى الله عليه وسلم التوراة والإنجيل ، وكان صلى الله عليه وسلم استجابة لدعوة إبراهيم ، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلى الله عليه وسلم رسولا في الأميين ورسولا إلى سائر العالمين .

روى الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

«إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك : دعوة أبى إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين »( 309 ) .