البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

البعث : الإرسال ، والإحياء ، والهبوب من النوم .

العزيز ، يقال : عزيعز بضم العين ، أي غلب ، ومنه : { وعزني في الخطاب } ، وعز يعز بفتحها ، أي اشتد ، ومنه : عز علىَّ هذا الأمر ، أي شق ، وتعزز لحم الناقة : اشتد .

وعزيعز من النفاسة ، أي لا نظير له ، أو قل نظيره .

{ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } : لما دعا ربه بالأمن لمكة ، وبالرزق لأهلها ، وبأن يجعل من ذريته أمّة مسلمة ، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة ، وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية .

وقد تقدم معنى البعث في قوله : { ثم بعثناكم } ، والمراد هنا : الإرسال إليهم .

والضمير في فيهم يحتمل أن يعود على الذرية ، ويحتمل أن يعود على أمّة مسلمة ، ويحتمل أن يعود على أهل مكة ، ويؤيده قوله : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } ، ولا خلاف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصح عنه أنه قال : «أنا دعوة أبي إبراهيم » .

ولم يبعث الله إلى مكة وما حولها إلا هو صلى الله عليه وسلم .

وقرأ أبيّ : وابعث فيهم في آخرهم ، قال ابن عباس : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ومحمد صلى الله عليه وسلم .

ومنهم في موضع الصفة لرسولا ، أي كائناً منهم لا من غيرهم ، فهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته ، كما قال : { لقد منّ الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } ، ودعا بأن يبعث الرسول فيهم منهم ، لأنه يكون أشفق على قومه ، ويكونون هم أعز به وأشرف وأقرب للإجابة ، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته .

قال الربيع : لما دعا إبراهيم قيل له : قد استجيب لك ، وهو في آخر الزمان .

{ يتلوا عليهم آياتك } جملة في موضع الصفة لرسولاً .

وقيل : في موضع الحال منه ، لأنه قد وصف بقوله منهم ، ووصف إبراهيم الرسول بأنه يكون يتلو عليهم آيات الله ، أي يقرؤها ، فكان كذلك ، وأوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، وهو أعظم المعجزات .

وقبل الله دعاء إبراهيم ، فأتى بالمدعو له على أكمل الأوصاف التي طلبها إبراهيم ، والآيات هنا آيات القرآن .

وقيل : خبر من مضى ، وخبر من يأتي إلى يوم القيامة ، وقال الفضل : معناه يبين لهم دينهم .

{ ويعلمهم الكتاب } : هو القرآن ، والمعنى : أنه يفهمهم ويلقي إليهم معانيه .

وكان ترتيب التعليم بعد التلاوة ، لأنه أول ما يقرع السمع هو التلاوة والتلفظ بالقرآن ، ثم بعد ذلك تتعلم معانيه ويتدبر مدلوله .

وأسند التعليم للرسول ، لأنه هو الذي يلقي الكلام إلى المتعلم ، وهو الذي يفهمه ويتلطف في إيصال المعاني إلى فهمه ، ويتسبب في ذلك .

والتعليم يكون بمعنى التفهيم وحصول العلم للمتعلم ، ويكون بمعنى إلقاء أسباب العلم ، ولا يحصل به العلم ، ولذلك يقبل النقيضين ، تقول : علمته فتعلم ، وعلمته فما تعلم ، وذلك لاختلاف المفهومين من تعلم .

قال الزمخشري : يتلو عليهم آياتك : يقرأ عليهم ، ويبلغهم ما يوحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ، ويعلمهم الكتاب القرآن ، { والحكمة } : الشريعة وبيان الأحكام .

وقال قتادة : الحكمة : السنة ، وبيان النبي : الشرائع .

وقال مالك وأبو رزين : الحكمة ، الفقه في الدين ، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى .

وقال مجاهد : الحكمة : فهم القرآن .

وقال مقاتل : العلم والعمل به لا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما .

وقيل : الحكم والقضاء .

وقيل : ما لا يعلم إلا من جهة الرسول .

وقال ابن زيد : كل كلمة وعظتك ، أو دعتك إلى مكرمة ، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة .

وقال بعضهم : الحكمة هنا الكتاب ، وكررها توكيداً .

وقال أبو جعفر محمد بن يعقوب : كل صواب من القول ورّث فعلاً صحيحاً فهو حكمة .

وقال يحيى بن معاذ : الحكمة جند من جنود الله ، يرسلها الله إلى قلوب العارفين حتى يروّح عنها وهج الدنيا .

وقيل : هي وضع الأشياء مواضعها .

وقيل : كل قول وجب فعله .

وهذه الأقوال في الحكمة كلها متقاربة ، ويجمع هذه الأقوال قولان : أحدهما ، القرآن والآخر السنة ، لأنها المبينة لما أنبهم من الكتاب ، والمظهرة لوجوه الأحكام .

ويكون المعنى ، والله أعلم ، في قوله : { يتلو عليهم آياتك } ، أي يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته ، كما قال صلى الله عليه وسلم لأُبي : « إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن » ، وذلك لأن يتعلم أبي منه صلى الله عليه وسلم كيفية أداء القرآن ومقاطعه ومواصلة .

وفي قوله : { ويعلمهم الكتاب } ، أي يبين لهم وجوه أحكامه : حلاله وحرامه ، ومفروضه ، ومسنونه ، ومواعظه ، وأمثاله ، وترغيبه ، وترهيبه ، والحشر ، والنشر ، والعقاب ، والثواب ، والجنة والنار .

وفي قوله : والحكمة ، أي السنة تبين ما في الكتاب من المجمل ، وتوضح ما أنبهم من المشكل ، وتفصح عن مقادير ، وعن إعداد مما لم يتعرض الكتاب إليه ، ويثبت أحكاماً لم يتضمنها الكتاب .

{ ويزكيهم } باطناً من أرجاس الشرك وأنجاس الشك ، وظاهراً بالتكاليف التي تمحص الآثام وتوصل الإنعام .

قال ابن عباس : التزكية : الطاعة والإخلاص .

وقال ابن جريج : يطهرهم من الشرك .

وقيل : يأخذ منهم الزكاة التي تكون سبباً لطهرتهم .

وقيل : يدعوا إلى ما يصيرون به أزكياء .

وقيل : يشهد لهم بالتزكية من تزكية العدول ، ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية .

{ إنك أنت العزيز الحكيم } ، العزيز : الغالب ، أو المنيع الذي لا يرام ، قاله المفضل بن سلمة ، أو الذي لا يعجزه شيء ، قاله ابن كيسان ، أو الذي لا مثل له ، قاله ابن عباس ، أو المنتقم ، قاله الكلبي ، أو القوي ، ومنه فعزنا بثالث ، أو المعز ومنه : { وتعز من تشاء } الحكيم : قد تقدم تفسير الحكيم في قصة الملائكة وآدم في قوله :

{ إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } وأنت : يجوز فيها ما جاز في { أنت السميع العليم } قبل من الأعاريب .

وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما ، لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة ، وهي الغلبة أو القوّة ، أو عدم النظير ، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل ، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته .

وتقدّمت صفة العزيز على الحكيم لأنها من صفات الذات ، والحكيم من صفات الأفعال ، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها .

وفي المنتخب : يتلو عليهم آياتك : هي القرآن .

وقيل : الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته .

ومعنى التلاوة : تذكيرهم بها ودعاؤهم إليها وحملهم على الإيمان بها ، وحكمة التلاوة : بقاء لفظها على الألسنة ، فيبقى مصوناً عن التحريف والتصحيف ، وكون نظمها ولفظها معجزاً ، وكون تلاوتها في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة إلا أن الحكمة العظمى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام .

وقال القفال ، عبر بعض الفلاسفة عن الحكمة ، بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، وقيل الحكمة المتشابهات .

وقيل : الكتاب أحكام الشرائع ، والحكمة وجوه المصالح والمنافع فيها ، وقيل : كلها صفات للقرآن ، هو آيات ، وهو كتاب وهو حكمة .

انتهى ما لخص من المنتخب .

/خ131