الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

وقوله : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ . . } [ البقرة :129 ] .

هذا هو الذي أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله : ( أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ ، وبشرى عيسى ) ، ومعنى { مِّنْهُمْ } ، أي : يعرفُوهُ ، ويتحقَّقوا فضلَه ، ويشفق عليهم ، ويحرص .

( ت ) وقد تواتَرَتْ أخبار نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وبعثته في الكتب السالفة ، وعَلِمَ بذلك الأحْبارُ ، وأخبروا به ، وبتعيين الزَّمَن الذي يبعث فيه ، وقد روى البيهقيُّ أحمد بن الحُسَيْن ، وغيره ، عن طلحة بن عُبَيْد اللَّه - رضي اللَّه عنه - قَالَ : " حَضَرْتُ سُوقَ بصرى ، فَإِذَا رَاهِبٌ في صومعة ، يقول : سَلُوا أَهْلَ هَذَا المَوْسِمِ ، أفيهِمْ مَنْ هو مِنْ هذا الحَرَمِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا ، فما تَشَاءُ ؟ قَالَ : هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ ؟ قُلْتُ : ومَنْ أَحْمَدُ ؟ قَالَ : أحمدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ ، وَهُوَ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ ، مَخْرَجُهُ مِنَ الحَرَمِ ، وَمُهَاجَرُهُ إلى نَخْلٍ وَسِبَاخٍ ، إِذَا كَانَ ، فَلاَ تُسْبَقَنَّ إِلَيْهِ ، فَوَضَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ ، وَأَسْرَعْتُ اللَّحَاق بِمَكَّةَ ، فَسَأَلْتَ ، هَلْ ظَهَرَ بَعْدِي أَمْرٌ ؟ فَقَالُوا : مُحَمَّدٌ الأُمِّيُّ قَدْ تَنَبَّأَ ، وَتَبِعَهُ أبو بَكْرِ بْنُ أبِي قُحَافَةَ ، فَمَشَيْتُ إلى أَبِي بَكْرٍ ، وَأَدْخَلَنِي إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَسْلَمْتُ " ، وقد روى العُذْرِيُّ وغيره عن أبي بكر - رضي اللَّه عنه - أنَّه قَالَ : «لقيتُ شيخاً باليمن ، فقال لي : أنْتَ حَرَمِيٌّ ؟ فقلت : نعم ، فقال : وأحسبكَ قُرَشِيًّا ؟ قلت : نعم ، قال : بَقِيَتْ لِي فيكَ واحدةٌ ، اكشف لي عن بَطْنك ؟ قُلْتُ : لا أفعل ، أو تخبرني لِمَ ذلك ، قال : أجدُ في العلْمِ الصحيحِ أن نبيًّا يبعثُ في الحرمين ، يقارنه على أمره فتًى ، وكَهْل ، أمَّا الفتى ، فخوَّاض غمراتٍ ، ودفَّاع مُعْضِلاَتٍ ، وأما الكَهْل ، فأبيضُ نحيفٌ ، على بطنه شَامَةٌ ، وعلى فَخِذِهِ اليسرى علامةٌ ، وما عليك أنْ تريني ما سألتُكَ عَنْه ، فقد تكامَلَتْ فيك الصِّفَةُ ، إِلا ما خَفِيَ علَيَّ ، قال أبو بكر : فكَشَفْتُ له عَنْ بطني ، فرأى شامَةً سوداء فوق سُرَّتي ، فقالَ : أَنْتَ هو وربِّ الكعبة ، إِني متقدِّم إِليك في أمْرٍ ، قُلْتُ : مَا هُوَ ؟ قال : إِيَّاكَ ، والمَيْلَ عن الهدى ، وعليك بالتمسُّك بالطريقةِ الوسطى ، وخَفِ اللَّه فيما خَوَّلَكَ ، وأعطى ، قال أبو بكر : فلمَّا ودعتُهُ ، قال : أَتَحْمِلُ عنِّي إِلى ذلك النبيِّ أبياتاً ؟ قلت : نعم ، فأنشأ الشيخ يَقُولُ : [ الطويل ]

أَلَمْ تَرَ أَنِّي قَدْ سَئِمْتُ مُعَاشِرِي *** وَنَفْسِي وَقَدْ أَصْبَحْتُ فِي الحَيِّ عَاهِنَا

حَيِيتُ وَفِي الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ عِبْرَةٌ *** ثَلاَثَ مِئينَ بَعْدَ تِسْعِينَ آمِنَا

وَقَدْ خَمَدَتْ مِنِّي شَرَارَةُ قُوَّتِي *** وَأُلْفِيتُ شَيْخاً لاَ أُطِيقُ الشِّوَاحِنَا

وَأَنْتَ وَرَبِّ الَبْيتِ تَأْتِي مُحَمَّداً *** لِعَامِكَ هَذَا قَدْ أَقَامَ البَرَاهِنَا

فَحَيِّي رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي فَإِنَّنِي *** على دِينِهِ أَحْيَا وَإِنْ كُنْتُ قَاطِنَا

قال أبو بكر : فحفظْتُ شعره ، وقَدِمْتُ مكَّة ، وقد بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فجاءني صناديد قُرَيْشٍ ، وقالوا : يا أبا بكْرٍ ، يتيمُ أَبِي طالِبٍ ، يَزْعُم أنه نبيٌّ ، قال : فجئْتُ إلى منزلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقرعْتُ علَيْه ، فخرَجَ إِلَيَّ ، فَقُلْتُ : يَا مُحَمَّدُ ، فُقِدْتَ مِنْ مَنَازِلِ قَوْمِكَ ، وَتَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ ، فَقَالَ : ( يَا أَبَا بَكْرٍ ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ ، وَإِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ ، فَآمِنْ بِاللَّهِ ، فَقُلْتُ : وَمَا دَلِيلُكَ ؟ قَالَ : الشَّيْخُ الَّراهِبُ الَّذِي لَقِيتَهُ بِاليَمَنِ ، قُلْتُ : وَكَمْ مِنْ شَيْخٍ لَقِيتُ ؟ قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ أُرِيدُ ، إِنَّمَا أُرِيدُ الشَّيْخَ الَّذِي أَفَادَكَ الأَبْيَاتَ ، قُلْتُ : وَمَنْ أَخْبَرَكَ بِهَا ؟ قَالَ : الرُّوحُ الأمِينُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي الأَنْبِيَاءَ قَبْلِي ، قُلْتُ : مُدَّ يَمِينَكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فانصرفت وَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَشَدُّ مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فَرَحاً بِإِسْلاَمِي " .

انتهى من تأليف ابن القَطَّان في «الآياتِ والمعجزاتِ » .

و{ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك }[ البقرة :129 ] ، أي : آيات القُرآن ، و{ الكتاب } : القرآن ، قال قتادة : { والحكمة } السنة ، وروى ابن وهْب عن مالكٍ أن { الحكمة } : الفقْهُ في الدين ، والفهم الذي هو سجيَّة ونور من اللَّه تعالى .

( ت ) ونقل عِيَاضٌ في «مداركه » عن مالك أن { الحكمة } نورٌ يقذفه اللَّه في قلب العبد ، وقال أيضاً : يقع في قلبي أنَّ { الحكمة } الفقْهُ في دين اللَّه ، وأمر يدخلُه اللَّه القلُوبَ من رحمته وفَضْله ، وقال أيضاً : { الحكمة } التفكُّر في أمر اللَّه ، والاتِّباعُ له ، والفقْه في الدِّين ، والعمل به . انتهى .

وقد أشار ( ع ) إلى هذا عند قوله تعالى : { يُؤْتِي الْحِكْمَة مَن يَشَاءُ } [ البقرة : 269 ] .

( ت ) والظاهر أن المراد ب { الحكمة } هنا : ما قاله قتادة ، فتأمَّله .

{ وَيُزَكِّيهِمْ }[ البقرة :129 ] معناه يطَهِّرهم ، وينمِّيهم بالخَيْر ، و{ العزيز } : الَّذي يغلب ، ويتم مراده ، و{ الحكيم } : المصيبُ مواقعَ الفعْلِ ، المُحْكِمُ له .