اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

في ضمير " فيهم " قولان :

أحدهما : أنه عائد على معنى الأمة ؛ إذ لو عاد على لفظها لقال : " فيها " قاله أبو البقاء .

والثاني : أنه يعود على الذّرية بالتأويل المتقدم وقيل : يعود على أهل " مكة " ، ويؤيده : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] ، وفي قراءة أبي : " وَابْعَثْ فيهِمْ فِي آخِرِهُمْ رَسُولاً مِنْهُمْ " .

قوله : " مِنْهُمْ " في محلّ نصب ، لأنه صفة ل " رسولاً " ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : رسولاً كائناً منهم .

قال ابن الأنباري : يشبه أن يكون أصله من قولهم : ناقة مرْسَال ورسلة ، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النُّوق .

ويقال للجماعة المهملة المرسلة : رسل ، وجمعه أَرْسَال . ويقال : جاء القوم أَرْسالاً ، أي بعضهم في أثر بعض ، ومنه يقال للبن : رسل ، لأنه يرسل من الضرع . نقله القرطبي رحمه الله تعالى .

قوله : " يَتْلُو " في محلّ هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها في محلّ نصب صفة ثانية ل " رسولاً " ، وجاء هذا على الترتيب الأحسن ، إذ تقدم ما هو شبيه بالمفرد ، وهو المجرور على الجملة .

والثاني : أنها في محل نصب على الحال من " رسولاً " ؛ لأنه لما وصف تخصص .

الثالث : أنها حال من الضمير في " منهم " ، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلّق به " منهم " لوقوعه صفةً .

وتقدم قوله : " العزيز " ؛ لأنها صفة ذات ، وتأخر " الحكيم " ؛ لأنها صفة فعل .

ويقال : عَزَّ يَعُزُّ ، ويَعَزُّ ، ويعِزُّ ، ولكن باختلاف معنى ، فالمَضْمُوم بمعنى " غلب " ، ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } [ ص : 23 ] .

والمفتوح بمعنى [ الشدة ، ومنه : عزّ لحم الناقة ، أي : اشتد ، وعَزّ عليّ هذا الأمر ، والمكسور بمعنى ] النَّفَاسة وقلّة النظير .

فصل في الكلام على دعاء سيدنا إبراهيم

اعلم أن هذا الدعاء يفيد كمال حال ذرّيته من وجهين :

أحدهما : أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع .

والثاني : أن يكون المبعوث منهم لا من غيرهم ، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريته ، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها ، وإذا كان منهم ، فإنهم يعرفون مولده ومنشأه ، فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه ، وأمانته ، وكان أحرص الناس على خيرهم ، وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم .

أجمع المفسرون على أن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيْمَ وَبِشَارَةُ عِيْسَى{[1769]} " .

وأراد بالدعوة هذه الآية ، وبِشَارة عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكره في سورة " الصف " من قوله : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ }[ الصف : 6 ] .

وثالثها : أن إبراهيم عليه السَّلام إنما دعا بهذا الدعاء ب " مكة " لذريته الذين يكونون بها ، وبما حولها ، ولم يبعث الله تعالى إلى من ب " مكة " وما حولها إلاّ محمداً صلى الله عليه وسلم .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام من بني إسرائيل إلا عشرة : هود ونوح وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

قوله : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } فيه وجهان :

الأول : أنها الفُرْقان الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك ، فوجب حمله عليه .

الثاني : يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدَّالة على وجود الصَّانع وصفاته سبحانه وتعالى ، ومعنى تلاوته إيّاها عليهم : أنه كان يذكرهم بها ، ويدعوهم إليها ، ويحملهم على الإيمان بها .

قوله : " وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاب " أي : القرآن يعلمهم ما فيه من الدَّلائل والأحكام .

وأما الحكمة فهي : الإصابة في القول والعمل .

وقيل : أصلها من أحكمت الشيء أي رددته ، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ ، وهو راجع إلى ما ذكرنا من الإصابة في القول والعمل .

اختلف المفسرون [ في المراد بالحكمة ] هاهنا .

قال ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة ؟ قال : معرفة الدين ، والفقه فيه ، والاتباع له .

وقال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول قتادة .

قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه : والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً ، وتعليمه ثانياً ، ثم عطف عليه الحكمة ، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب ، وليس ذلك إلاَّ سُنّة الرسول عليه السلام .

فإن قيل : لم لا يجوز حَمْله على تعليم الدَّلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة ؟

فالجواب : لأن العقول مستقبلة كذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يُسْتفاد من الشرع أَوْلَى .

وقيل : الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل .

وقال مقاتل : هي مواعظ القرآن الكريم ، وما فيه من الأحكام .

وقال ابن قتيبة : هي العلم والعمل به .

وقيل : حكمة تلك الشرائع ، وما فيها من وجوه المصالح والمنافع .

وقيل : أراد بالكتاب الآيات المحكمة ، وأراد بالحكمة المتشابهات . [ وقال ابن دُريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة ] .

وأما قوله : " وَيُزَكِّيهِمْ " .

قال الحسن : يطهّرهم من شركهم .

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : التزكية هي الطاعة والإخلاص .

وقال ابن كيسان : يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا هم للأنبياء بالبلاغ لتزكية المزكي للشهود .

وقيل : يأخذ زكاة أموالهم . ولما ذكر هذه الدعوات ، فتمّمها بالثناء على الله تعالى فقال : { إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } .

و " العزيز " : هو القادر الذي لا يغلب ، و " الحكيم " : هو العليم الذي لا يجهل شيئاً .

[ واعلم أن " العزيز " و " الحكيم " بهذين التفسيرين صفة للذات ، وإذا أريد بالعزيز أفعال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه ، وأراد بالحكمة : أفعال الحكمة ، لم يكن " العزيز " و " الحكيم " من صفات الذات ، بل من صفات الفعل ، والفرق بين هذين النوعين : أن صفات الذات أزلية ، وصفات الفعل ليست كذلك ، وصفات الفعل أمور سببية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفعل ، وصفات الذات ليست كذلك .

فصل ]

[ و ] قال الكلبي : العزيز المنتقم لقوله تعالى : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ آل عمران : 4 ] .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : العزيز الذي لا يوجد مثله .

وقيل : المنيع الذي لا تناله الأيدي ، ولا يصل إليه شيء .

وقيل : القوي .

والعزّة القوة ، لقوله تعالى : { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } [ يس : 14 ] أي قوينا .

وقيل : الغالب ، لقوله : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } [ ص : 23 ] أي غلبني ، ويقال : من عزيز أي من غلب .

واعلم أن مناسبة قوله : { أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } لهذا الدعاء هو أن العزيز هو القادر ، والحكيم هو العالم بوضع الأشياء في مواضعها ، ومن كان عالماً قادراً فهو قادر على أن يبعث فيهم رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم .


[1769]:- أخرجه أحمد في المسند (4/127-128). وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (1/69). وابن سعد في الطبقات (1/1/96)- وابن عساكر: 1/39. والطبري في التفسير (1/435)- وذكره القرطبي في التفسير 2/131- والسيوطي في الدر المنثور: 1/139، 5/207- والهندي في كنز العمال حديث رقم 31833، 31834، 31835، 31889.