فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

{ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ، ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } .

{ وتب علينا } أي تجاوز عنا والمراد بالتوبة التثبيت ، لأنهما معصومان لا ذنب لهما وقيل المراد وتب على الظلمة منا { إنك أنت التواب } أي المتجاوز عن عباده { الرحيم } بهم .

{ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } ضمير فيهم راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقا وقرأ أبي في آخرهم ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الذرية وهم العرب من ولد إسماعيل ، وقد أجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة فبعث في ذريته رسولا منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أخبر عن نفسه أنه دعوة إبراهيم كما أخرجه أحمد من حديث العرباض ابن سارية{[131]} وغيره{[132]} ومراده هذه الدعوة ، وقد أجمع على ذلك المفسرون ، لأن إبراهيم إنما دعا لذريته وهو بمكة ولم يبعث من ذريته بمكة غير محمد صلى الله عليه وسلم ، فدل على أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم ، والرسول هو المرسل ، قال ابن الأنباري : يشبه أن يكون أصله ناقة مرسال ومرسلة إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق ، ويقال جاء القوم أرسالا أي بعضهم في إثر بعض .

{ يتلو عليهم آياتك } وهو القرآن { ويعلمهم الكتاب } أي معاني الكتاب من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام الشرعية ، والكتاب هو القرآن

{ والحكمة } أي ويعلمهم الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل ، ووضع كل شيء موضعه ، والمراد بالحكمة هنا المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم للشريعة ، وقال قتادة : هي السنة وقيل هي الفصل بين الحق والباطل ، وقال ابن قتيبة : هي العلم والعمل ، ولا يكون الرجل حكيما حتى يجمعهما ، وقال ابن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة ، وقيل أن المراد بالآيات ظاهر الألفاظ ، والكتاب معانيها ، والحكمة الحكم وهو مراد الله بالخطاب وقيل غير ذلك { ويزكيهم } التزكية التطهير من الشرك وسائر المعاصي { إنك أنت العزيز الحكيم } أي الذي لا يعجزه شيء قاله ابن كيسان ، وقال الكسائي : العزيز الغالب والحكيم العالم .


[131]:أحمد ابن حنبل 4/127-128 5/262.
[132]:قوله تعالى: {ربنا وابعث لنا فيهم رسولا منهم} في الهاء والميم من {فيهم} قولان. أحدهما: أنها تعود على الذرية، قاله مقاتل والفراء: على أهل مكة في قوله، {وارزق أهله} والمراد بالرسول: محمد صلى الله عليه وسلم وقد روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال: {دعوة أبي إبراهيم، وبشرى وعيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام} رواه أبو داوود الطيالي وأحمد في {المسند} عن أبي أمامة وفي مسنده الفرج بن فضالة وهو ضعيف وجاء الحديث بمعناه في {مسند أحمد} عن العرباض بن سارية، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر.