فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (129)

{ ابعث } أرسل . { رسولا } نبيا يدعوهم إليك وإلى شرعتك .

{ يتلو } يقرأ ، يتبع ، يتابع . { آياتك } جمع آية قيل سميت كذلك لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام ؛ أو لأن الآية من القرآن كالعلامة التي يفضي منها غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية . { الكتاب } القرآن .

{ الحكمة } السنة ، وقد تعني الإصابة في القول والعمل جميعا .

{ يزكيهم { يطهرهم ، برفع قدرهم .

{ العزيز } الذي لا ند له ولا مثيل ، والذي يغلب ولا يغلب .

{ الحكيم } الذي لا يفوته الصواب _ والحكمة : وضع الشيء في موضعه_ أو : الحاكم ، أو المانع من أراد أن يلم بسوء ، أو يناله خسارة .

{ ربنا وابعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } هذا التضرع إلى الله الحميد المجيد من أبي الأنبياء إبراهيم الخليل ، وابنه الصديق إسماعيل ، عليهما صلوات ربنا وسلامه دعوة للأمة الخاتمة : أن تتم عليها النعمة ببعثه النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد استجاب الله القريب المجيب فأرسل فينا مبعوثه ومصطفاه يرشد ويبصر ويهدي بوحي الله للتي هي أقوم ، ويعلمنا المنهاج الأعز الأكرم ، فعظمت بذلك المنة { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون }{[466]} وإنها لمن آيات ربنا الكبرى أن يجمع برسوله الأمة من شتات ، ويحييها برشده من موات : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }{[467]} . وبهذا عظمت منته عز وتبارك : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }{[468]} -{ ربنا وابعث فيهم } أي أرسل في الأمة المسلمة وقيل : في الذرية . . . . { رسولا منهم } أي من أنفسهم ، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم ، ويكونوا أعز به وأشرف . . . ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لا من ذريتهما{[469]} _ وقد جاء في الأثر ما شهد لهذا{[470]} ؛ والمفسرون مجمعون على أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المراد ، وإجماعهم حجة ؛ وكانت طلبة إبراهيم عليه السلام أن يرسل النبي المرتجى يقرأ على الأمة آيات{[471]} الله ويتابع تذكيرها بآلاء المنعم وبرهان جلاله ، بما يشاهدون من بديع صنعه وسابغ أفضاله ؛ { ويعلمهم الكتاب } يبين لهم معاني القرآن المجيد _ وذلك أن التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا من التحريف ، ولأن لفظه ونظمه معجز ، وفي تلاوته نوع عبادة ولا سيما في الصلوات ، إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام{[472]} _ { والحكمة } الإصابة في القول والعمل جميعا ، فلا يسمى حكيما إلا وقد اجتمع فيه الأمران ، فيضع كل شيء موضعه ؛ أوالمراد بها السنة ؛ وعن ابن وهب : قلت لمالك : ما الحكمة ؟ قال : معرفة الدين والفقه فيه ، والاتباع له ؛ وعن قتادة _ وإليه ذهب الشافعي _ هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقيل : هي الفصل بين الحق والباطل ؛ { ويزكيهم } يطهرهم ، وينميهم ، ويصلحهم {[473]} { إنك أنت العزيز الحكيم } -أي الغالب المحكم لما يريد{[474]} ، وعن ابن جرير أنك يا رب أنت العزيز القوي الذي لا يعجزه شيء أراده فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك والحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك ا ه .


[466]:سورة البقرة الآية 151.
[467]:من سورة الجمعة الآية 2.
[468]:من سورة آل عمران. الآية 164.
[469]:ما بين العارضتين من روح المعاني.
[470]:روى الإمام وغيره من العرباض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال {سأخبركم بأول أمري أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني} ولما كان إسماعيل عليه السلام شريكا في الدعوة مع أبيه إبراهيم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة إسماعيل أيضا إلا أنه خص إبراهيم لأنه أصل لهما وأصل في الدعاء فأما البشارة فهي التي أتت في الذكر الحكيم {وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد...} من سورة الصف من الآية 6. وأما الرؤية فما رأت أمه منه وهي حامل أنه خرج منها نور أضاء ما بين المشرق والمغرب.
[471]:الآيات جمع آية وأصلها بمعنى العلامة قيل سميت الجملة من الكتاب العزيز كذلك لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام أو لأن الآية من القرآن كالعلامة التي يفضي منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية.
[472]:ما بين العارضتين مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن.
[473]:ومنه قوله تعالى {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة...} أي عملا صالحا وقوله سبحانه {وحنانا من لدنا وزكاة...}أي عملا صالحا.
[474]:ما بين العارضتين من روح المعاني.