{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي{[374]} : يكون في حد وشق مبعد عن اللّه ورسوله بأن تهاون بأوامر اللّه ، وتجرأ على محارمه .
{ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } الذي لا خزي أشنع ولا أفظع منه ، حيث فاتهم النعيم المقيم ، وحصلوا على عذاب الجحيم عياذا باللّه من أحوالهم{[375]} .
{ 64 - 66 } { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ }
ثم توعدهم - سبحانه - بسوء المصير بسبب مخالفتهم لله ورسوله فقال :
{ أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا } .
وقوله : { يُحَادِدِ } من المحادة بمعنى المخالفة والجانبة والمعاداة ، مأخذوة من الحد بمعنى الجانب ، كأن كل واحد من المتخاصمين في جانب غير جانب صاحبه . ويقال : حاد فلان فلانا ، إذا صار في غير حده وجهته بأن خالفه وعاداه .
والاستفهام في الآية الكريمة للتوبيخ والتأنيب وإقامة الحجة .
والمعنى : ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين مردوا على الفسوق والعصيان أنه من يخالف تعاليم الله ورسوله ، فجزاؤه نار جهنم يصلاها يوم القيامة خالداً فيها ؟ ! إن كانوا لا يعلمون ذلك - على سبيل الفرض - فأعلمهم يا محمد بسوء مصيرهم إذا ما استمروا على نفاقهم ومعاداتهم لله ولرسوله .
قال الجمل ما ملخصه : " من " شرطية مبتدأ . وقوله : { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } في موضع المبتدأ المحذوف الخبر ، والتقدير . فحق أن له نار جهنم ، أى : فكون نار جهنم له أمر حق ثابت . وهذه الجملة جواب من اشلرطية ، والجملة الشرطية ، أى مجموع اسم الشرط وفعله والجزاء خبر أن الأولى ، وهى { أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ } وجملة أن الثانية واسمها وخبرها سدت مسد مفعولى يعلم إن لم يكن بمعنى العرفان ، ومسد مفعوله أى الواحد إن كان بمعنى العرفان .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك الخزي العظيم } يعود على ما ذكر من العذاب أى : ذلك الذي ذكرناه من خلودهم في النار يوم القيامة هو الذل العظيم ، الذي يتضاء أمامه كل خزى وذلك في الدنيا .
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا جانباً من راذئل المنافقين وأكاذيبهم ، وتوعدتا كل مخالف لأوامر الله روسوله بسوء المصير .
( ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها ، ذلك الخزي العظيم ) سؤال للتأنيب والتوبيخ ، فإنهم ليدعون الإيمان ، ومن يؤمن يعلم أن حرب اللّه ورسوله كبرى الكبائر ، وأن جهنم في انتظار من يرتكبها من العباد ، وأن الخزي هو الجزاء المقابل للتمرد . فإذا كانوا قد آمنوا كما يدعون ، فكيف لا يعلمون ?
إنهم يخشون عباد اللّه فيحلفون لهم ليرضوهم ، ولينفوا ما بلغهم عنهم . فكيف لا يخشون خالق العباد ، وهم يؤذون رسوله ، ويحاربون دينه . فكأنما يحاربون اللّه ، تعالى اللّه أن يقصده أحد بحرب ! إنما هو تفظيع ما يرتكبون من إثم ، وتجسيم ما يقارفون من خطيئة ، وتخويف من يؤذون رسول اللّه ، ويكيدون لدينه في الخفاء .
وقوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا } {[13592]} أي : ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حاد{[13593]} الله ، أي : شاقه وحاربه وخالفه ، وكان في حَدٍّ والله ورسوله في حدٍّ { فأن له نار جهنم خالدا فيها } أي : مهانًا معذبا ، { ذلك الخزي العظيم } أي : وهذا هو الذل العظيم ، والشقاء الكبير .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يحلفون بالله كذبا للمؤمنين ليرضوهم وهم مقيمون على النفاق ، أنه من يحارب الله ورسوله ويخالفهما فيناوئهما بالخلاف عليهما ، فأنّ لَهُ نارَ جَهَنّمَ في الاَخرة ، خالِدا فِيها يقول : لابثا فيها ، مقيما إلى غير نهاية . ذلكَ الخِزْيُ العَظِيمُ يقول : فلبثه في نار جهنم وخلوده فيها هو الهوان والذلّ العظيم . وقرأت القرّاء : فَأنّ بفتح الألف من «أن » بمعنى : ألم يعلموا أن لمن حادّ الله ورسوله نار جهنم ، وإعمال «يعلموا » فيها ، كأنهم جعلوا «أن » الثانية مكرّرة على الأولى ، واعتمدوا عليها ، إذ كان الخبر معها دون الأولى . وقد كانت بعض نحويي البصرة يختار الكسر في ذلك على الابتداء بسبب دخول الفاء فيها ، وأن دخولها فيها عنده دليل على أنها جواب الجزاء ، وأنها إذا كانت جواب الجزاء كان الاختيار فيها الابتداء . والقراءة التي لا أستجيز غيرها فتح الألف في كلام الحرفين ، أعني «أن » الأولى والثانية ، لأن ذلك قراءة الأمصار ، وللعلة التي ذكرت من جهة العربية .
وقوله { ألم يعلموا } الآية ، قولهم { ألم } تقرير ووعيد ، وفي مصحف أبي بن كعب «ألم تعلم » على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو وعيد لهم ، وقرأ الأعرج والحسن «ألم تعلموا » بالتاء ، و { يحادد } معناه يخالف ويشاق ، وهو أن يعطي هذا حده وهذا حده لهذا ، وقال الزجاج : هو أن يكون هذا في حد وهذا في حد ، وقوله { فإن } مذهب سيبويه أنها بدل من الأولى وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى ، والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد إذ لم يتم جواب الشرط ، وتلك الجملة هي الخبر ، وأيضاً فإن الفاء تمانع البدل ، وأيضاً فهي في معنى آخر غير الأول فيقلق البدل ، وإذا تلطف للبدل فهو بدل الاشتمال وقال غير سيبويه : هي مجردة لتأكيد الأولى وقالت فرقة من النحاة : هي في موضع خبر ابتداء تقديره فواجب أن له ، وقيل المعنى فله أن له ، وقالت فرقة : هي ابتداء والخبر مضمر تقديره فإن له نار جهنم واجب ، وهذا مردود لأن الابتداء ب «أن » لا يجوز مع إضمار الخبر ، قاله المبرد : وحكي عن أبي علي الفارسي قول يقرب معناه من معنى القول الثالث من هذه التي ذكرنا لا أقف الآن على لفظه ، وجميع القراء على فتح «أن » الثانية ، وحكى الطبري عن بعض نحويي البصرة أنه اختار في قراءتها كسر الألف ، ذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة ابن أبي عبلة ، ووجهه في العربية قوي لأن الفاء تقتضي القطع والاستئناف ولأنه يصلح في موضعها الاسم ويصلح الفعل وإذا كانت كذلك وجب كسرها{[5764]} .