قوله تعالى : { ومنهم أميون } . أي من اليهود أميون لا يحسنون القراءة والكتابة ، جمع أمي ، منسوب إلى الأم كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يتعلم كتابة ولا قراءة . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنا أمة أمية " لا نكتب ولا نحسب وقيل : هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة .
قوله تعالى : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } . قرأ أبو جعفر : أماني بتخفيف الياء ، كل القرآن حذف إحدى الياءين تخفيفاً ، وقراءة العامة بالتشديد ، وهي جمع الأمنية وهي التلاوة ، قال الله تعالى : { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أي في قراءته .
قال أبو عبيدة : إلا تلاوته وقراءة عن ظهر القلب لا يقرؤونه من كتاب ، وقيل : يعلمونه حفظاً وقراءة لا يعرفون معناه . وقال ابن عباس : يعني غير عارفين بمعاني الكتاب ، وقال مجاهد وقتادة : إلا كذباً وباطلاً ، قال الفراء : الأماني : الأحاديث المفتعلة ، قال عثمان رضي الله عنه : ما تمنيت منذ أسلمت أي ما كذبت ، وأراد بها الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم ثم أضافوها إلى الله من تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، وقال الحسن و أبو العالية : هي من التمني ، وهي أمانيهم الباطلة التي يتمنونها على الله عز وجل مثل قولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } وقولهم : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } وقولهم :{ نحن أبناء الله وأحباؤه } فعلى هذا لا يكون بمعنى لكن أي لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أشياء يحصل لهم .
قوله تعالى : { وإن هم } . وما هم .
قوله تعالى : { إلا يظنون } . يعني وما يظنون إلا ظناً وتوهماً لا يقيناً ، قاله قتادة والربيع ، وقال مجاهد : يكذبون .
{ وَمِنْهُمْ } أي : من أهل الكتاب { أُمِّيُّونَ } أي : عوام ، ليسوا من أهل العلم ، { لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ } أي : ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط ، وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم ، وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم .
فذكر في هذه الآيات علماءهم ، وعوامهم ، ومنافقيهم ، ومن لم ينافق منهم ، فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال ، والعوام مقلدون لهم ، لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين .
ثم بين القرآن الكريم بعد ذلك حال عوام اليهود ومقلديهم ، بعد أن بين حال علمائهم ومنافقيهم فقال تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أي : ومن اليهود قوم أميون لا يحسنون الكتابة ، ولا يعلمون من كتابهم التوراة سوى أكاذيب اختلقها لهم علماؤهم أو أمنيات باطلة يقدرونها في أنفسهم بدون حق ، أو قراءات عارية عن التدبر والفهم ، وقصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة اليقين المبني على البرهان القاطع والدليل الساطع .
فالآية الكريمة فيها زيادة تيئيس للمؤمنين من إيمان كافة اليهود بفرقهم المختلفة . فإنهم قد وصلوا إلى حال من الشناعة لا مطمع معها في هداية ، فعلماؤهم محرفون لكتاب الله على حسب أهوائهم وشهواتهم ، وعوامهم لا يعرفون من كتابهم إلا الأكاذيب والأوهام التي وضعها لهم أحبارهم ، وأمة هذا شأن علمائها وعوامها لا ينتظر منها أن تستجيب للحق أو أن تقبل على الصراط المستقيم .
و ( الأماني ) - بالتشديد - جمع أمنية ، مأخوذة من تمنَّى الشيء أي : أحب أن يحصل عليه ، أو من تمنى إذا كذب ، أو من تمنى الكتاب أي قرأه .
فإن فسرنا الأماني بالأول كان قوله تعالى { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه : إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات .
وإن فسرناها بالكذب ، كان قوله تعالى : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه : إلا ما يقرءونه من قراءات خالية من التدبر ، وعارية عن الفهم . من قوله تمنى كتاب الله أول ليله . . . أي قرأ .
هذا ، وقد رجح ابن جرير تفسير ( الأماني ) بالأكاذيب فقال : ما ملخصه " وأولى ما روينا في تأويل قوله تعالى : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } بالصواب ، أن هؤلاء الأميين لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئاً ، ولكنهم يتخرصون الكذب ، ويتقولون الأباطيل كذباً وزوراً ، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله بدليل قوله تعالى بعد { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظناً منهم لا يقيناً " .
والذي نراه أن المعاني الثلاثة للأماني تنطبق على اليهود ، وكلها حصلت منهم ؛ وما دام يصدق عليهم المعاني الثلاثة لغة فجميعها مرادة من الآية ، ولا معنى لأن نشتغل بترجيح بعضها على بعض كما فعل ابن جرير وغيره .
وعلى أي تفسير من هذه التفاسير للأماني ، فالاستثناء منقطع ، لأن أي واحد من هذه المعاني ليس من علم الكتاب الحقيقي في شيء .
وفي قوله تعالى : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } زيادة تجهيل لهم ، لأن أمنياتهم هذه من باب الأوهام التي لا تستند إلى دليل أو شبه دليل ، أو من باب الظن الذي هو ركون النفس إلى وجه من وجهين يحتملهما الأمر دون أن تبلغ في ذلك مرتبة القطع واليقين . وهذا النوع من العلم لا يكفي في معرفة أصول الدين التي يقوم عليها الإِيمان العميق ، فهم ليسوا على علم يقيني من أمور دينهم ، وإنما هم يظنونها ظناً بدون استيقان ، والظن لا يغني من الحق شيئاً .
ثم يستطرد يقص على المسلمين من أحوال بني إسرائيل : إنهم فريقان . فريق أمي جاهل ، لا يدري شيئا من كتابهم الذي نزل عليهم ، ولا يعرف منه إلا أوهاما وظنونا ، وإلا أماني في النجاة من العذاب ، بما أنهم شعب الله المختار ، المغفور له كل ما يعمل وما يرتكب من آثام ! وفريق يستغل هذا الجهل وهذه الأمية فيزور على كتاب الله ، ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة ، ويكتم منه ما يشاء ، ويبدي منه ما يشاء ويكتب كلاما من عند نفسه يذيعه في الناس باسم أنه من كتاب الله . . كل هذا ليربح ويكسب ، ويحتفظ بالرياسة والقيادة :
( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ، ثم يقولون : هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا . فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون ) . .
يقول تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أي : ومن أهل الكتاب ، قاله مجاهد : والأميون جمع أمي ، وهو : الرجل الذي لا يحسن الكتابة ، قاله أبو العالية ، والربيع ، وقتادة ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغير واحد {[2049]} وهو ظاهر في قوله تعالى : { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [ إِلا أَمَانِيَّ ] }{[2050]} أي : لا يدرون ما فيه . ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمي ؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [ العنكبوت : 48 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا " الحديث . أي : لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ }
وقال ابن جرير : نسبت العرب من لا يكتب ولا يَخُط من الرجال إلى أمِّه في جهله بالكتاب دون أبيه ، قال : وقد روي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[2051]} قول خلاف هذا ، وهو ما حدثنا به أبو كُرَيب : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } قال : الأميون قوم لم يصدِّقوا رسولا أرسله الله ، ولا كتابًا أنزله الله ، فكتبوا كتابًا بأيديهم ، ثم قالوا لقوم سَفلة جُهَّال : { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وقال : قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ، ثم سماهم أميين ، لجحودهم كتب الله ورسله . ثم قال ابن جرير : وهذا التأويل{[2052]} على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم . وذلك أن الأمي عند العرب : الذي لا يكتب{[2053]} .
قلت : ثم في صحة هذا عن ابن عباس ، بهذا الإسناد ، نظر . والله أعلم .
قوله{[2054]} تعالى : { إِلا أَمَانِيَّ } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : { إِلا أَمَانِيَّ } إلا أحاديث .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِلا أَمَانِيَّ } يقول : إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبًا . وقال مجاهد : إلا كذبًا . وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ } قال : أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا ، وكانوا يتكلمون بالظن{[2055]} بغير ما في كتاب الله ، ويقولون : هو من الكتاب ، أمانيّ يتمنونها . وعن الحسن البصري ، نحوه .
وقال أبو العالية ، والربيع وقتادة : { إِلا أَمَانِيَّ } يتمنون على الله ما ليس لهم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { إِلا أَمَانِيَّ } قال : تمنوا فقالوا : نحن من أهل الكتاب . وليسوا منهم .
قال ابن جرير : والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس ، وقال مجاهد : إن الأميين الذين وصفهم الله أنهم لا يفقهون من الكتاب - الذي أنزل{[2056]} الله على موسى - شيئًا ، ولكنهم يَتَخَرَّصُون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذبًا وزورًا . والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه . ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : " ما تغنيت ولا تمنيت " . يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب{[2057]} .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } ولا يدرون ما فيه ، وهم يجحدون{[2058]} نبوتك بالظن .
وقال مجاهد : { وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } يكذبون .
وقال قتادة : وأبو العالية ، والربيع : يظنون الظنون بغير الحق .
{ وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { ومِنْهُمْ أُمّيون } ومن هؤلاء اليهود الذين قصّ الله قصصهم في هذه الاَيات ، وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم ، فقال لهم : { أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } وهم إذا لقوكم قالوا آمنا . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ يعني من اليهود .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ } قال : أناس من يهود .
قال أبو جعفر : يعني بالأميين : الذين لا يكتبون ولا يقرءون ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنّا أُمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ » يقال منه رجل أميّ بيّن الأمية . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثني سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن منصور عن إبراهيم : { وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ } قال : منهم من لا يحسن أن يكتب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ومِنْهُمْ أُمّيّونَ } قال : أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود .
ورُوي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول ، وهو ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ } قال : الأميون قوم لم يصدّقوا رسولاً أرسله الله ، ولا كتابا أنزله الله ، فكتبوا كتابا بأيديهم ، ثم قالوا لقوم سفلة جهال : هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ . وقال : قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله .
وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم ، وذلك أن الأميّ عند العرب هو الذي لا يكتب .
قال أبو جعفر : وأرى أنه قيل للأمي أمي نسبة له بأنه لا يكتب إلى أمه ، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء ، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : «إنّا أمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ » وكما قال : { هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الامّيَينَ رَسُولاً مِنْهُمْ } فإذا كان معنى الأمي في كلام العرب ما وصفنا ، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي من أن معنى قوله : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ } : ومنهم من لا يحسن أن يكتب .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِيّ } .
يعني بقوله : { لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ } لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله ، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم ، كالذي :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِيّ } إنما هم أمثال البهائم لا يعلمون شيئا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ الكِتاب } يقول : لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ } لا يَدْرُونَ ما فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ } قال : لا يدرون بما فيه .
حدثنا بشر ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ } لا يعلمون شيئا ، لا يقرءون ، التوراة ليست تستظهر إنما تقرأ هكذا ، فإذا لم يكتب أحدهم لم يستطع أن يقرأ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ } قال : لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله .
قال أبو جعفر : وإنما عنى بالكتاب : التوراة ، ولذلك أدخلت فيه الألف واللام لأنه قصد به كتاب معروف بعينه . ومعناه : ومنهم فريق لا يكتبون ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم ، وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به من أحكام الله وفرائضه وما فيه من حدوده التي بينها فيه ، إِلاّ أمانِيّ فقال بعضهم بما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { إلا أماني } يقول : إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذبا .
حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } إلا كذبا .
حدثني المثني قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
وقال آخرون بما حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة : الأماني يقول : يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم . حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } يقول : إلا أحاديث .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ } قال : أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا ، وكانوا يتكلمون بالظنّ بغير ما في كتاب الله ، ويقولون هو من الكتاب ، أمانيّ يتمنونها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { إلاّ أمانِيّ } يتمنون على الله ما ليس لهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إلاّ أمانِيّ } قال : تمنوا فقالوا : نحن من أهل الكتاب . وليسوا منهم .
وأولى ما روينا في تأويل قوله : { إلاّ أمانِيّ } بالحقّ وأشبهه بالصواب ، الذي قاله ابن عباس ، الذي رواه عنه الضحاك ، وقول مجاهد : إن الأميين الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا ، ولكنهم يتخرّصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذبا وزورا . والتمني في هذا الموضع ، هو تخلق الكذب وتخرّصه وافتعاله ، يقال منه : تمنيت كذا : إذا افتعلته وتخرّصته . ومنه الخبر الذي رُوي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : «ما تغنّيت ولا تمنيت » . يعني بقوله ما تمنيت : ما تخرّصت الباطل ولا اختلقت الكذب والإفك .
والذي يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك وأنه أولى بتأويل قوله : { إلاّ أمانِيّ } من غيره من الأقوال ، قول الله جل ثناؤه : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنّا منهم لا يقينا . ولو كان معنى ذلك أنهم يتلونه لم يكونوا ظانين ، وكذلك لو كان معناه : يشتهونه لأن الذي يتلوه إذا تدبره علمه ، ولا يستحقّ الذي يتلو كتابا قرأه وإن لم يتدبره بتركه التدبير أن يقال : هو ظانّ لما يتلو إلا أن يكون شاكّا في نفس ما يتلوه لا يدري أحقّ هو أم باطل . ولم يكن القوم الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود فيما بلغنا شاكين في التوراة أنها من عند الله . وكذلك المتمني الذي هو في معنى المتشهي غير جائز أن يقال : هو ظانّ في تمنيه ، لأن التمني من المتمني إذا تمنى ما قد وجد عينه ، فغير جائز أن يقال : هو شاك فيما هو به عالم لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد ، والمتمني في حال تمنيه موجود غير جائز أن يقال : هو يظنّ تمنيه . وإنما قيل : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ } والأماني من غير نوع الكتاب ، كما قال ربنا جل ثناؤه : { ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّباعَ الظّنّ } ، والظنّ من العلم بمعزل ، وكما قال : { وَما لأِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ اَلأعْلَى } . وكما قال الشاعر :
لَيْسَ بَيْنِي وَبَينَ قَيْسٍ عِتابُ *** غيرَ طَعْنِ الكُلَى وَضَرْبِ الرّقابِ
حَلَفْتُ يَمِينا غيرَ ذِي مَثْنَوِيّةٍ *** وَلا عِلْمَ إلاّ حُسْنَ ظَنّ بِغائِبِ
في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب .
ويخرج ب«إلاّ » ما بعدها من معنى ما قبلها ، ومن صفته ، وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الاَخر ومن غير نوعه ، ويسمي ذلك بعض أهل العربية استثناء منقطعا لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد إلا عن معنى ما قبلها . وإنما يكون ذلك كذلك في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان «إلا » «لكن » ، فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول ، ألا ترى أنك إذا قلت : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ } ثم أردت وضع «لكن » مكان «إلا » وحذف «إلا » ، وجدت الكلام صحيحا معناه صحته وفيه «إلا » ؟ وذلك إذا قلت : " وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ " لكن أماني ، يعني لكنهم يتمنون ، وكذلك قوله : " ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّباعَ الظّنّ " لكن اتباع الظنّ ، بمعنى : لكنهم يتبعون الظنّ ، وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا .
وقد ذكر عن بعض القرّاء أنه قرأ : «إلاّ أمانِيَ » مخففة ، ومن خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم المفتاح مفاتح ، والقرقور قراقر ، وأن ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الأصلية ، أعني من الأماني ، كما جمعوا الأثفية أثافي مخففة ، كما قال زهير بن أبي سلمى :
أثَافِيَ سُفْعا فِي مُعَرّسِ مِرَجَلٍ *** ونُؤْيا كجِذْمِ الحَوْضِ لَمْ يَتَثَلّمِ
وأما من ثقل : " أمانِيّ " فشدّد ياءها فإنه وجه ذلك إلى نحو جمعهم المفتاح مفاتيح ، والقرقور قراقير ، والزنبور زنابير ، فاجتمعت ياء فعاليل ولامها وهما جميعا ياءان ، فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا ياء واحدة مشددة .
فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارىء في ذلك فتشديد ياء الأمانيّ ، لإجماع القرّاء على أنها القراءة التي مضى على القراءة بها السلف ، مستفيض ذلك بينهم غير مدفوعة صحته ، وشذوذ القارىء بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك وكفى خطأ على قارىء ذلك بتخفيفها إجماعا على تخطئته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } .
يعني بقوله جل ثناءه : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّون } «وما هم » كما قال جل ثناؤه : { قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَحْنُ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } يعني بذلك : ما نحن إلا بشر مثلكم . ومعنى قوله : " إلاّ يَظُنّونَ " ألا يشكون ولا يعلمون حقيقته وصحته ، والظنّ في هذا الموضع الشك ، فمعنى الآية : ومنهم من لا يكتب ولا يخطّ ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه إلا تخرّصا وتقوّلاً على الله الباطل ظنا منه أنه محقّ في تخرّصه وتقوّله الباطل . وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظنّ أنهم محقون وهم مبطلون ، لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله ، ولم تكن من كتاب الله ، فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتبعون ما هم فيه شاكون ، وفي حقيقته مرتابون مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله ، ومخالفة منهم لأمر الله واغترارا منهم بإمهال الله إياهم . وبنحو ما قلنا في تأويل قوله : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } قال فيه المتأوّلون من السلف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } : إلا يكذبون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ وإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } أي لا يعلمون ولا يدرون ما فيه ، وهم يجحدون نبوّتك بالظنّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } قال : يظنون الظنون بغير الحقّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : يظنون الظنون بغير الحقّ .
حدثت عن عمارة ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب } جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة ، ويتحققوا ما فيها . أو التوراة { إلا أماني } استثناء منقطع . والأماني : جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر ، ولذلك تطلق ، على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدا من المحرفين أو مواعيد فارغة . سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة . وقيل إلا ما يقرأون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله :
تمنى كتاب الله أول ليله *** تمني داود الزبور على رسل
وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون . { وإن هم إلا يظنون } ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم ، وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع ، وإن جزم به صاحبه : كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة .
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } ( 78 )
و { أميون } هنا عبارة عن جهلة بالتوراة ، قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما : المعنى ومن هؤلاء اليهود المذكورين ، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم ، أي إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال ، وقيل : المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين ، وقال عكرمة والضحاك : هم في الآية نصارى العرب ، وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قال : هم المجوس . والضمير في { منهم } على هذه الأقوال هو للكفار أجمعين ، قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقول أبي العالية ومجاهد وجه( {[838]} ) هذه الأقوال ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «أميون » بتخفيف الميم ، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ، نسب إلى الأم : إما لأنه بحَال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه ، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب ، قاله الطبري ، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها ، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة ، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك ، وقيل نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف ، فإنها لا تقرأ لا تكتب ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في العرب : «إنا أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب »( {[839]} ) ، والحديث : والألف واللام في { الكتاب } للعهد ، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد . والأماني جمع أمنية ، وقرأ أبو جعفر وشيبة( {[840]} ) ونافع في بعض ما روي عنه «أماني » بتخفيف الياء( {[841]} ) ، وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة( {[842]} ) ، ويجمع هذا الوزن على أفاعل ، وعلى هذا يجب تخفيف الياء ، ويجمع على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في الياء فجاء «أماني » .
واختلف في معنى { أماني } ، فقالت طائفة : هي هنا من تمني الرجل إذا ترجى( {[843]} ) ، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه شيئاً سمعه ، فيتمنى أنه من الكتاب ، وقال آخرون : هي من تمنى إذا تلا ، ومنه قوله تعالى { إلا إذا ألقى الشيطان في أمنيته }( {[844]} ) [ الحج : 52 ] ومنه قول الشاعر [ كعب بن مالك ] : [ الطويل ]
تمنى كتاب الله أول ليله . . . وآخرة لاقى حمام المقادِرِ( {[845]} )
فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم لهم بصحته ، وقال الطبري : هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق كذب ، وذكر أهل اللغة أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق الحديث ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه( {[846]} ) : «ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت » .
فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من الكتاب ، وإن نافية بمعنى ما ، والظن هنا على بابه في الميل( {[847]} ) إلى أحد الجائزين .
معطوف على قوله : { وقد كان فريق منهم يسمعون } [ البقرة : 75 ] عطف الحال على الحال و { منهم } خبر مقدم وتقديمه للتشويق إلى المسند إليه كما تقدم في قوله تعالى : { ومن الناس من يقول } [ البقرة : 8 ] والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجي والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضاً في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم فالفريق الأول هم الماضون . وعلى هذا فجملة { ومنهم أميون } معطوفة على جملة { وقد كان فريق منهم } إلخ باعتبار كونها معادلاً لها من جهة ما تضمنته من كونها حالة فريق منهم وهذه حالة فريق آخر . وأما قوله : { وإذا لقوا } [ البقرة : 76 ] وقوله : { وإذا خلا } [ البقرة : 76 ] فتلك معطوفات على جملة { وقد كان فريق } عطف الحال على الحال أيضاً لكن باعتبار ما تضمنته الجملة الأولى من قوله : { يسمعون } الذي هو حال من أحوال اليهود وبهذا لا يجيء في جملة { ومنهم أميون } التخيير المبني على الخلاف في عطف الأشياء المتعددة بعضها على بعض هل يجعل الأخير معطوفاً على ما قبله من المعطوفات أو معطوفاً على المعمول الأول لأن ذلك إذا كان مرجع العطف جهة واحدة وهنا قد اختلفت الجهة .
والأمي من لا يعرف القراءة والكتابة والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي ، وقيل : منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي إنه بقي على الحالة التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه فلم يكتسب علماً جديداً ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها وقد قالوا في جمع الأم : أمهات فردُّوا المفرد إلى أصله فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاماً قد يقع فيها تغيير لأصلها .
وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا : { ومنهم أميون } أي ليس جميعهم أهل كتاب . ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلاً } [ آل عمران : 75 ] وقال ابن صَيَّاد للنبيء صلى الله عليه وسلم « أشهد أنك رسول » وذلك لما تقتضيه الأميين من قلة المعرفة ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أميًّا قبل النبوءة وقد قال أبو الوليد الباجي : إن الله علّم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استناداً لحديث البخاري في صلح الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته في كتاب « المدارك » لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه .
والكتاب إما بمعنى التوراة اسم للمكتوب وإما مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده : { إلا أماني } فعلى الوجه الأول يكون قوله : { لا يعلمون الكتاب } أثراً من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علماً مختلطاً حاصلاً مما يسمعونه ولا يتقنونه ، وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفاً كاشفاً لمعنى الأميين كقول أوس بن حجر :
الألمعي الذي يظن بك الظ *** ن كأن قد رأى وقد سمعا
والأمانيُّ بالتشديد جمع أُمْنِيَّة على وزن أفاعيل وقد جاء بالتخفيف فهو جمع على وزن أفاعل عند الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتِح ومفاتيح ، والأمنية كأثْفِيَّة وأُضحية أفْعُولة كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة ، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك والأكاذيب والأغاليط ، مشتقة من مَنَى كرمى بمعنى قدَّر الأمرَ ولذلك قيل تمنى بمعنى تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر ، ومنَّاه أي جعله مَانياً أي مقدِّراً كناية عن الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليومَ إلى تقدير حصوله غداً ، وهكذا كما قال كعب بن زهير :
فلا يَغُرَّنْك ما مَنَّت وما وعدت *** إن الأَماني والأحلامَ تضليل
ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقاً لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة ، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقاً وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها ، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعاً ، أو هي التقادير التي وضعها الأحبار موضع الوَحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلاً وهذا أظهر الوجوه .
وقيل : الأماني هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين ، وقد قيل الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظوها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء عثمان رضي الله عنه :
تمنَّى كتابَ الله أوَّلَ لَيْلِهِ *** وآخِرَه لاَقى حمام المَقَادِر
أي قرأ القرآن في أول الليل الذي قُتل في آخره .
وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدَّعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماءَ فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلاً فإن غي العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالماً ، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحداً من هاته المعاني ليس من علم الكتاب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني}...: من اليهود من لا يقرأ التوراة إلا أن يحدثهم عنها رءوس اليهود،
{وإن هم إلا يظنون} في غير يقين ما يستيقنون به، فإن كذبوا رءوس اليهود أو صدقوا تابعوهم باعترافهم، فليس لهم بالتوراة علم إلا ما حدثوا عنها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ومِنْهُمْ أُمّيون}: ومن هؤلاء اليهود الذين قصّ الله قصصهم في هذه الآيات، وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، فقال لهم: {أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} وهم إذا لقوكم قالوا آمنا...
يعني بالأميين: الذين لا يكتبون ولا يقرءون، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنّا أُمّةٌ أُمّيّةٌ؛ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ»...
ورُوي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول... {وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ} قال: الأميون قوم لم يصدّقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله.
وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن الأميّ عند العرب هو الذي لا يكتب.
وأرى أنه قيل للأمي أمي نسبة له بأنه لا يكتب إلى أمه، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «إنّا أمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ» وكما قال: {هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الامّيَينَ رَسُولاً مِنْهُمْ}. فإذا كان معنى الأمي في كلام العرب ما وصفنا، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي من أن معنى قوله: {وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ}: ومنهم من لا يحسن أن يكتب.
{لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِيّ}.
{لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ}: لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم...لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله.
وإنما عنى بالكتاب: التوراة، ولذلك أدخلت فيه الألف واللام لأنه قصد به كتاب معروف بعينه. ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم، وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به من أحكام الله وفرائضه وما فيه من حدوده التي بينها فيه.
"إِلاّ أمانِيّ" فقال بعضهم... عن ابن عباس: {إلا أماني} يقول: إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذبا.
حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {لا يعلمون الكتاب إلا أماني} إلا كذبا.
وقال آخرون: الأماني: يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم...
"إلا أماني": إلا أحاديث... أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا، وكانوا يتكلمون بالظنّ بغير ما في كتاب الله، ويقولون هو من الكتاب؛ أمانيّ يتمنونها... يتمنون على الله ما ليس لهم.
وأولى ما روينا في تأويل قوله: {إلاّ أمانِيّ} بالحقّ وأشبهه بالصواب، الذي قاله ابن عباس، الذي رواه عنه الضحاك، وقول مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا، ولكنهم يتخرّصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذبا وزورا. والتمني في هذا الموضع، هو تخلق الكذب وتخرّصه وافتعاله، يقال منه: تمنيت كذا: إذا افتعلته وتخرّصته. ومنه الخبر الذي رُوي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: «ما تغنّيت ولا تمنيت». يعني بقوله ما تمنيت: ما تخرّصت الباطل ولا اختلقت الكذب والإفك.
والذي يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك وأنه أولى بتأويل قوله: {إلاّ أمانِيّ} من غيره من الأقوال، قول الله جل ثناؤه: {وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ} فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنّا منهم لا يقينا. ولو كان معنى ذلك أنهم يتلونه لم يكونوا ظانين، وكذلك لو كان معناه: يشتهونه لأن الذي يتلوه إذا تدبره علمه، ولا يستحقّ الذي يتلو كتابا قرأه وإن لم يتدبره بتركه التدبير أن يقال: هو ظانّ لما يتلو إلا أن يكون شاكّا في نفس ما يتلوه لا يدري أحقّ هو أم باطل. ولم يكن القوم الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود فيما بلغنا شاكين في التوراة أنها من عند الله. وكذلك المتمني الذي هو في معنى المتشهي غير جائز أن يقال: هو ظانّ في تمنيه، لأن التمني من المتمني إذا تمنى ما قد وجد عينه، فغير جائز أن يقال: هو شاك فيما هو به عالم لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد، والمتمني في حال تمنيه موجود غير جائز أن يقال: هو يظنّ تمنيه. وإنما قيل: {لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ} والأماني من غير نوع الكتاب، كما قال ربنا جل ثناؤه: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّباعَ الظّنّ}، والظنّ من العلم بمعزل، وكما قال: {وَما لأِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ اَلأعْلَى}...
{وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ}: «وما هم» كما قال جل ثناؤه: {قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَحْنُ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} يعني بذلك: ما نحن إلا بشر مثلكم. ومعنى قوله: "إلاّ يَظُنّونَ" إلا يشكون، ولا يعلمون حقيقته وصحته. والظنّ في هذا الموضع الشك، فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخطّ ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه إلا تخرّصا وتقوّلاً على الله الباطل ظنا منه أنه محقّ في تخرّصه وتقوّله الباطل. وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظنّ أنهم محقون وهم مبطلون، لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله، ولم تكن من كتاب الله، فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعون ما هم فيه شاكون، وفي حقيقته مرتابون مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله، ومخالفة منهم لأمر الله واغترارا منهم بإمهال الله إياهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
{وإن هم إلا يظنون}... المراد بذلك نفي العلم عنهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أخبر أنهم متفاوتون في نقائص كفرهم؛ فقومٌ منهم أخَسُّ درجةً وأكثر جهلاً ركنوا إلى التقليد، ولم يملكهم استيلاء شبهة، بل اغتروا بظنِّ وتخمين، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها، دون معرفة معانيها. ومنهم مَنْ أكثرُ شأنه ما يتمناه في نفسه، ولا يساعده إمكان، ولا لظنونه قط تحقيق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ أَمَانِي} إلا ما هم عليه من أمانيهم، وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة...
ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم والاستيقان، ثم العوامّ الذين قلدوهم، ونبه على أنهم في الضلال سواء، لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظنّ وهو متمكن من العلم...
اعلم أن المراد بقوله: {ومنهم أميون} اليهود لأنه تعالى لما وصفهم بالعناد وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم،
فالفرقة الأولى هي الفرقة الضالة المضلة، وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
والفرقة الثالثة: الذين يجادلون المنافقين،
والفرقة الرابعة: هم المذكورون في هذه الآية وهم العامة الأميون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم، فبين الله تعالى أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحدا بل لكل قسم منهم سبب آخر ومن تأمل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمة، فإن فيهم من يعاند الحق ويسعى في إضلال الغير وفيهم من يكون متوسطا، وفيهم من يكون عاميا محضا مقلدا...
أحدها: أن المعارف كسبية لا ضرورية، فلذلك ذم من لا يعلم ويظن.
وثانيها: بطلان التقليد مطلقا، وهو مشكل لأن التقليد في الفروع جائز عندنا.
وثالثها: أن المضل وإن كان مذموما،فالمغتر بإضلال المضل أيضا مذموم لأنه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة.
ورابعها: أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز والله أعلم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قال أبو بكر الأنباري:... وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله عز وجل: {وإن هم إلا يظنون}، أراد إلا يكذبون...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وإن هم إلا يظنون}:... أتى بالخبر فعلاً مضارعاً، ولم يأت باسم الفاعل، لأنه يدل على حدوث الظن وتجدده لهم شيئاً فشيئاً، فليسوا ثابتين على ظن واحد، بل يتجدد لهم ظنون دالة على اضطراب عقائدهم واختلاف أهوائهم...
وفي هذه الآية دليل على... أن القول بغير دليل باطل.
قال ابن عرفة: يؤخذ منه ذم التقليد لكن في الباطل، ولا نزاع فيه...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
نبهنا الله تعالى بذم الأميين، على اكتساب المعارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه. وبذم زعمائهم، على تحرّي الصدق وتجنب الإضلال، إذ هو أعظم من الضلال.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذلك الذي تقدم هو شأن علمائهم: يحرفون كتاب الله ويخرجون من حكمه بالتأويل، وهذا هو شأن عامتهم: لا علم لهم بشيء من الكتاب، ولا معرفة لهم بالأحكام، وما عندهم من الدين فهو أماني يتمنونها وتجول صورها في خيالاتهم، وهذه الصور هي كل ما عندهم من العلم بدينهم، وما على بينة منها، وإنما هي ظنون يلهون بها. وهذا هو محل الذم لا مجرد كونهم أميين، فإن الأمي قد يتلقى العلم عن العلماء الثقات ويعقله عنهم بدليله فيكون علمه صحيحا وهؤلاء لم يكونوا كذلك. فإن قيل: لم سمى ما كانوا عليه من الأماني ظنا مع أنهم أخذوه عن رؤساء دينهم الموثوق بهم عندهم وسلموه تسليما، فلم يكن في نفوسهم ما يخالفه ومثل هذا يسمى اعتقادا وعلما؟ نقول إنما العلم بالدليل ولا يسمي مثل ذلك علما إلا من لا يعرف معنى العلم. على أنه لم يكن راجحا ومسلما إلا لأن مقابله لم يخطر ببالهم ولو أورد عليهم لتزلزل ما عندهم ثم زال، أو ظهر فيه الشك وتطرق إليه الاحتمال، ويصح أن يقال في مثل هؤلاء إن الظن أو التردد كان نائما في نفوسهم وهو عرضة لأن يوقظه نقيضه ويذهب به متى طرأ. ونوم الظن لا يصح أن يسمى اعتقادا.
قال الأستاذ الإمام: هذه الأماني توجد في كل الأمم في حال الضعف والانحطاط يفتخرون بما بين أيديهم من الشريعة وبسلفهم الذين كانوا مهتدين بها وبما لهم من الآثار التي كانت ثمرة تلك الهداية، وتسول لهم الأماني أن ذلك كاف في نجاتهم وسعادتهم وفضلهم على سائر الناس. هكذا كان اليهود في زمن التنزيل وقد اتبعنا سنتهم وتلونا تلوهم فظهر فينا تأويل الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع "وإننا نقرأ أخبارهم فنسخر منهم ولا نسخر من أنفسنا، ونعجب لهم كيف رضوا بالأماني ونحن غارقون فيها. ثم إن الآية تدل على بطلان التقليد وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه، وقد مضى على هذا إجماع الصدر الأول وأهل القرون الثلاثة، وإنما كان الجاهل يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها، والأحكام بروايتها، ولا يتقلد رأيه كيفما كان، من غير بينة ولا برهان، وفسر بعضهم الأماني بالأكاذيب ابتداء، ومنهم من فسرها بالقراءات أي أنهم لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل. فهو على حد {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) وهذا النوع من التمني قد برّز فيه المسلمون حتى سبقوا من قبلهم فقد أمسوا أكثر الأمم تلاوة لكتابهم، وأقلهم فهما له واهتداء به.
قال الأستاذ الإمام: إنما يحسن تفسير هذه الآيات من كان على علم بتاريخ اليهود في ذلك العصر ووقوف على حالهم، وإن كانت إلا نسخة من حال بعض الشعوب الموجودين الآن... كانوا أكثر الناس مراء وجدالا في الحق وإن كان بينا باهرا، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس بالباطل كالربا الفاحش وغشا وتدليسا وتلبيسا، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص وأفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان. فهذه هي الأماني التي صدتهم عن قبول الإسلام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجي والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضاً في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم...
وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا: {ومنهم أميون} أي ليس جميعهم أهل كتاب. ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75]...
ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقاً لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقاً وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعاً، أو هي التقادير التي وضعها الأحبار موضع الوَحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلاً وهذا أظهر الوجوه...
وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدَّعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماءَ فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلاً فإن غي العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالماً، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحداً من هاته المعاني ليس من علم الكتاب...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الجملة، الأماني التي يعلم الأميون من أهل الكتاب مضمون كتابهم بها هي ما يكون متفقا مع ما يتمنون، فلا يعلمونه تكليفات وأحكاما، فيها حساب، وثواب أو عقاب، إنما يعلمونه رغبات تتحقق، وأهواء تثبت، ومثلهم كمثل عوام المسلمين، الذين يقولون أمة الإسلام على خير، ولو لم يعملوا أي عمل، بل لو لم يعملوا عملا صالحا قط، و لو زنوا أو سرقوا، وسكروا، وعبثوا في كل معبث، ولم يتركوا منكرا إلا ارتكبوه، وسدوا باب الجهاد، وكانوا كلا على أعدائهم يتصرفون في مصائرهم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
مما كشفته هذه الآيات من الحقائق، أن صفة (الأمية) التي كان بنو إسرائيل يعيبون بها العرب، متبجحين بتفوقهم عليهم في القراءة والكتابة، لم تكن قاصرة عليهم وحدهم، بل كانت خصلة شائعة بين بني إسرائيل أنفسهم، رغما عن ادعاءاتهم المزيفة وتظاهرهم بعكسها من العلم والمعرفة. وهكذا تفضحهم الآية الكريمة أمام المسلمين والناس أجمعين، عندما تنطق بالأمر الواقع الذي ليس له من دافع، فتقول: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)}...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
من فوائد الآية: أن الأُمّية يوصف بها من لا يقرأ، ومن يقرأ ولا يفهم؛ لقوله تعالى: {ومنم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني}...
ومنها: ذم من لا يعتني بمعرفة معاني كتاب الله عزّ وجلّ...
ومنها: أن من لا يفهم المعنى فإنه لا يتكلم إلا بالظن؛ لقوله تعالى: {وإن هم إلا يظنون}؛ العامي يقرأ القرآن من أوله إلى آخره، لكن لا يفهم معناه؛ فإذا تكلم في حكم من أحكام الله الشرعية التي دل عليها الكتاب فإنما كلامه عن ظن؛ لأنه في الحقيقة لا يعلم؛ ولا يمكن أن يعلم إلا إذا فهم المعنى...
ومنها: ذم الحكم بالظن، وأنه من صفات اليهود؛ وهذا موجود كثيراً عند بعض الناس الذين يحبون أن يقال عنهم: "إنهم علماء؛ تجده يفتي بدون علم، وربما أفتى بما يخالف القرآن، والسنة وهو لا يعلم...
ومنها: أن المقلد ليس بعالم؛ لأنه لا يفهم المعنى؛ وقد قال ابن عبد البر: "إن العلماء أجمعوا أن المقلد لا يعد في العلماء"؛ وهو صحيح: المقلد ليس بعالم؛ غاية ما هنالك أنه نسخة من كتاب؛ بل الكتاب أضبط منه؛ لأنه قد ينسى؛ وليس معنى ذلك أننا نذم التقليد مطلقاً؛ التقليد في موضعه هو الوا؟؟ب؛ لقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النمل: 43..]...
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
الآية الكريمة تنادي بالضلال والخسران على الذين يسعون وراء الأوهام متنكبين عن الصراط السوي المؤدي الى الحقيقة الواضحة، وهم الذين رضوا بالجهل بديلا عن العلم، وبالتقاليد الموروثة، والزور المتداول بدلا عن الحق الذي أنزله الله وأقام عليهم حجته، ورفع لهم مناره، وما أكثر هؤلاء في كل أمة، وأشد بلاءهم في كل زمان، فإذا ناداهم منادي الحقيقة سدوا منافذ آذانهم خشية أن تنجذب نفوسهم إلى صوته، وإذا لاح لهم نور الحق غمضوا أعينهم وولوا معرضين لئلا يكتشفوا شيئا من عوارهم، فمثلهم كمثل الخفافيش تأنس بالظلمة، وتستوحش من الضياء...