محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمِنۡهُمۡ أُمِّيُّونَ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّآ أَمَانِيَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ} (78)

ولما ذكر العلماءَ من اليهود الذين عاندوا بالتحريف ، مع العلم والاستيقان ، مع ذكر العوامَّ الذين قلدوهم ، ونبَّه على أنهم في الضلال سواء . لأن العالِمَ عليه أن يعمل بعلمه ، وعلى العامّيّ أن لا يرضى بالتقليد والظن ، وهو متمكن من العلم ، فقال : { ومنهم أميّون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنون 78 } .

{ ومنهم أميّون } أي لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة ، فيؤمنوا . { لا يعلمون الكتاب } أي التوراة ، أي لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق { إلا أمانيّ } بالتشديد جمع أمنية ، أصلها أُمْنُويَة ( أفْعُولَة ) فأُعِلَّتْ إعلالَ سيّد ، وميّت . مأخوذة من تمني الشيء : قدّره وأحب أن يصير إليه . أو من تمنّى : كذب . أو من تمنّى الكتاب : قرأه . وعلى كل فالاستثناء منقطع ، إذ ليس ما يُتمنى ، وما يُختلق وما يُتلى ، من جنس علم الكتاب . أي لا يعلمون الكتاب . لكن يتمنون / أمانيّ حسبما منَّتْهم أحبارُهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم . وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم . وغير ذلك من أمانيّهم الفارغة . المستندة إلى الكتاب ، على زعم رؤسائهم . أو لا يعلمون الكتاب ، لكن أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم . فتقبلوها على التقليد . أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم . فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه .

قال ابن جرير : وأوْلى ما روينا في تأويل قوله : { إلا أماني } أن هؤلاء الأميين لا يفقهون ، من الكتاب الذي أنزله الله ، شيئا . ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذبا وزورا . والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرّصه وافتعاله . بدليل قوله تعالى بعدُ : { وإن هم إلا يظنّون } فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنا منهم ، لا يقينا .

وقال أبو مسلم الأصفهانيّ : حَمْلُهُ على تمني القلب أولى . بدليل قوله تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى * تلك أمانيّهم } {[630]} أي تمنيهم . وقال الله تعالى : { ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب * من يعمل سوءا يجز به } {[631]} وقال : { تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم } {[632]} ، { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر * وما لهم بذلك من علم * إن هم إلا يظنون } {[633]} بمعنى يقدّرون ويخرصون . ورجح كثيرون حمله على القراءة ، كقوله تعالى : / { إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } {[634]} إذ في الاستثناء ، حينئذ ، نوع تعلق بما قبله . فيكون أليقَ في طريقة الاستثناء . و{ إن هم إلا يظنون } ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد ، من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم . فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ؟

( تنبيه ) :

قال الراغب : قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم . فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة . واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم . وهم قد ضلوا وأضلوا . ونبهنا الله تعالى بذم الأميين ، على اكتساب المعارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه . وبذم زعمائهم ، على تحرّي الصدق وتجنب الإضلال . إذ هو أعظم من الضلال اه .


[630]:[2/ البقرة/ 111].
[631]:[4/ النساء/ 123] ونصها: {ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا 123}.
[632]:[2/ البقرة/ 11].
[633]:[45/ الجاثية/ 24].
[634]:[22/ الحج/ 52] ونصها: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم 52}.