واعلم أنه تعالى لما وصف اليهود بالعِنَادِ ، وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم ، فالفرقة الأولى هي الضَّالة المضلّة ، وهم الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه .
والفرقة الثالثة : الذين يُجَادلون المنافقين .
والفرقة الرابعة : هم المذكورون هنا ، وهم العامة الأمّيون الذين لا يعرفون القراءة ، ولا الكتابة ، وطريقتهم التقليد وقَبُول ما يقال لهم ، فبين الله تعالى أن المُمْتَنِعِينَ عن الإيمان ليس سبب ذلك واحداً ، بل لكل قسم سبب .
وقال بعضهم : هم بعض اليهود والمنافقين .
وقال عكرمة والضَّحاك : " هم نصارى العرب " .
وقيل : " هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا آمنين " . وعن علي رضي الله عنه هم المجوس .
قوله : " مِنْهُمْ " خبر مقدم ، فيتعلّق بمحذوف . و " أمّيون " مبتدأ مؤخر ، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلاً بالظرف قبله ، وإن لم يعتمد .
وقد بنيت على ماذا يعتمد فيما تقدم .
و " أُمِّيُّونَ " جمع " أمّي " وهو من لا يَكْتب ولا يَقْرأ .
واختلف في نسبته فقيل : إلى " الأمّ " وفيه معنيان :
أحدهما : أنه بحال أُمّه التي ولدته من عدم معرفة الكتابة ، وليس مثل أبيه ؛ لأن النساء ليس من شُغْلهن الكتابة .
والثاني : أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها ، ولم ينتقل .
وقيل : نسب إلى " الأُمَّة " وهي القَامَة والخِلْقَة ، بمعنى أنه ليس له من النَّاس إلا ذلك .
وقيل : نسب إلى " الأُمَّة " على سَذَاجتها قبل أن يَعْرِف الأشياء ، كقولهم : عامي أي : على عادة العامة .
وعن ابن عَبَّاس : " قيل لهم : أميون ؛ لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب " .
وقال أبو عبيدة : " قيل لهم : أُميون ، لإنْزَال الكتاب عليهم ، كأنهم نسبوا لأم الكتاب " .
وقرأ ابن أبي عَبْلة{[1410]} : " أُمِّيُون " بتخفيف الياء كأنه استثقل توالي تضعيفين .
وقيل : الأمي : من لا يُقِرّ بكتاب ولا رسول .
قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ } جملة فعلية في محلّ رفع صفة ب " أميون " ، كأنه قيل : أميون غير عالمين .
قوله : { ِلاَّ أَمَانِيَّ } هذا استثناء منقطع ؛ لأن " الأماني " ليست من جنس " الكتاب " ، ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهذا هو المُنْقطع ، ولكن شرطه أن يتوهّم دخوله بوجه ما ، كقوله : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } [ النساء : 157 ] وقول النَّابغة : [ الطويل ]
601- حَلَفْتُ يَمِيناً غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ *** وَلاَ عِلْمَ إِلاَّ حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ{[1411]}
لأن بذكر العلم اسْتُحضِر الظن ، ولهذا لا يجوز : صَهَلَتِ الخيل إلاَّ حماراً .
واعلم أن المنقطع على ضربين : ضرب يصحّ توجه العامل عليه ، نحو : جاء القوم إلاّ حماراً . وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحاة : " ما زاد إلا ما نقص " ، و " ما نفع إلا ما ضر " فالأول فيه لُغتان : لغة " الحجاز " وجوب نصبه ، ولغة " تميم " أنه كالمتّصل ، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع .
والآية الكريمة من الضرب الأول ، فيحتمل في نصبها وَجْهان :
أحدهما : على الاستثناء المنقطع .
والثاني : أنه بدل من " الكتاب " .
و " إلاّ " في المنقطع تقدر عند البصريين ب " لَكِنَّ " ، وعند الكونفيين ب " بل " ، وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل مَحْذُوف ، فإنه قال : " إلا أماني " استثناء منقطع ؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم ، وتقدير " إلاّ " في مثل هذا ب " لكن " أي : لكن يتمنونه أماني ، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرّغ المنقطع ، فيصير نظير : " ما علمت إلا ظنّاً " . [ وفيه نظر ] .
الأَمَاني جمع " أُمْنِيَّة " بتشديد الياء فيها .
وقال أبو البَقَاءِ : " يجوز تخفيفها فيها " .
وقرأ أبو جعفر{[1412]} بتخفيفها ، حَذَفَ إحدى الياءين تخفيفاً .
قال الأخفش : " هذا كما يقال في جمع مفتاح : مفاتح ومفاتيح " .
قال النَّحَّاس : " الحذف في المعتلّ أكثر " ؛ وأنشد قول النابغة : [ الطويل ]
602- وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أو يَكْشِفُ العَمَى *** ثَلاثُ الأَثَافِي والرُّسُومُ البَلاَقِعُ{[1413]}
وقال أبو حَاتِمٍ : " كلّ ما جاء واحده مشدداً من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان " . وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش .
ووزن " أمنية " : " أُفْعُولَة " من تَمَنَّى{[1414]} يَتَمَنَّى : إذا تلا وقرأ ؛ قال : [ الطويل ]
603- تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ *** تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ{[1415]}
604- تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ *** وآخِرَهُ لاَقَى حِمَامَ المقَادِرِ{[1416]}
وقال تعالى : { إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] أي : قرأ وتلا .
والأصل على هذا : " أُمْنُويَة " فأعلت إعلال " ميت " و " سيد " وقد تقدم .
وقيل : الأمنية : الكذب والاختلاق .
قال أعرابي لابن دَأْب{[1417]} في شيء يحدث به : أهذا الشيء رويته أم تمنيته أي : اختلقته .
وقيل : ما يتمنّاه الإنسان ويشتهيه .
وقيل : ما يقدره ويحزره من مَنَّى : إذا كذب ، أو تمنى ، أو قدر ؛ كقوله : [ البسيط ]
605- لاَ تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ في حَرَمٍ *** حَتَّى تُلاَقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ المَانِي{[1418]}
قال الراغب : والمني : التقدير ، ومنه " المَنَا " الذي يُوزَن به ، ومنه " المنية " وهو الأجل المقدر للحيوان ، " والتَّمَنِّي " : تقدير شيء في النفس وتصويره فيها ، وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين ، وقد يكون بناء على رَوِيَّةٍ وأصل ، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له ، فأكثر التمني تصوّر ما لا حقيقة له [ والأمنية : الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء ]{[1419]} . ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدَّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه .
ومنه قوله عثمان : " ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت " .
وقال الزمخشري{[1420]} : والاشتقاق من منَّى : إذا قدَّر ؛ لأن المتمني يُقَدِّرُ في نفسه ، ويَحْزر ما يتمناه ، وكذلك المختلق ، والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا ، فجعل بين هذه المعاني قدراً مشتركاً وهو واضح .
وقال أبو مسلم : حَمْله على تمني القلب أولى بقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [ البقرة : 111 ] .
وقال الأكثرون : حمله على القراءة أليق ؛ لأنا إذا حَمَلْنَاه على ذلك كان له به تعلّق ، فكأنه قال : لا يعلمون الكتاب إلاَّ بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه ، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه ، ثم إنَّهُمْ لا يتمكّنون من التدبُّر والتأمل ، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً .
قوله : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } " إن " نافية بمعنى " ما " وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل " ما " الحِجَازية .
وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه ، وأنشد : [ المنسرح ]
606- إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ *** إلاَّ عَلَى أَضْعَفِ المَجَانِينِ{[1421]}
" هو " اسمها ، و " مستولياً " خبرها .
فقوله : " هم " في محل رفع الابتداء لا اسم " إن " لأنها لم تعمل على المشهور ، و " إلا " للاستثناء المفرغ ، ويظنون في محلّ الرفع خبراً لقوله " هم " .
وحذف مفعولي الظَّن للعمل بهما واقتصاراً ، وهي مسألة خلاف .
فصل في بطلان التقليد في الأصول
الآية تدلّ على بطلان التقليد .
قال ابن الخطيب : وهو مشكل ؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا{[1422]} .