نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَمِنۡهُمۡ أُمِّيُّونَ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّآ أَمَانِيَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ} (78)

ولما ذكر سبحانه هذا الفريق الذي هو من أعلاهم كفراً وأعتاهم أمراً عطف عليه قسماً أعتى{[3244]} منه وأفظ لأن العالم يرجى لفته{[3245]} عن رأيه أو تخجيله بالحجاج بخلاف المقلد العاتي الكثيف{[3246]} الجافي فقال { ومنهم أميون }{[3247]} ويجوز أن يراد بهم من لا يحسن الكتابة ومن يحسنها وهو غليظ الطبع بعيد عن الفهم ، لأن الأمي في اللغة من لا يكتب أو من على خلقة الأمة لم يتعلم الكتابة وهو باق{[3248]} على جبلته وحال ولادته والغبي{[3249]} الجلف{[3250]} الجافي القليل الكلام ، فالمعنى أنهم قسمان : كتبة وغير كتبة ، وهم المراد بالأميين ، وهؤلاء مع كونهم لا يحسنون الكتاب يجوز أن يتعلموا القراءة تلقيناً{[3251]} ولا يفهمون المعاني ، ويجوز أن يكون المعنى أنهم قسمان : علماء نحارير عارفون بالمعاني وجهلة غبيون لا حظ لهم من التوراة إلا القراءة الخالية عن التدبر المقرونة بالتمني{[3252]} ولذلك قال : { لا يعلمون الكتاب } أي بخلاف القسم الذي أكد فيه كونهم من أهل العلم .

ولما كان المراد سلب العلم عنهم رأساً أبرز{[3253]} الاستثناء مع كونه منقطعاً في صورة المتصل فقال : { إلاّ أماني } جمع أمنية{[3254]} ، وهي تقدير الوقوع فيما يترامى إليه الأمل ، ويقال إن{[3255]} معناه يجري في التلاوة للفظ كأنها تقدير بالإضافة لمن يتحقق له المعنى - قاله الحرالي . أي إن كانت الأماني مما يصح وصفه بالعلم فهي لهم لا غيرها من جميع أنواعه . ولما أفهم ذلك أن التقدير ما هم {[3256]}ألا يقدرون تقديرات{[3257]} لا علم لهم بها عطف عليه قوله : { وإن هم إلا يظنون } تأكيداً لنفي العلم عنهم .


[3244]:في ظ: أغبي.
[3245]:لفته صرفه، من لفت فلانا عن رأيه صرفه.
[3246]:في ظ: الكتيف – بالتاء المثناة.
[3247]:الأمي الذي لا يقرا في كتاب ولا يكتب، نسب إلى الأم لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن أو يقرأن في كتاب، أو لأنه بحال ولدته أمه لم ينتقل عنها، أو نسب إلى الامة وهي القامة )والخلقة، أو إلى الأمة إذ هي ساذجة قبل أن تعرف المعارف، ظاهر الكلام أنها أنزلت في اليهود المذكورين في الكتاب في الآية التي قبل هذه – قاله ابن عباس "من البحر المحيط" وذكرت فيه أقوال. وقال أبو حيان بعد ذكر أقوال: والقول الأول هو الأظهر لأن سياق الكلام إنما هو مع اليهود فالضمير لهم. وقال علي المهائمي: "ومنهم أميون" أي باقون على ما ولدتهم أمهاتهم "لا يعلمون الكتاب إلا أماني" أي أحاديث قدرها المحرفون في أنفسهم تقدير الأماني الكاذبة ولا يتلخصون بذلك عن الكفر؛ لأنهم يعلمون أنهم كذابون فلا يحصل لهم الجزم بقولهم – انتهى كلامه.
[3248]:ليس في ظ.
[3249]:في م ومد: العي.
[3250]:من م وظ، وفي الأصل: الخلف – بالخاء المعجمة – كذا.
[3251]:في ظ: تلقيط.
[3252]:قال أبو حيان الأندلسي في مناسبة ارتباط هذه الآية ما نصه: إنه لما بين أمر الفرقة الضالة التي حرفت كتاب الله وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم ثم بين أمر الفرقة الثانية المنافقين وأمر الثالثة المجادلة أخذ يبين أمر الفرقة الرابعة وهي العامة التي طريقها التقليد وقبول ما يقال لهم. قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما: ومن هؤلاء اليهود المذكورين فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم أي انهم لا يطمع في إيمانهم، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة "اميون" بتخفيف الميم – انتهى.
[3253]:في ظ: برز، وفي م: ابرفي – كذا.
[3254]:وهي أفعولة: أصله أمنوية، وهي من مني إذا قدر لأن المتمني يقدر في نفسه ويحرز ما يتمناه، أو من تمني أي كذب قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته؟ أي اختلقته. وقال عثمان: ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت، أو من تمنى إذا تلا قال تعالى "إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" أي إذا تلا وقرأ – البحر المحيط 1 / 270.
[3255]:وفي ظ: بان
[3256]:في م: لهم وقال البيضاوي: ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم؛ وهذا أوضح.
[3257]:في م: تقديرا.