مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمِنۡهُمۡ أُمِّيُّونَ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّآ أَمَانِيَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ} (78)

قوله تعالى : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون }

اعلم أن المراد بقوله : { ومنهم أميون } اليهود لأنه تعالى لما وصفهم بالعناد وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم ، فالفرقة الأولى هي الفرقة الضالة المضلة ، وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه . والفرقة الثانية : المنافقون ، والفرقة الثالثة : الذين يجادلون المنافقين ، والفرقة الرابعة : هم المذكورون في هذه الآية وهم العامة الأميون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم ، فبين الله تعالى أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحدا بل لكل قسم منهم سبب آخر ومن تأمل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمة ، فإن فيهم من يعاند الحق ويسعى في إضلال الغير وفيهم من يكون متوسطا ، وفيهم من يكون عاميا محضا مقلدا ، وههنا مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا في الأمي فقال بعضهم هو من لا يقر بكتاب ولا برسول . وقال آخرون : من لا يحسن الكتابة والقراءة وهذا الثاني أصوب لأن الآية في اليهود وكانوا مقرين بالكتاب والرسول ولأنه عليه الصلاة والسلام قال : ( نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) وذلك يدل على هذا القول ، ولأن قوله : { لا يعلمون الكتاب } لا يليق إلا بذلك .

المسألة الثانية : «الأماني » جمع أمنية ولها معان مشتركة في أصل واحد ، أحدها : ما تخيله الإنسان فيقدر في نفسه وقوعه ويحدثها بكونه ، ومن هذا قولهم : فلان يعد فلانا ويمنيه ومنه قوله تعالى : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } فإن فسرنا الأماني بهذا كان قوله : ( إلا أماني ) إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله تعالى لا يؤاخذهم بخطاياهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة . وثانيها : { إلا أماني } إلا أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد ، قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به : أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته . وثالثها : { إلا أماني } أي إلا ما يقرأون من قوله : تمنى كتاب الله أول ليلة . قال صاحب «الكشاف » والاشتقاق من منى ، إذا قدر لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوز ما يتمناه ، وكذلك المختلق والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا ، قال أبو مسلم : حمله على تمني القلب أولى بدليل قوله تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم } أي تمنيهم . وقال الله تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } وقال : { تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم } وقال تعالى : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } بمعنى يقدرون ويخرصون . وقال الأكثرون : حمله على القراءة أولى كقوله تعالى : { إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } ولأن حمله على القراءة أليق بطريقة الاستثناء لأنا إذا حملناه على ذلك كان له به تعلق فكأنه قال : لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه ، ثم إنهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل ، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادرا .

المسألة الثالثة : قوله تعالى : { إلا أماني } من الاستثناء المنقطع ، قال النابغة :

حلفت يمينا غير ذي مثنوية *** ولا علم إلا حسن ظن بغائب

وقرئ «إلا أماني » بالتخفيف . أما قوله تعالى : { وإن هم إلا يظنون } فكالمحقق لما قلناه لأن الأماني إن أريد بها التقدير والفكر لأمور لا حقيقة لها ، فهي ظن ويكون ذلك تكرارا . ولقائل أن يقول : حديث النفس غير والظن غير فلا يلزم التكرار وإذا حملناه على التلاوة عليهم يحسن معناه ، فكأنه تعالى قال : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا بأن يتلى عليهم فيسمعوه وإلا بأن يذكرهم تأويله كما يراد فيظنون ، وبين تعالى أن هذه الطريقة لا توصل إلى الحق ، وفي الآية مسائل . أحدها : أن المعارف كسبية لا ضرورية فلذلك ذم من لا يعلم ويظن . وثانيها : بطلان التقليد مطلقا وهو مشكل لأن التقليد في الفروع جائز عندنا . وثالثها : أن المضل وإن كان مذموما فالمغتر بإضلال المضل أيضا مذموم لأنه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة ، ورابعها : أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز والله أعلم .