ولما تبين الحق بما دعا إليه الرسول ، وكان المكذبون له ، يرمونه بالضلال ، أخبرهم بالحق ، ووضحه لهم ، وبين لهم عجزهم عن مقاومته ، وأخبرهم أن رميهم له بالضلال ، ليس بضائر الحق شيئا ، ولا دافع ما جاء به .
وأنه إن ضل - وحاشاه من ذلك ، لكن على سبيل التنزل في المجادلة - فإنما يضل على نفسه ، أي : ضلاله قاصر على نفسه ، غير متعد إلى غيره .
{ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ } فليس ذلك من نفسي ، وحولي ، وقوتي ، وإنما هدايتي بما { يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } فهو مادة هدايتي ، كما هو مادة هداية غيري . إن ربي { سَمِيعٌ } للأقوال والأصوات كلها { قَرِيبٌ } ممن دعاه وسأله وعبده .
ثم أمره - سبحانه - للمرة الخامسة أن يصارحهم بأنه مسئول أمام الله عما يرشدهم إليه ، وأنهم ليسوا مسؤولين عن هدايته أو ضلاله ، فقال - تعالى - : { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } .
أى : وقل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل الإِرشاد والتنبيه ، إنى إن ضللت عن الصراط المستقيم ، وعن ابتاع الحق ، فإنهما غثم ضلالى على نفسى وحدها لا عليكم ، وإن اهتديت إلى طريق الحق والصواب ، فاهتدائى بسبب ما يوحيه الله - تعالى - إلى من توجيهات حكيمة ، وإرشادات قويمة ، { إِنَّهُ } - سبحانه - { سَمِيعٌ } لكل شئ { قَرِيبٌ } منى ومنكم .
وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة قد أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم خمس مرات ، أن يخاطب المشركين بما يقطع عليهم كل طريق للتشكيك فى شأن دعوته ، وبما يوصلهم إلى طريق الهداية والسعادة لو كانوا يعقلون :
( قل : إن ضللت فإنما أضل على نفسي . وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي . إنه سميع قريب ) . .
فلا عليكم إذن إن ضللت . فإنما أضل على نفسي . وإن كنت مهتدياً فإن الله هو الذي هداني بوحيه ، لا أملك لنفسي منه شيئاً إلا بإذنه . وأنا تحت مشيئته أسير فضله .
وهكذا كانوا يجدون الله . هكذا كانوا يجدون صفاته هذه في نفوسهم . كانوا يجدونها رطبة بالحياة الحقيقية . كانوا يحسون أن الله يسمع لهم وهو قريب منهم . وأنه معنى بأمرهم عناية مباشرة ؛ وأن شكواهم ونجواهم تصل إليه بلا واسطة . وأنه لا يهملها ولا يكلها إلى سواه . ومن ثم كانوا يعيشون في أنس بربهم . في كنفه . في جواره . في عطفه . في رعايته . ويجدون هذا كله في نفوسهم حياً ، واقعاً ، بسيطاً ، وليس معنى ولا فكرة ولا مجرد تمثيل وتقريب .
وقوله : { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } أي : الخير كله من عند الله ، وفيما أنزله الله عز وجل من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد ، ومَنْ ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه ، كما قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، لما سئل عن تلك المسألة في المفوَضة : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه . {[24410]}
وقوله : { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } أي : سميع لأقوال عباده ، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه . وقد روى النسائي هاهنا حديث أبي موسى الذي في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ]{[24411]} : «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا " {[24412]} قريبا مجيبا » . {[24413]}
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنّمَآ أَضِلّ عَلَىَ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيّ رَبّي إِنّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } .
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لقومك : إن ضَلَلتُ عن الهدى ، فسلكت غير طريق الحقّ ، فإنما ضلالي عن الصواب على نفسي ، يقول : فإن ضلالي عن الهدى على نفسي ضرّه وَإنِ اهْتَدَيْتُ يقول : وإن استقمت على الحقّ فِيما يُوحِي إليّ رَبّي يقول : فبوحي الله الذي يوحِي إليّ ، وتوفيقه للاستقامة على محجة الحق وطريق الهُدى .
وقوله : إنّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يقول : إن ربي سميع لما أقول لكم ، حافظ له ، وهو المجازِي لي على صدقي في ذلك ، وذلك مني غير بعيد ، فيتعذّر عليه سماع ما أقول لكم ، وما تقولون ، وما يقوله غيرنا ، ولكنه قريب من كلّ متكلم يسمع كل ما ينطق به ، أقرب إليه من حبل الوريد .
لما جرى ذكر الحق والباطل وكانوا يزعمون من مجموع أقوالهم أن النبي عليه الصلاة والسلام غير صادق في دعوى الرسالة من الله كانت أقوالهم تقتضي زعمهم إياه على ضلال وكان الردّ عليهم قاطعاً بأنه على هدى بقوله : { قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد } [ سبأ : 49 ] انتُقل هنا إلى متاركة جِدالهم وتركهم وشأنَهم لقلة جدوى مراجعتهم .
وهذا مَحْضَر خاص وطَيّ بساط مجلس واحد ، فلا يقتضي أنه يستمر على ترك مجادلتهم لأن الواقع ينافي ذلك فقد نزل القرآن بعد ذلك طويلاً مشتملاً على دعوتهم وتحذيرهم وإنذارهم .
وصيغة القصر التي في قوله : { فإنما أضل على نفسي } لقصر الضلال المفروض ، أي على نفسي لاَ عليكم لأنهم كانوا يحاولون أن يقلعَ عمَّا دعاهم إليه ولم يقتصروا على صدودهم .
وتعدية { أَضل } بحرف { على } تتضمن استعارة مكنية إذ شُبه الضلال بجريرة عليه فعدّاه بالحرف الشائع استعماله في الأشياء المكرَه عليها غير الملائمة ، عكس اللام ، وذكر حرف الاستعلاء تخييل للمكنية ولا يُقال : ضُمِّن { أَضِلّ } معنى أَجنِي ، لأن { ضللت } الذي هو فعل الشرط المفروض غير مضمن معنى فعل آخر .
وأما قوله : { وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي } فكالاحتراس من أن يكون حاله مقتصراً على فرض كونه مظنة الضلال مع ما فيه من الاعتراف لله بنعمته بأن ما يناله من خير فهو بإرشاد الله لا من نفسه لأنه ما كان يصِل لذلك وهو مغمور بأمة جاهلية لولا إرشاد الله إياه كما قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] .
واختير في جانب الهدى فعل { اهتديت } الذي هو مطاوع ( هَدَى ) لما فيه من الإِيماء إلى أن له هادياً ، وبيَّنه بقوله : { فبما يوحي إلي ربي } ليحصل شكره لله إجمالاً ثم تفصيلاً ، وفي قوله : { فبما يوحي إلي ربي } إيماء إلى أنه على هدى لأنه أثبت أن وحياً من الله وارِد إليه .
وقد استفيد أن الضلال المفروض إن حصل فسببه من قبل نفسه ، من إسناد فعل { أَضِلّ } إلى ضمير المتكلم ثم مما عقبه من قصر الضلال على الحصول من المتكلم ، وهو أغرق في التعلق به ، وليس الغرض من ذلك الكلاممِ بيانَ التسبب ولكن عدم مجاوزة الضلال المفروض إليهم إذ هم يتبعوه فيما تلبس به ، ولم يُرتكب مثل هذا في جانب فرض اهتدائه لأن اهتداءه كان هو الحاصل في الواقع وكان شاملاً له ولغيره من الذين اتبعوه لأن اهتداءه ملابس لدعوته الناسَ إلى اتّباعه ، ولأن الغرض من الشرطين مختلف وإن كان يُعلم من المقابلة أن سبب الضلال والاهتداء مختلف من جهة المعنى ولا سيما حين رجَّح جانب اهتدائه بقوله : { فبما يوحي إلي ربي } .
على أن المقابلة بين الشرطين ينقدح بها في ذهن السامع أن الضلال من تسويل النفس ولو حصل لكان جناية من النفس عليه وأن الاهتداء من الله وأنه نفع ساقه إليه بوحيه .
وجملة { إنه سميع قريب } تذييل لما أفادته الجملتان المقولتان قبله من الترديد في نسبة الاهتداء والضلال ، أي أن الله يعلم أني على هدى أو ضده ويحصل من ذلك علم مقابله من أحوال خصومه لأنه سميع لما يقوله الفريقان قريب مما يضمرونه فلا يخفى عليه .
والقرب هنا كناية عن العلم والإِحاطة فيه قرب مجازي . وهذا تعريض بالتهديد .