نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡ إِن ضَلَلۡتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفۡسِيۖ وَإِنِ ٱهۡتَدَيۡتُ فَبِمَا يُوحِيٓ إِلَيَّ رَبِّيٓۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٞ قَرِيبٞ} (50)

ولما لم يبق بعد هذ إلا أن يقولوا عناداً : {[57142]}أنت ضال{[57143]} ، ليس بك جنون ولا كذب ، ولكنك قد عرض لك ما أضلك عن المحجة ، قال : { قل } أي لهؤلاء المعاندين{[57144]} على سبيل الاستعطاف{[57145]} بما في قولك من الانصاف وتعليم الأدب : { إن ضللت } أي عن الطريق على سبيل الفرض { فإنما أضل } ولما كان الله تعالى قد جعل العقل عقلاً{[57146]} يمنع من الخطأ وينهى عن الهوى ، وكان الغلط لا يأتي إلا من شواغل النفس بشهواتها وحظوظها ، فكان التقدير : بما في نفسي من الشواغل العاقلة للعقل ، قال مشيراً إلى ذلك : { على نفسي } أي لأن الضلال إذا استعلى على شيء ظهر أمره فيتبين عواره فيلزم عاره{[57147]} ، ويصير صاحبه بحيث لا يدري شيئاً ينفع ولا يعيد ، ولذلك يصير يفزع إلى السفه والمشاتمة كما وقع في مذاهبكم كلها ، لأن الله تعالى جعل العقول الصحيحة معياراً على ذلك ، فمهما ذكرت طرق الحق{[57148]} وحُررت ظهر أمر الباطل وافتضح . ولما كانت النفس منقادة بل مترامية نحو الباطل ، عبر في الضلال بالمجرد ، وفي الهدى بالافتعال إشارة إلى أنه لا بد فيه من هاد وعلاج ، وعبر بأداة الشك استعمالاً للأنصاف فقال{[57149]} : { وإن اهتديت فبما } أي فاهتدائي إنما{[57150]} هو بما { يُوحي إليَّ ربي } أي المحسن إليّ لا بغيره ، فلا يمكن فيه ضلال لأنه لا حظ فيه للنفس أصلاً ، فلا يقدر أحد على شيء من طعن في شيء منه ، وهداي لنفسي ، فالآية ظاهرها التنزل منه وباطنها إرشادهم إلى تسديدهم النظر وتقويمه وتهذيب{[57151]} الفكر وتثقيفه{[57152]} ، وهي من الاحتباك : حذف أولاً كون الضلال من نفسه بما دل عليه{[57153]} ثانياً من أن الهدى من الوحي ، وثانياً{[57154]} كون الهدى{[57155]} له بما دل عليه من كون الضلال{[57156]} عليه ، ثم علل الضلال والهدى بقوله : { إنَّه } أي ربي { سميع قريب * } أي لا يغيب عنه شيء من حال من يكذب عليه ، فهو جدير بأنه يفضحه كما فضحكم في جميع ما تدعونه ولا يبعد عليه شيء ليحتاج في إدراكه إلى تأخير لقطع مسافة أو نحوها ، بل هو مدرك لكل ما أراد كلما أراد ، والآية إرشاد من الله تعالى إلى أنه وإن كان خلق للآدمي عقلاً لا يضل ولا يزيغ ، لكنه حفه بقواطع من الشهوات والحظوظ والكسل والفتور فلا يكاد يسلم منها إلا من عصمه الله{[57157]} ، فلما كان كذلك أنزل سبحانه كتباً هي العقل الخالص ، وأرسل رسلاً جردهم من تلك القواطع ، فجعل أخلاقهم شرائعهم ، فعلى كل أحد أن يتبع رسله المتخلفين بكتبه متهماً عقله منابذاً{[57158]} رأيه كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ليكون{[57159]} مؤمناً بالغيب حق الإيمان فيدخل في قوله تعالى في سورة فاطر{ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب }{[57160]}[ فاطر : 18 ] ولا يكون متناوشاً{[57161]} بعد كشف الغطاء من مكان بعيد .


[57142]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أنت هناك.
[57143]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أنت هناك.
[57144]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المعاندون.
[57145]:في ظ: الإعطاف.
[57146]:زيد في الأصل: لا، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[57147]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عادة.
[57148]:زيد من ظ وم ومد.
[57149]:زيد من ظ ومد.
[57150]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: فإنما.
[57151]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تهديد.
[57152]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تشقيقه.
[57153]:زيد من م ومد.
[57154]:زيد من م ومد.
[57155]:من م ومد، وفي الأصل: المهدي.
[57156]:العبارة من "من نفسه" إلى هنا ساقطة من ظ.
[57157]:ليس في ظ وم ومد.
[57158]:زيد من ظ وم ومد.
[57159]:في ظ: فيكون.
[57160]:آية 18.
[57161]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مساوسا.