وقوله : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } أى : فى مكان مرضى ، وفى مجلس كريم ، لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة ، فالمراد بالمقعد مكان القعود الذى يقيم فيه الإنسان بأمان واطمئنان .
{ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } أى : مقربين عند ملك عظيم ، قادر على كل شىء .
فالمراد بالعندية هنا ، عندية الرتبة والمكانة والتشريف .
وقال - سبحانه - عند مليك ، للمبالغة فى وصفه - سبحانه - بسعة الملك وعظمه ، إذ وصفه - سبحانه - بمليك ، أبلغ من صوفه بمالك أو ملك ، لأن { مَلِيكٍ } صيغة مبالغة بزنة فعيل .
وتنكير " مقتدر " للتعظيم والتهويل ، وهو أبلغ من قادر ، إذ زيادة المبنى تشعر بزيادة المعنى . أى : عظيم القدرة بحيث لا يحيط بها الوصف .
ونعيم القلب والروح . نعيم القرب والتكريم : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . . فهو مقعد ثابت مطمئن ، قريب كريم ، مأنوس بالقرب ، مطمئن بالتمكين . ذلك أنهم المتقون . الخائفون . المترقبون . والله لا يجمع على نفس خوفين : خوفها منه في الدنيا ، وخوفها يوم القيامة . فمن اتقاه في العاجلة أمنه في الآجلة . ومع الأمان في أفزع موطن ، يغمره بالأنس والتكريم .
وعند هذا الإيقاع الهادئ ، في هذا الظل الآمن ، تنتهي السورة التي حفلت حلقاتها بالفزع والكرب والأخذ والتدمير . فإذا للظل الآمن والإيقاع الهادئ طعم وروح أعمق وأروح . . وهذه هي التربية الكاملة . تربية العليم الحكيم بمسارب النفوس ومداخل القلوب . وهذا هو التقدير الدقيق لخالق كل شيء بقدر ، وهو اللطيف الخبير . .
وقوله : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي : في دار كرامة الله ورضوانه وفضله ، وامتنانه وجوده وإحسانه ، { عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } أي : عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها ، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون ، وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو{[27834]} - يَبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم - قال : " المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور ، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين : الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .
انفرد بإخراجه مسلم والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، بإسناده مثله{[27835]} .
آخر تفسير سورة " اقتربت " ، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة
وقوله تعالى : { مقعد صدق } يحتمل أن يريد به الصدق الذي هو ضد الكذب ، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به ، ويحتمل أن يكون من قولك : عود صدق ، أي جيد ، ورجل صدق ، أي خبر وخلال حسان .
وقرأ جمهور الناس : «في مقعد » على اسم الجنس . وقرأ عثمان البتي{[10801]} : «في مقاعد » على الجمع . والمليك المقتدر : الله تعالى .
وقوله : { في مقعد صدق } إما في محل الحال من المتقين وإما في محل الخبر الثاني ل { إنّ } .
والمقعد : مكان القعود . والقعود هنا بمعنى الإِقامة المطمئنة كما في قوله تعالى : { اقعدوا مع القاعدين } [ التوبة : 46 ] .
والصدق : أصله مطابقة الخبر للواقع ثم شاعت له استعمالات نشأت عن مجاز أو استعارة ترجع إلى معنى مصادفة أحد الشّيء على ما يناسب كمال أحوال جنسه ، فيقال : هو رَجُل صدق ، أي تمام رُجلة ، وقال تأبط شراً :
إني لمهد من ثنائي فقاصد *** به لابننِ عَمِّ الصدق شُمس بن مالك
أي ابن العم حقا ، أي موف بحق القرابة .
وقال تعالى : { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق } [ يونس : 93 ] وقال في دعاء إبراهيم عليه السلام { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } [ الشعراء : 84 ] ويسمى الحبيب الثابت المحبة صَديقاً وصدّيقاً .
فمقعد صدق ، أي مقعد كامل في جنسه مرضي للمستقر فيه فلا يكون فيه استفزاز ولا زوال ، وإضافة { مقعد } إلى { صدق } من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة في تمكن الصفة منه .
والمعنى : هم في مقعد يشتمل على كل ما يحمده القاعد فيه .
والمَليك : فعيل بمعنى المالك مبالغة وهو أبلغ من مَلِك ، ومقتدر : أبلغ من قادر ، وتنكيره وتنكير مُقتدر للتعظيم .