قوله تعالى : { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً الذين يتربصون بكم } ، ينتظرون بكم الدوائر ، يعني : المنافقين .
قوله تعالى : { فإن كان لكم فتح من الله } ، يعني : ظفر وغنيمة .
قوله تعالى : { قالوا } ، لكم .
قوله تعالى : { ألم نكن معكم } على دينكم في الجهاد ، كنا معكم فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة .
قوله تعالى : { وإن كان للكافرين نصيب } ، يعني دولة وظهورا على المسلمين .
قوله تعالى : { قالوا } ، يعني : المنافقين للكافرين .
قوله تعالى : { ألم نستحوذ عليكم } ، والاستحواذ : هو الاستيلاء والغلبة ، قال الله تعالى : { استحوذ عليهم الشيطان } [ المجادلة :19 ] أي : استولى وغلب ، يقول : ألم نخبركم بعورة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ونطلعكم على سرهم ، قال المبرد : يقول المنافقون للكفار : ألم نغلبكم على رأيكم .
قوله تعالى : { ونمنعكم } ، ونصرفكم .
قوله تعالى : { من المؤمنين } ، أي : عن الدخول في جملتهم وقيل : معناه ألم نستول عليكم بالنصرة لكم ، ونمنعكم من المؤمنين ؟ أي : ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ، ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأمورهم ، ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهار المنة على الكافرين .
قوله تعالى : { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } ، يعني : بين أهل الإيمان وأهل النفاق .
قوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } ، قال علي : في الآخرة ، وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم : أي حجة ، وقيل : ظهوراً على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم ذكر تحقيق موالاة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال : { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } أي : ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها ، وتنتهون إليها من خير أو شر ، قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم . { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } فيظهرون أنهم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم ، وليشركوهم في الغنيمة والفيء ولينتصروا بهم .
{ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } ولم يقل فتح ؛ لأنه لا يحصل لهم فتح ، يكون مبدأ لنصرتهم المستمرة ، بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير مستقر ، حكمة من الله . فإذا كان ذلك { قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } أي : نستولي عليكم { وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : يتصنعون عندهم بكف أيديهم عنهم مع القدرة ، ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع في تفنيدهم وتزهيدهم في القتال ، ومظاهرة الأعداء عليهم ، وغير ذلك مما هو معروف منهم .
{ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فيجازي المؤمنين ظاهرا وباطنا بالجنة ، ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .
{ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } أي : تسلطا واستيلاء عليهم ، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين ، ودفعٍ لتسلط الكافرين ، ما هو مشهود بالعيان . حتى إن [ بعض ]{[246]} المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة ، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم ، بل لهم العز التام من الله ، فله{[247]} الحمد أوّلًا وآخرًا ، وظاهرًا وباطنًا .
ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك سمة أخرى من أبرز سمات المنافقين . وهى أنهم كانوا يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفر بوجه آخر . أى أنهم يحاولون أن يمسكوا العصا من وسطها حتى يأكلوا من كل مائدة . استمع إلى القرآن وهو يصور ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول : { الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين } .
وقوله : { يَتَرَبَّصُونَ } من التربص بمعنى الانتظار وترقب الحوادث . يقال : تربص به إذا انتظره مع ترقب وملاحظة .
وقوله : { نَسْتَحْوِذْ } من الاستحواذ بمعنى الغلبة والتمكن والاستيلاء ، يقال : استحوذ فلان على فلان أى : غلب عليه وتمكن منه . ومنه قوله - تعالى - { استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله } والمعنى : إن من صفات هؤلاء المنافقين - أيها المؤمنون - أنهم يتربصون بكم . أى : ينتظرون بترقب وملاحظة ما يحث لكم من خير أو شر ، أو من نصر أو هزيمة { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله } أى : من نصر وظفر على أعدائكم { قالوا } على سبيل التقرب إليكم { أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } فى الجهاد وغيره فاعطونا نصيبا من الخير الذى أصبتموه . { وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } أى حظ من النصر عليكم - لأن الحرب سجال - { قالوا } لهم - أيضا - على سبيل التقرب إليهم { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين } أى : ألم نتمكن من قتلكم وأسركم ولكنا لم نفعل ذلك ، بل أحطناكم بحمايتنا ورعايتنا ومنعنا المؤمنين من النصر عليكم بسب تخذيلنا لهم ، وجسسنا على أحوالهم .
وإخباركم بما يهمكم من شئونهم . وما دام الأمر كذلك فاجعلوا لنا قسما من نصيبكم .
فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه المنافقون من تلون وتقلب وهرولة وراء شهوات الدنيا فى أى مكان كانت .
وعبر عن النصر فى جانب المؤمنين بأنه فتح ، وعن انتصار الكافرين بأنه نصيب ، لتعظيم شأن المسلمين وللتهوين من شأن الكافرين . ولأن انتصار المسلمين يترتب عليه فتح الطريق أمام الحق وحسن العاقبة بخلاف انتصار الكافرين فهو أمر طارئ وليس بدائم .
قال صاحب الانتصاف : وهذا من محاسن نكت أسرار القرآن ، فإن الذى يتفق للمسلمين فيه : استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤوها . وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التى لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا . فالتفريق بينهما أيضا مطابق للواقع والاستفهام فى قوله { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } وفى قوله { أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } للتقرير أى : لقد كنا معكم واستحوذنا عليكم ومنعناكم من المؤمنين .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين فقال : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } .
والفاء هنا للإِفصاح عن كلام مقدر . أى : إذا كان هذا هو حال المنافقين والكافرين فى الدنيا ، فأبشركم - أيها المؤمنون - بأن الله سيحكم بينكم وبينهم يوم القيامة بحكمه العادل ، فيثيبكم بالثواب الجزيل لأنكم أولياؤه ، ويعاقبهم بالعقاب الأليم لأنهم أعداؤه ، وأبشركم - أيضا - بأنه - سبحانه - لن يجعل الله جميعا بدون فرقة أو تنازع أو فشل ، وآخذين بالأسباب وبسنن الله الكونية التى تعينكم على الوصول إلى غايتكم الشريفة ، ومقاصدكم السليمة .
فالآية الكريمة تنفى أن يكون هناك سبيل للكافرين على المؤمنين فى الدنيا والآخرة .
ومنهم من يرى أن المراد بنفى السبيل هنا فى الآخرة .
وقد أشار الإِمام ابن كثير إلى هذين الاتجاهين بقوله - تعالى - { وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } . أى : يوم القيامة كما روى عن على بن أبى طالب وغيره .
ويحتمل أن يكون المعنى : { وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } أى : فى الدنيا ، بأن سلطوا عليهم تسليط استيلاء واستئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر فى بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين فى الدنيا والآخرة ، كما قال - تعالى - { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } والذى نراه أولى أن تكون الجملة الكريمة عامة فى نفى أن يكون هناك سلطان للكافرين على المؤمنين ما دام المؤمنون متبعين اتباعا تاما تعاليم دينهم وآخذين فى الأسباب التى تجعل النصر حليفا لهم .
وإذا كان الكافرون فى بعض الازمان والأحوال قد صارت لهم الغلبة على المسلمين ، فذلك قد يكون نوعا من الابتلاء أو التأديب أو التمحيص . حتى يعود المسملون إلى دينهم عودة كاملة تجعلهم يستجيبون توجيهاته . ويذعنون لأحكامه ، ويطبقون أوامره ونواهيه .
ثم يأخذ في بيان سمات المنافقين ، فيرسم لهم صورة زرية منفرة ؛ وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه ؛ ويمسكون العصا من وسطها ، ويتلوون كالديدان والثعابين :
( الذين يتربصون بكم . فإن كان لكم فتح من الله ، قالوا : ألم نكن معكم ؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ فالله يحكم بينكم يوم القيامة . ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) . .
وهي صورة منفرة . تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر ، وما يتربصون بها من الدوائر وهم - مع ذلك - يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من الله ونعمة فيقولون : حينئذ :
ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة - فقد كانوا يخرجون أحيانا يخذلون ويخلخلون الصفوف : - أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم ! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم !
( وإن كان للكافرين نصيب قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ ) . .
يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم ؛ وخذلوا عنهم وخلخلوا الصفوف ! !
وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين . في قلوبهم السم . وعلى ألسنتهم الدهان ! ولكنهم بعد ضعاف ؛ صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين . . وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين .
ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول [ ص ] بتوجيه ربه في مسألة المنافقين ، هي الإغضاء والإعراض ، وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم ؛ في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين ! فإنه يكلهم هنا إلى حكم الله في الآخرة ؛ حيث يكشف الستار عنهم ، وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين :
( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) . .
حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت ؛ ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور .
ويطمئن الذين آمنوا بوعد من الله قاطع ؛ أن هذا الكيد الخفي الماكر ، وهذا التآمر مع الكافرين ، لن يغير ميزان الأمور ؛ ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين :
ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا . .
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة . حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل .
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال . وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين .
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب ، لأنه ليس فيه تحديد .
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد . . أما بالنسبة للدنيا ، فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا . ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق :
إنه وعد من الله قاطع . وحكم من الله جامع : أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ؛ وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة ، ونظاما للحكم ، وتجردا لله في كل خاطرة وحركة ، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة . . فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا . .
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها !
وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك ، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين ، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان . إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ؛ ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون !
ففي " أحد " مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول [ ص ] وفي الطمع في الغنيمة . وفي " حنين " كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل ! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا . . نعرفه أو لا نعرفه . . أما وعد الله فهو حق في كل حين .
نعم . إن المحنة قد تكون للابتلاء . . ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة ، هي استكمال حقيقة الإيمان ، ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه ، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين .
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك . . إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح ، وكلال العزيمة . فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا . فأما إذا بعثت الهمة ، وأذكت الشعلة ، وبصرت بالمزالق ، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق . . فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد . ولو طال الطريق !
كذلك حين يقرر النص القرآني : أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا . . فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر ؛ والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا ؛ وفي حياتها واقعا وعملا وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعنوانات . إنما هو للحقيقة التي وراءها . .
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان ، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان . ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك . . ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء ؛ وألا نطلب العزة إلا من الله .
ووعد الله هذا الأكيد ، يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون . .
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى ، التي لاتضعف ولا تفنى . . وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها . . ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية ، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا .
غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان . . إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابته ثبوت النواميس الكونية . ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل . وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . . ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن " حقيقة " الكفر تغلبه ، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها . . لأن حقيقة أي شيء أقوى من " مظهر " أي شيء . ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان !
إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق . وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل . مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون . . ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) . .
{ الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُوَاْ أَلَمْ نَكُنْ مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوَاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ } الّذينَ ينتظرون أيها المؤمنون بكم . { فإنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ } يعني : فإن فتح الله عليكم فتحا من عدوّكم ، فأفاء عليكم فيئا من المغانم . { قَالُوا } لكم { ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } نجاهد عدوّكم ، ونغزوهم معكم ، فأعطونا نصيبا من الغنيمة ، فإنا قد شهدنا القتال معكم . { وَإنْ كانَ للكافرينَ نَصيبٌ } يعني : وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظّ منكم بإصابتهم منكم . { قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } يعني : قال هؤلاء المنافقون للكافرين : { ألَمْ نسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } : ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين ، ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم ، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا . { فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ } يعني : فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة ، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الإيمان جنته وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار نارَه . { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } يعني : حجة يوم القيامة ، وذلك وعد من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ولا المؤمنين مدخل المنافقين ، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة ، بأن يقولوا لهم : أن ادخلوا مدخلهم ، ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءنا ، وكان المنافقون أولياءنا ، وقد اجتمعتم في النار فيجمع بينكم وبين أوليائنا ، فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا ؟ فذلك هو السبيل الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { فإنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ } قال : المنافقون يتربصون بالمسلمين ، فإن كان لكم فتح قال : إن أصاب المسلمون من عدوّهم غنيمة ، قال المنافقون : ألم نكن معكم ؟ قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون ! وإن كان للكافرين نصيب يصيبونه من المسلمين ، قال المنافقون للكافرين : ألم نستحوذ عليكم ، ونمنعكم من المؤمنين ؟ قد كنا نثبطهم عنكم ! .
واختلف أهل التأويل في تأول قوله : { ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } فقال بعضهم : معناه : ألم نغلب عليكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { ألَمْ نَسْتْحْوِذْ عَلَيْكُمْ } قال : نغلب عليكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه .
قال أبو جعفر : وهذان القولان متقاربا المعنى ، وذلك أن من تأوّله بمعنى : ألم نبين لكم إنما أراد إن شاء الله ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنّا معكم . وأصل الاستحواذ في كلام العرب فيما بلغنا الغلبة ، ومنه قول الله جلّ ثناؤه : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشّيْطانُ فَأنْساهُمْ ذِكْرَ اللّهِ } بمعنى غلب عليهم ، يقال منه : حاذ عليه ، واستحاذ يحيذ ويستحيذ ، وأحاذ يحيذ . ومن لغة من قال حاذ ، قول العجاج في صفة ثور وكلب :
وهما متقاربا المعنى . ومن لغة من قال أحاذ ، قول لبيد في صفة عَيْر وأُتُن :
إذَا اجْتَمَعْتْ وأحوذَ جانِبَيْها ***وأوْرَدَها على عُوجٍ طِوَالِ
يعني بقوله : وأحوذ جانبيها : غلبها وقهرها حتى حاذ كلا جانبيه فلم يشذّ منها شيء . وكان القياس في قوله : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ } أن يأتي استحاذ عليهم ، لأن الواو إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة بالفتح وما قبلها ساكن ، جعلت العرب حركتها في فاء الفعل قبلها ، وحوّلوها ألفا متبعة حركة ما قبلها ، كقولهم : استحال هذا الشيء عما كان عليه من حال يحول ، واستنار فلان بنور الله من النور ، واستعاذ بالله من عاذ يعوذ . وربما تركوا ذلك على أصله ، كما قال لبيد : «وأحوذ » ، ولم يقل : «وأحاذ » ، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ } .
وأما قوله : { فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } فلا خلاف بينهم في أن معناه : ولن يجعل الله للكافرين يومئذٍ على المؤمنين سبيلاً . ذكر الخبر عمن قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن ذرّ ، عن يُشَيْع الحضرميّ ، قال : كنت عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ؟ قال له عليّ : ادنه ! ثم قال : { فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } يوم القيامة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوريّ ، عن الأعمش ، عن ذرّ ، عن يُسَيْع الكندي في قوله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } قال : جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب ، فقال : كيف هذه الاَية : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } ؟ فقال عليّ : ادنه ! { فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ } يوم القيامة { للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } .
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ذرّ ، عن بُسَيْع الحضرميّ ، عن عليّ بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، قال : سمعت سليمان يحدّث عن ذرّ ، عن رجل ، عن عليّ رضي الله عنه أنه قال في هذه الاَية : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } قال : في الاَخرة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي مالك : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } يوم القيامة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } قال : ذاك يوم القيامة .
وأما السبيل في هذا الموضع فالحجة . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } قال : حجة .
جملة { الذين يتربّصون بكم } صفة للمنافقين وحدَهم بدليل قوله : { وإن كان للكافرين نصيب } .
والتربّص حقيقة في المكث بالمكان ، وقد مرّ قوله : { يتربّصن بأنفسهنّ } في سورة البقرة ( 228 ) . وهو مجاز في الانتظار وترقّب الحوادث . وتفصيله قوله : { فإن كان لكم فتح من الله } الآيات . وجُعل ما يحصل للمسلمين فتحاً لأنّه انتصار دائم ، ونُسب إلى الله لأنّه مُقدّره ومريده بأسباب خفيّة ومعجزات بينّة . والمراد بالكافرين هم المشركون من أهل مكة وغيرهم لا محالة ، إذ لا حظّ لليهود في الحرب ، وجعل ما يحصل لهم من النصر نصيباً تحقيراً له ، والمراد نصيب من الفوز في القتال .
والاستحواذ : الغلبة والإحاطة ، أبقوا الواو على أصلها ولم يقلبوها ألفاً بعد الفتحة على خلاف القياس . وهذا أحد الأفعال التي صُحّحت على خلاف القياس مثل : استجوب ، وقد يقولون : استحاذ على القياس كما يقولون : استجَاب واستصاب .
والاستفهام تقريري . ومعنى { ألم نستحوذ عليكم } ألم نتولّ شؤونكم ونحيط بكم إحاطة العنايية والنصرة ونمنعكم من المؤمنين ، أي من أن ينالكم بأسهم ، فالمنع هنا إمّا منعٌ مكذوبٌ يخَيِّلُونه الكفارَ واقعاً وهو الظاهر ، وإمّا منع تقديري وهو كفّ النصرة عن المؤمنين ، والتجسّس عليهم بإبلاغ أخبارهم للكافرين ، وإلقاء الأراجيف والفتن بين جيوش المؤمنين ، وكلّ ذلك ممّ يضعف بأس المؤمنين إن وقع ، وهذا القول كان يقوله من يندسّ من المنافقين في جيش المسلمين في الغزوات ، وخاصّة إذا كانت جيوش المشركين قرب المدينة مثل غزوة الأحْزاب .
وقوله : { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } الفاء للفصيحة ، والكلام إنذار للمنافقين وكفاية لمُهمّ المؤمنين ، بأن فوّض أمر جزاء المنافقين على مكائدهم وخزعبلاتهم إليه تعالى .
وقوله : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } تثبيت للمؤمنين ، لأنّ مثيل هذه الأخبار عن دخائل الأعداء وتألبّهم : من عدوّ مجاهر بكفره . وعدو مصانع مظهر للأخوّة ، وبيان هذه الأفعال الشيطانية البالغة أقصى المكر والحيلة ، يثير مخاوف في نفوس المسلمين وقد يُخيِّل لهم مَهاوي الخيبة في مستقبلهم . فكان من شأن التلطّف بهم أن يعقّب ذلك التحذير بالشدّ على العضد ، والوعد بحسن العاقبة ، فوَعدهم الله بأن لا يجعل للكافرين ، وإن تألّبت عصاباتهم . واختلفت مناحي كفرهم ، سبيلاً على المؤمنين .
والمراد بالسبيل طريق الوصول إلى المؤمنين بالهزيمة والغلبة ، بقرينة تعديته بعَلَى ، ولأنّ سبيل العدوّ إلى عدوّه هو السعي إلى مضرّته ، ولو قال لك الحبيب : لا سبيل إليك ، لتحسّرت ؛ ولو قال لك العدوّ : لا سبيل إليك لتهلّلت بشراً ، فإذا عُدّي بعلى صار نصاً في سبيل الشرّ والأذى ، فالآية وعد محض دنيوي ، وليست من التشريع في شيء ، ولا من أمور الآخرة في شيء لنبوّ المقام عن هذين .
فإن قلت : إذا كان وعداً لم يجز تخلّفه . ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصراً بيّناً ، وربما تملّكوا بلادهم وطال ذلك ، فكيف تأويل هذا الوعد . قلتُ : إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصّة فالإشكال زائل ، لأنّ الله جعل عاقبة النصر أيّامئذٍ للمؤمنين وقطع دابر القوم الذين ظلموا فلم يلبثوا أن ثقفوا وأخذوا وقتّلوا تقتيلاً ودخلت بقيتهم في الإسلام فأصبْحوا أنصاراً للدين ؛ وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين المؤمنون الخلّص الذين تلبّسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه ، ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالاً ، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر سبحانه عن المنافقين، فقال عز وجل: {الذين يتربصون بكم} الدوائر، {فإن كان لكم} معشر المؤمنين {فتح من الله}، يعني النصر على العدو يوم بدر، {قالوا ألم نكن معكم} على عدوكم، فأعطونا من الغنيمة، فلستم أحق بها، فذلك قوله سبحانه في العنكبوت: {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} (العنكبوت: 10) على عدوكم. {وإن كان للكافرين نصيب}، يعني دولة على المؤمنين يوم أحد، {قالوا} أي المنافقون للكفار: {ألم نستحوذ عليكم}: ألم نحظ بكم من ورائكم، {ونمنعكم من المؤمنين}، ونجادل المؤمنين عنكم فنحبسهم عنكم ونخبرهم أنا معكم، قالوا ذلك جبنا وفرقا منهم، قال الله تعالى: {فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}: حجة أبدا...
{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}، في دوام الملك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ}: الّذينَ ينتظرون أيها المؤمنون بكم.
{فإنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ}: فإن فتح الله عليكم فتحا من عدوّكم، فأفاء عليكم فيئا من المغانم. {قَالُوا} لكم {ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نجاهد عدوّكم، ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال معكم. {وَإنْ كانَ للكافرينَ نَصيبٌ}: وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظّ منكم بإصابتهم منكم، {قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}: قال هؤلاء المنافقون للكافرين: {ألَمْ نسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}: ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين، ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا.
{فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ}: فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الإيمان جنته، وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار نارَه.
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}: حجة يوم القيامة، وذلك وعد من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ولا المؤمنين مدخل المنافقين، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة، بأن يقولوا لهم: أن ادخلوا مدخلهم، ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار فيجمع بينكم وبين أوليائنا، فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا؟ فذلك هو السبيل الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين.
واختلف أهل التأويل في تأول قوله: {ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}؛ فقال بعضهم: معناه: ألم نغلب عليكم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه. وهذان القولان متقاربا المعنى، وذلك أن من تأوّله بمعنى: ألم نبين لكم، إنما أراد -إن شاء الله- ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنّا معكم. وأصل الاستحواذ في كلام العرب فيما بلغنا الغلبة، ومنه قول الله جلّ ثناؤه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِم الشّيْطانُ فَأنْساهُمْ ذِكْرَ اللّهِ} بمعنى غلب عليهم. {فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً}: ولن يجعل الله للكافرين يومئذٍ على المؤمنين سبيلاً. عن يُشَيْع الحضرميّ، قال: كنت عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له عليّ: ادنه! ثم قال: {فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} يوم القيامة.
وأما السبيل في هذا الموضع: فالحجة.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
من شروط الإمامة، التي لا تجوز الإمامة لغير من هي فيه، أن يكون مسلما، لأن الله تعالى يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}. والخلافة أعظم السبل...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فالله يحكم بينكم} يعني بين المؤمنين والمنافقين {يوم القيامة} يعني أنه أخر عقابهم إلى ذلك اليوم ورفع عنهم السيف في الدنيا...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {ألم نستحوذ عليكم}: ألم نخبركم بعورة محمد (صلى الله عليه وسلم وأصحابه)، ونطلعكم على سرهم، قال المبرد: يقول المنافقون للكفار: ألم نغلبكم على رأيكم.
قوله تعالى: {ونمنعكم}، ونصرفكم.
قوله تعالى: {من المؤمنين}، أي: عن الدخول في جملتهم وقيل: معناه ألم نستول عليكم بالنصرة لكم، ونمنعكم من المؤمنين؟ أي: ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم، ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأمورهم، ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهار المنة على الكافرين.
قوله تعالى: {فالله يحكم بينكم يوم القيامة}، يعني: بين أهل الإيمان وأهل النفاق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ}: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق. {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}: مظاهرين، فأسهموا لنا في الغنيمة. {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم، {وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين} بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبكم ومرضوا في قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهاتوا نصيباً لنا بما أصبتم.
فإن قلت: لم سمى ظفر المسلمين فتحاً، وظفر الكافرين نصيباً؟ قلت: تعظيماً لشأن المسلمين وتخسيساً لحظ الكافرين؛ لأن ظفر المسلمين أمر عظيم تفتح لهم أبواب السماء حتى ينزل على أوليائه، وأمّا ظفر الكافرين، فما هو إلا حظ دنيّ ولمظة من الدنيا يصيبونها.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
هَذَا خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، وَنَحْنُ نَرَى الْكَافِرِينَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بِلَادِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَقَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ.
الثَّانِي: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ وُجُودِ الْحُجَّةِ مِنْ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَذَلِكَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحُجَّةِ لِلْكَافِرِ مُحَالٌ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْجَعْلُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ.
وَأَمَّا نَفْيُ وُجُودِ الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَضَعِيفٌ؛ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ؛ وَإِنْ أَوْهَمَ صَدْرُ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ؛ لِقَوْلِهِ: {فَاَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَأَخَّرَ الْحُكْمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الدُّنْيَا دُولَةً تَغْلِبُ الْكُفَّارُ تَارَةً وَتُغْلَبُ أُخْرَى بِمَا رَأَى مِنْ الْحِكْمَةِ وَسَبَقَ مِنْ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}. فَتَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إلَى أَوَّلِهِ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا يَمْحُو بِهِ دَوْلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبُ آثَارَهُمْ، وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: وَدَعَوْت رَبِّي أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا مِنْهُ إلَّا أَنْ تَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ، وَلَا تَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَتَتَقَاعَدُوا عَنْ التَّوْبَةِ؛ فَيَكُونُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ وَهَذَا نَفِيسٌ جِدًّا.
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لَلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا بِالشَّرْعِ؛ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ، وَنَزَعَ بِهَذَا عُلَمَاؤُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ؛ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَفَى السَّبِيلَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِ، وَالْمِلْكُ بِالشِّرَاءِ سَبِيلٌ فَلَا يُشْرَعُ وَلَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الذين يتربصون بكم} أي يثبتون على حالهم انتظاراً لوقوع ما يغيظكم {فإن كان لكم فتح} أي ظهور وعز وظفر، و قال: {من الله} أي الذي له العظمة كلها -تذكيراً للمؤمنين بما يديم اعتمادهم عليه وافتقارهم إليه {قالوا} أي الذين آمنوا نفاقاً لكم أيها المؤمنون {ألم نكن معكم} أي ظاهراً بأبداننا بما تسمعون من أقوالنا فأشركونا في فتحكم {وإن كان للكافرين} أي المجاهرين، وقال: {نصيب} تحقيراً لظفرهم وأنه لا يضر بما حصل للمؤمنين من الفتح {قالوا} للكافرين ليشركوهم في نصيبهم {ألم نستحوذ عليكم} أي نطلب حياطتكم والمحافظة على مودتكم حتى غلبنا على جميع أسراركم واستولينا عليها، وخالطناكم مخالطة الدم للبدن، من قولهم: حاذه، أي حاطه وحافظ عليه {ونمنعكم من المؤمنين} أي من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به، ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرغبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد، لتصديقهم لنا لأظهارنا الإيمان، ورضانا من مداهنة من نكره بما لا يرضاه إنسان. ولما كان هذا لأهل الله سبحانه وتعالى أمراً غائظاً مقلقاً موجعاً؛ سبب عنه قوله: {فالله} أي بما له من جميع صفات العظمة {يحكم بينكم} أي أيها المؤمنون و الكافرون المساترون والمجاهرون. ولما كان الحكم في الدارين بين أنه في الدار التي لا يظهر فيها لأحد غيره أمر ظاهراً ولا باطناً، وتظهر فيها جميع المخبئات فقال: {يوم القيامة} ولما كان هذا ربما أيأسهم من الدنيا قال: {ولن يجعل الله} عبر بأداة التأكيد وبالاسم الأعظم لاستبعاد الغلبة على الكفرة لما لهم في ذلك الزمان من القوة والكثرة {للكافرين} أي سواء كانوا مساترين أو مجاهرين {على المؤمنين} أي كلهم {سبيلاً} أي بوجه في دنيا ولا آخرة، وهذا تسفيه لآرائهم واستخفاف بعقولهم فكأنه يقول: يا أيها المتربصون بأحباب الله الدوائر، المتمنون لأعدائه النصر- وقد قامت الأدلة على أن العزة جميعاً لله -! ما أضلكم في ظنكم أنه يخذل أولياءه! وما أغلظ أكبادكم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} أي: تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين، ودفعٍ لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يأخذ في بيان سمات المنافقين، فيرسم لهم صورة زرية منفرة؛ وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه؛ ويمسكون العصا من وسطها، ويتلوون كالديدان والثعابين:
(الذين يتربصون بكم. فإن كان لكم فتح من الله، قالوا: ألم نكن معكم؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟ فالله يحكم بينكم يوم القيامة. ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)..
وهي صورة منفرة. تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر، وما يتربصون بها من الدوائر وهم -مع ذلك- يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من الله ونعمة فيقولون: حينئذ: (ألم نكن معكم؟)..
ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة -فقد كانوا يخرجون أحيانا يخذلون ويخلخلون الصفوف:- أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم!
(وإن كان للكافرين نصيب قالوا: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟)..
يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم؛ وخذلوا عنهم وخلخلوا الصفوف!!
وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين. في قلوبهم السم. وعلى ألسنتهم الدهان! ولكنهم بعد ضعاف؛ صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين.. وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين.
ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم بتوجيه ربه في مسألة المنافقين، هي الإغضاء والإعراض، وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم؛ في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين! فإنه يكلهم هنا إلى حكم الله في الآخرة؛ حيث يكشف الستار عنهم، وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين: (فالله يحكم بينكم يوم القيامة)..
حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت؛ ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور.
ويطمئن الذين آمنوا بوعد من الله قاطع؛ أن هذا الكيد الخفي الماكر، وهذا التآمر مع الكافرين، لن يغير ميزان الأمور؛ ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا..
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة. حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل.
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال. وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين.
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب، لأنه ليس فيه تحديد.
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد.. أما بالنسبة للدنيا، فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا. ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق:
إنه وعد من الله قاطع. وحكم من الله جامع: أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين؛ وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة، ونظاما للحكم، وتجردا لله في كل خاطرة وحركة، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة.. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا..
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها!
وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان. إما في الشعور وإما في العمل -ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة- وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية؛ ثم يعود النصر للمؤمنين -حين يوجدون!
ففي "أحُد "مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة. وفي "حنين" كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا.. نعرفه أو لا نعرفه.. أما وعد الله فهو حق في كل حين.
نعم. إن المحنة قد تكون للابتلاء.. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة، هي استكمال حقيقة الإيمان، ومقتضياته من الأعمال- كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين -فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين.
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك.. إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح، وكلال العزيمة. فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا. فأما إذا بعثت الهمة، وأذكت الشعلة، وبصرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق.. فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد. ولو طال الطريق!
كذلك حين يقرر النص القرآني: أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا.. فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر؛ والفكرة المؤمنة هي التي تسود. وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا؛ وفي حياتها واقعا وعملا وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها. فالنصر ليس للعنوانات. إنما هو للحقيقة التي وراءها..
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان. ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك.. ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة. ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء؛ وألا نطلب العزة إلا من الله.
ووعد الله هذا الأكيد، يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون..
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى، التي لاتضعف ولا تفنى.. وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها.. ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا.
غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان.. إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابته ثبوت النواميس الكونية. ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل. وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها.. ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن "حقيقة" الكفر تغلبه، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها.. لأن حقيقة أي شيء أقوى من "مظهر" أي شيء. ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان!
إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق. وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل. مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون.. (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)..
ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فإن كان لكم فتح من الله...}. وجُعل ما يحصل للمسلمين فتحاً لأنّه انتصار دائم، ونُسب إلى الله لأنّه مُقدّره ومريده بأسباب خفيّة ومعجزات بينّة. والمراد بالكافرين هم المشركون من أهل مكة وغيرهم لا محالة، إذ لا حظّ لليهود في الحرب، وجعل ما يحصل لهم من النصر نصيباً تحقيراً له، والمراد نصيب من الفوز في القتال...
وقوله: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} تثبيت للمؤمنين، لأنّ مثيل هذه الأخبار عن دخائل الأعداء وتألبّهم: من عدوّ مجاهر بكفره وعدو مصانع مظهر للأخوّة، وبيان هذه الأفعال الشيطانية البالغة أقصى المكر والحيلة، يثير مخاوف في نفوس المسلمين وقد يُخيِّل لهم مَهاوي الخيبة في مستقبلهم، فكان من شأن التلطّف بهم أن يعقّب ذلك التحذير بالشدّ على العضد، والوعد بحسن العاقبة، فوَعدهم الله بأن لا يجعل للكافرين، وإن تألّبت عصاباتهم. واختلفت مناحي كفرهم، سبيلاً على المؤمنين. والمراد بالسبيل طريق الوصول إلى المؤمنين بالهزيمة والغلبة، بقرينة تعديته بعَلَى، ولأنّ سبيل العدوّ إلى عدوّه هو السعي إلى مضرّته، ولو قال لك الحبيب: لا سبيل إليك، لتحسّرت؛ ولو قال لك العدوّ: لا سبيل إليك لتهلّلت بشراً، فإذا عُدّي بعلى صار نصاً في سبيل الشرّ والأذى، فالآية وعد محض دنيوي، وليست من التشريع في شيء، ولا من أمور الآخرة في شيء لنبوّ المقام عن هذين...
{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} وهذه نتيجة لحكم الله، فلا يمكن أن يحكم الله للكافرين على المؤمنين ولن يكون للكافرين حجة أو قوة أو طريق على المؤمنين وهل هذه القضية تتحقق في الدنيا أو في الآخرة؟ ونعلم أن الحق يحكم في الآخرة التي تعطلت فيها الأسباب ولكنه جعل الأسباب في الدنيا، فمن أخذ بالأسباب فنتائج الأسباب تعطيه لأن مناط الربوبية يعطي المؤمن والكافر، فإن أخذ الكافرون بالأسباب ولم يأخذ المؤمنون بها فالله يجعل لهم على المؤمنين سبيلا وقد ينهزم المؤمنون أمام الكافرين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إذا كان الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فإن المقتضى العملي لهذه الآية هو أن يعمل المسلمون على عدم إعطاء الكفرة السبيل عليهم وعلى أرضهم وأموالهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تبيّن هذه الآية وآيات أُخرى تالية قسماً آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة، فتؤكد أنّ المنافقين يسعون دائماً لاستغلال أي حدث لصالحهم، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وادعوا بأنّهم قدموا دعماً مؤثراً للمؤمنين في هذا المجال، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم: (الذين يتربصون بكم فإِن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم...).
وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإِسلام فيتقربون إِلى هؤلاء الأعداء، ويعلنون لهم الرضى والموافقة بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الاستسلام لهم، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإِسلام تقول الآية: (وإِن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين...).
وعلى هذا المنوال تحاول هذه الفئة المنافقة أن تستغل الفرصة لدى انتصار المسلمين ليكون لهم نصيب من هذا النصر وسهم من الغنائم، ولإِظهار المنّة على المسلمين، وفي حالة انكسار المسلمين تظهر هذه الفئة الرضى والفرح لدى الكفار، وتدفعهم إِلى الإِصرار على كفرهم وتتجسس لصالحهم، وتهيئ لهم أسباب الفوز المادي، فهم تارة رفاق الطريق مع الكفار، وتارة شركاؤهم في الجريمة، وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.
ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء، ويبيّن أنّهم لا محالة سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة، وعند ذلك أي في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة سيحكم الله بينهم وهو أحكم الحاكمين، فتقول الآية في هذا المجال: (فالله يحكم بينكم يوم القيامة).
ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء، تؤكد هذه الآية في آخرها بأنّ الله لن يجعل للكافرين مجالا للانتصار أو التسلط على المسلمين، وذلك حيث تقول الآية: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا).
وهنا يرد هذا السؤال، وهو: هل أنّ العبارة الأخيرة تفيد عدم انتصار الكفار على المؤمنين من حيث المنطق، أو أنّها تشمل عدم انتصار الكفار من الناحية العسكرية أيضاً؟
ولما كانت كلمة «سبيل» نكرة جاءت في سياق النفي وتؤدي معنى عاماً، لذلك يفهم من الآية أن الكافرين بالإِضافة إِلى عدم انتصارهم من حيث المنطق على المؤمنين، فهم لن ينتصروا ولن يتسلطوا على المؤمنين في أي من النواحي العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية، بل ولا في أي مجال آخر.
وما نشاهده من انتصار للكافرين على المسلمين في الميادين المختلفة، إِنّما هو بسبب أنّ المسلمين المغلوبين لم يكونوا ليمثلوا في الحقيقة المسلمين، المؤمنين الحقيقيين، بل هم مسلمون نسوا آدابهم وتقاليدهم الإِيمانية، وتخلوا عن مسؤولياتهم وتكاليفهم وواجباتهم الدينية بصورة تامّة، فلا كلام عن الاتحاد والتضامن والأُخوة الإِسلامية بينهم، ولا هم يقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقيقي، كما لم يبادروا إِلى اكتساب العلم الذي أوجبه الإِسلام وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ودعا إِلى تحصيله وطلبه من يوم الولادة حتى ساعة الوفاة...
ولما أصبحوا هكذا فقد استحقوا أن يكونوا مغلوبين للكفار.
وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآية على أنّ الكفار لا يمكن أن يتسلطوا على المسلمين المؤمنين من الناحية الحقوقية والحكمية، ونظراً للعمومية الملحوظة في الآية، لا يستبعد أن تشمل الآية هذا الأمر أيضاً.
وممّا يلفت النظر في هذه الآية هو التعبير عن انتصار المؤمنين بكلمة «الفتح» بينما عبّرت الآية عن انتصار الكفار بكلمة «النصيب» وهو إِشارة إِلى أن انتصار الكفار إِنّما هو نصيب محدود وزائل، وأنّ الفتح والنصر النهائي هو للمؤمنين.