قوله تعالى : { أفمن كان على بينة } ، بيان ، { من ربه } ، قيل : في الآية حذف ، ومعناه : أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ، أو من كان على بينة من ربه كمن هو في الضلالة والجهالة ، والمراد بالذي هو على بينة من ربه : النبي صلى الله عليه وسلم . { ويتلوه شاهد منه } ، أي : يتبعه من يشهد به بصدقه . واختلفوا في هذا الشاهد : فقال ابن عباس ، وعلقمة ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأكثر أهل التفسير : إنه جبريل عليه السلام . وقال الحسن وقتادة : هو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى ابن جريج عن مجاهد قال : هو ملك يحفظه ويسدده . وقال الحسين بن الفضل : هو القرآن ونظمه وإعجازه . وقيل : هو على بن أبي طالب رضي الله عنه . قال علي : ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه آية من القرآن ، فقال له رجل : وأنت أي شيء نزل فيك ؟ قال : { ويتلوه شاهد منه } . وقيل : شاهد منه هو الإنجيل . { ومن قبله } ، أي : ومن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : من قبل نزول القرآن . { كتاب موسى } ، أي : كان كتاب موسى ، { إماماً ورحمةً } ، لمن اتبعها ، يعني : التوراة ، وهي مصدقة للقرآن ، وشاهد للنبي صلى الله عليه وسلم ، { أولئك يؤمنون به } ، يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب . { ومن يكفر به } ، أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : بالقرآن ، { من الأحزاب } ، من الكفار من أهل الملل كلها ، { فالنار موعده } .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أنا محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه ، ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، ولا يهودي ، ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " .
قوله تعالى : { فلا تك في مرية منه } ، أي : في شك منه ، { إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون* } .
{ 17 } { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }
يذكر تعالى ، حال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه ، وحججه الموقنين بذلك ، وأنهم لا يوصف بهم غيرهم ولا يكون أحد مثلهم ، فقال : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } بالوحي الذي أنزل{[428]} الله فيه المسائل المهمة ، ودلائلها الظاهرة ، فتيقن تلك البينة .
{ وَيَتْلُوهُ } أي : يتلو هذه البينة والبرهان برهان آخر { شَاهِدٌ مِنْهُ } وهو شاهد الفطرة المستقيمة ، والعقل الصحيح ، حين شهد حقيقة ما أوحاه الله وشرعه ، وعلم بعقله حسنه ، فازداد بذلك إيمانا إلى إيمانه .
{ و } ثم شاهد ثالث وهو { كِتَابُ مُوسَى } التوراة التي جعلها الله { إِمَامًا } للناس { وَرَحْمَةً } لهم ، يشهد لهذا القرآن بالصدق ، ويوافقه فيما جاء به من الحق .
أي : أفمن كان بهذا الوصف قد تواردت عليه شواهد الإيمان ، وقامت لديه أدلة اليقين ، كمن هو في الظلمات والجهالات ، ليس بخارج منها ؟ !
لا يستوون عند الله ، ولا عند عباد الله ، { أُولَئِكَ } أي : الذين وفقوا لقيام الأدلة عندهم ، { يُؤْمِنُونَ } بالقرآن حقيقة ، فيثمر لهم إيمانهم كل خير في الدنيا والآخرة .
{ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } أي : القرآن { مِنَ الْأَحْزَابِ } أي : سائر طوائف أهل الأرض ، المتحزبة على رد الحق ، { فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } لا بد من وروده إليها { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ منه } أي : في أدنى شك { إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } إما جهلا منهم وضلالا ، وإما ظلما وعنادا وبغيا ، وإلا فمن كان قصده حسنا وفهمه مستقيما ، فلا بد أن يؤمن به ، لأنه يرى ما يدعوه إلى الإيمان من كل وجه .
وبعد أن بين - سبحانه - حال الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها ، أتبع ذلك بيان حال الذين يريدون الحق والصواب فيما يفعلون ويتركون فقال - تعالى - :
{ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ . . . } .
قال صاحب المنار ما ملخصه : البينة ما تبين به الحق من كل شئ بحسبه كالبرهان فى العقليات والنصوص فى النقليات ، والخوارق فى الإِلهيات ، والتجارب فى الحسيات ، والشهادات فى القضائيات ، والاستقراء فى إثبات الكليات ، وقد نطق القرآن بأن الرسل قد جاءوا أقوامهم بالبينات وأن كل نبى منهم كان يحتج على قومه بأنه على بينة من ربه وأنه جاءهم ببينة من ربهم ، كما ترى فى قصصهم فى هذه السورة وفى غيرها . .
وقوله : { وَيَتْلُوهُ . . . } من التلو بمعنى الاقتفاء والاتباع . يقال : تلا فلان فلانا إذا كان تابعا له ومقتفيا أثره . والمراد به هنا : التأييد والتقوية .
وللمفسرين أقوال متعددة فى المقصود بقوله - تعالى - { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } وبقوله - سبحانه - { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } .
وفى مرجع الضمائر فى قوله " ربه - ويتلوه - ومنه " . . .
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب أن يكون المقصود بقوله - تعالى - { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنون .
وبقوله تعالى - { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } القرآن الكريم الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليكون معجزة له شاهدة بصدقه .
والضمير فى قوله من ربه يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى قوله { وَيَتْلُوهُ } يعود إلى القرآن الكريم ، وفى قوله { منه } يعود إلى الله - تعالى - .
وعلى هذا القول يكون المعنى : أفمن كان على حجة واضحة من عند ربه تهديه إلى الحق والصواب فى كل أقواله وأفعاله ، وهو هذا الرسول الكريم وأتباعه ويؤيده ويقويه فى دعوته شاهد من ربه هو هذا القرآن الكريم المعجز لسائر البشر . .
أفمن كان هذا شأنه كمن ليس كذلك ؟
أو أفمن كان هذا شأنه كمن استحوذ عليه الشيطان فجعله لا يريد إلا الحياة الدنيا وزينتها ؟ كلا إنهما لا يستويان .
وشهادة القرآن الكريم بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته ، تتجلى فى إعجازه ، فقد تحدى النبى - صلى الله عليه وسلم - أعداءه أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا مع فصاحتهم وبلاغتهم ، فثبت بذلك أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - .
وإنما جعلنا هذا القول أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو الذى يتسق مع ما يفيده ظاهر الآية الكريمة ، ولأننا عندما نقرأ هذه السورة الكريمة وغيرها ، نجد الرسل الكرام كثيرا ما يؤكدون لأقوامهم - أنهم - أى الرسل على بينة من ربهم .
فهذا نوح - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }
وهذا صالح - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ . . . } وهذا شعيب - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً . . . } وهكذا نجد كل نبى يؤكد لقومه أنه جاءهم على بينة من ربه وما دام الأمر كذلك فسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل من جاء قومه على بينة من ربه ، والمؤمنون به - صلى الله عليه وسلم - يقتدرون به فى ذلك .
ويرى بعضهم أن المراد بالبينة القرآن الكريم ، وبالشاهد إعجازه ، وبالموصول مؤمنوا أهل الكتاب ، وأن الضمير فى قوله " ويتلوه - ومنه " يعودان إلى القرآن الكريم وإعجازه .
وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإِسلام وهو القرآن ، ويؤيده ويقويه - أى القرآن - شاهد منه على كونه من عند الله وهذا الشاهد هو إعجازه للبشر عن أن يأتوا بسورة من مثله .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } : أصل البينة الدالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة ، وتطلق على الدليل مطلقا . . والتنوين فيها للتعظيم ، أى : بيئة عظيمة الشأن والمراد بها القرآن ، وباعتبار ذلك أو البرهان جاء الضمير الراجع إليها فى قوله { وَيَتْلُوهُ } أى يتبعه { شَاهِدٌ } عظيم يشهد بكونه من عند الله وهو إعجازه . .
ومعنى كون ذلك الشاهد تابعا له : أنه وصف له لا ينفك عنه . . وكذا الضمير فى " منه " - يعود إلى القرآن - وهو متعلق بمحذوف وقع صفته لشاهد ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه . .
ومن المفسرين من يرى أن المراد بالبيئة القرآن الكريم - أيضا - ويرى أن المراد بالشاهد جبريل - عليه السلام - وأن قوله - سبحانه - { وَيَتْلُوهُ } من التلاوة بمعى القراءة لا من التَّلْوِ بمعنى الاتباع .
وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإِسلام وهو القرآن ويتلوا هذا القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاهد من الله - تعالى - هو جبريل - عليه السلام - .
فالضمير فى { وَيَتْلُوهُ } على هذا الرأى يعود إلى جبريل - عليه السلام - وفى " منه " يعود على الله تعالى - .
وهناك أقوال أخرى فى تفسير الآية الكريمة رأينا من الخير أن نضرب عنها صفحا لضعفها .
وقوله { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً } دليل آخر على صدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته . وهو معطوف على شاهد والضمير فى قوله { وَمِن قَبْلِهِ .
. . } يعود على شاهد - أيضا - .
وقوله { إِمَاماً وَرَحْمَةً } منصوبان على الحالية من قوله { كِتَابُ } .
والمعنى ومن قبل هذا الشاهد على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن الكريم أنزل الله - تعالى - على موسى كتابه التوراة مشتملا على صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - و { إِمَاماً } يؤتم به فى أمور الدين والدنيا ورحمة لبنى إسرائيل من العذاب إذا ما آمنوا به واتبعوا تعاليمه .
قال الشوكانى : وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخرا فى الوجود لكونه - أى الشاهد بمعنى المعجز - وصفا لازما غير مفارق ، فكان أغرق فى الوصفية من كتاب موسى .
وهى شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بأنه رسول من الله - تعالى - .
واسم الإِشارة فى قوله { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعود إلى الموصوفين بأنهم على بينة من ربهم وهم النبى - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنون الصادقون .
أى : أولئك الموصوفون بأنهم على بينة من ربهم يؤمنون بأن الإسلام هو الدين الحق ، وبأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول صدق وبأن القرآن من عند الله - تعالى - وحده .
فالضمير فى قوله { به } يعود على كل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ويدخل فى ذلك دخولا أوليا القرآن الكريم .
وقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } بيان لسوء عاقبة الكافرين بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد بيان حسن عاقبة المؤمنين به .
والأحزاب جمع حزب وهم الذين تخربوا وتجمعو من أهل مكة وغيرهم لمحاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته .
أى : ومن يكفر بهذا القرآن وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هدايات فإن نار جهنم هى المكان الذى ينتظره وينتظر كل متحزب ضد دعوته - صلى الله عليه وسلم - .
وفى جعل النار موعدا لهذا الكافر بالقرآن إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من ألوان العذاب الذى يجعله لا يموت فيها ولا يحيا .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالحض على النظر الصحيح الذى يؤدى إلى اليقين بن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذى لا يشو به باطل فقال - تعالى - : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } .
أى : فلا تك - أيها العاقل - فى شك من أن هذا القرآن من عند الله ومن أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الصدق ، بل عليك أن تعتقد اعتقادا جازما فى صحة ذلك ، لأن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الثابت من عند ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بذلك لا نطماس بصائرهم ، ولتقليدهم لآبائهم ، ولإِيثارهم الغى على الرشد .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد ميزت بين من كان على الحق ومن كان على الباطل وساقت حشودا من الأدلة الدالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته ، وعلى صحة ما عليه أتباعه ، وأمرتهم بالثبات على الحق الذى آمنوا به ، وتوعدت المتحزبين ضد دعوة الإِسلام بنار جهنم التى هى بئس القرار .
هذا ، وهذه الآية الكريمة هى من الآيات التى قيل بأنها مدنية ، وبمراجعتنا لتفسيرها لم نجد ما يؤيد بذلك ، بل الذى نراه أن السورة كلها مكية كما سبق أن أشرنا إلى ذلك فى المقدمة .
بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول الله [ ص ] وما جاءه من الحق ؛ وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه ، وأنه مرسل من عنده ؛ كما يشهد له كتاب موسى من قبله . يلتفت السياق إلى هذا الحشد من الأدلة المحيطة بالنبي [ ص ] وبدعوته ورسالته . ذلك ليثبت بهذه الالتفاتة قلب رسول الله [ ص ] والقلة المؤمنة معه . ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار ؛ وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والاستكبار ؛ وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل ، المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب الله ؛ وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) . . وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة ؛ تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما ، وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الآخرة سواء :
( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؛ أولئك يعرضون على ربهم ؛ ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب . ما كانوا يستطيعون السمع ، وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) .
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )
( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ، هل يستويان مثلا ؟ أفلا تذكرون ؟ ) . .
إن طول هذه الجملة ، وتنوع الإشارات والإيحاءات فيها ، وتنوع اللفتات والإيقاعات أيضا . . إن هذا كله يشي بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة ؛ ويصور لنا حاجة الموقف إلى هذه المعركة التقريرية الإيحائية ؛ كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية ؛ وهو يواجه ذلك الواقع ويجاهده جهادا كبيرا .
إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة ؛ ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها . والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون . يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ؛ بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة . . إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبدا ، وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله ، والدينونة للطاغوت من دون الله !
( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) . . وفي قوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه ) . وفي عائد هذه الضمائر في : ( ربه )وفي ( يتلوه ) وفي ( منه ) . . وأرجحها - كما يبدو لي - هو أن المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) هو رسول الله [ ص ] وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء به - وأن المقصود بقوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه )أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته . وهو هذا القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من الله لا يقدر عليه بشر . ( ومن قبله )- أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن ؛ " كتاب موسى " يشهد كذلك بصدق النبي [ ص ] سواء بما تضمنه من البشارة به ؛ أو بموافقة أصله لما جاء به محمد من بعده .
والذي يرجح هذا عندي هو وحدة التعبير القرآني في السورة - في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم ، من بينة يجدونها في أنفسهم ، يستيقنون معها أن الله هو الذي يوحي إليهم ، ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجودا مستيقنا واضحا لا يخالجهم معه شك ولا ريبة . فنوح - عليه السلام - يقول لقومه : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ . . وصالح عليه السلام يقول الكلمة ذاتها : ال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . وشعيب عليه السلام يقولها كذلك : ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، ورزقني منه رزقا ) . . فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم ، تصور حقيقة ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستيقنة لحقيقة الألوهية في نفوسهم ؛ ولصدق اتصال ربهم بهم عن طريق الوحي أيضا . . وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصدا في سياق السورة - كما أسلفنا في التعريف بها - لإثبات أن شأن النبي [ ص ] مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل الكرام قبله ؛ مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه [ ص ] وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على الحق الذي معهم ؛ فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعا ، والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل جميعا .
ويكون المعنى الكلي للآية : أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه ويقينه . . حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه . وحيث يتبعه - أو يتبع يقينه هذا - شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني . وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله ، هو كتاب موسى الذي جاء إماما لقيادة بني إسرائيل ورحمة من الله تنزلت عليهم . وهو يصدق رسول الله [ ص ] بما تضمنه من التبشير به ، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول الاعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله .
يقول : أفمن كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من شتى فئات المشركين ؟ إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات . .
ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب ، وما ينتظر هؤلاء من جزاء في الآخرة . ويعرج على تثبيت الرسول - [ ص ] - والذين يؤمنون بما معه من الحق ؛ فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين ، وهم كثرة الناس في ذلك الحين :
( أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وقد وجد بعض المفسرين إشكالا في قوله تعالى : ( أولئك يؤمنون به )إذا كان المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه )هو شخص رسول الله [ ص ] كما أسلفنا . . فإن أولئك " تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة . . ولا إشكال هناك . فالضمير في قوله تعالى ( أولئك يؤمنون به )يعود على " شاهد " وهو القرآن . وكذلك الضمير في قوله تعالى ( ومن قبله )فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا . . فلا إشكال في أن يقول : ( أولئك يؤمنون به )- أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن - والرسول [ ص ] هو أول من آمن بما أنزل إليه ، ثم تبعه المؤمنون : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . . . )كما جاء في آية البقرة . . والآية هنا تشير إلى رسول الله [ ص ] وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه . . وهو أمر مألوف في التعبير القرآني ، ولا إشكال فيه .
( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) . .
وهو موعد لا يخلف ، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره !
( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وما شك رسول الله [ ص ] فيما أوحي إليه ، ولا امترى - وهو على بينة من ربه - ولكن هذا التوجيه الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله [ ص ] من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين ، تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت . وكذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم .
وما أحوج طلائع البعث الإسلامي ؛ وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان ؛ ويتآزر عليها الصد والإعراض ، والسخرية والاستهزاء ، والتعذيب والإيذاء ؛ والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية ؛ وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية ؛ وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها ؛ ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة . . .
ما أحوج هذه الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها ، وبكل إشارة ، وبكل لمحة فيها وكل إيماءة ! ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم :
( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وما أحوجها إلى أن تجد في نفوسها ظلالا لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من بينة من ربهم ، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة ؛ ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات الطريق :
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . )
إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون . . لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله [ ص ] إلى البشرية كلها بهذا الدين ؛ فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ، وسائر النبيين !
إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله - سبحانه - أولا تعترف . ولكنها تقيم الناس أربابا في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله ؛ ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله . . ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم ، وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه ربا لا أرباب معه ؛ ويدينون له وحده . فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه ، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه . . ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد ، وبين الجاهلية والإسلام . وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام !
ومن ثم لا بد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان . . وهذا بعض ما نعنيه حين نقول : ( إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة . ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها ، وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ، بعيدا عن المعركة ، وبعيدا عن الحركة . . . ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىَ إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ إِنّهُ الْحَقّ مِن رّبّكَ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ قد بين له دينه فتبينه ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : يعني بقوله : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ محمدا صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا حسين بن محمد ، قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة ، عن عروة ، عن محمد ابن الحنفية ، قال : قلت لأبي : يا أبت أنت التالي في وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ؟ قال : لا والله يا بني وددت أني كنت أنا هو ، ولكنه لسانه .
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : لسانه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : لسانه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا الحكم بن عبد الله أبو النعمان العجلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله .
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : حدثنا المعافي بن عمران ، عن قرة بن خالد ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ وهو محمد كان على بينة من ربه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قوله : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : لسانه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : لسانه هو الشاهد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن عوف ، عن الحسن ، مثله .
وقال آخرون : يعني بقوله : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ محمدا صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن سليمان العلاف ، عن الحسين بن عليّ في قوله : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن عوف ، قال : ثني سليمان العلاف ، قال : بلغني أن الحسين بن عليّ قال : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : محمد صلى الله عليه وسلم .
قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن سليمان العلاف ، سمع الحسين بن عليّ : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يقول : محمد هو الشاهد من الله .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على بينة من ربه ، والقرآن يتلوه شاهد منه أيضا من الله بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ قال : النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن نضر بن عربي ، عن عكرمة ، مثله .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا أبو خالد ، سمعت سفيان يقول : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ قال : محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : هو عليّ بن أبي طالب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا رزيق بن مرزوق ، قال : حدثنا صباح الفراء ، عن جابر ، عن عبد الله بن يحيى ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والاَيتان . فقال له رجل : فأنت فأيّ شيء نزل فيك ؟ فقال عليّ : أما تقرأ الآية التي نزلت في هود وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ؟
وقال آخرون : هو جبرئيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إنه كان يقول : جبرئيل .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : جبرئيل .
وحدثنا به أبو كريب مرّة أخرى بإسناده عن إبراهيم ، فقال : قال يقولون عليّ إنما هو جبرئيل .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : هو جبرئيل ، تلا التوراة والإنجيل والقرآن ، وهو الشاهد من الله .
حدثنا ابن باشر ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، وحدثنا محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا سفيان . وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : جبرئيل .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
قال : حدثنا سهل بن يوسف ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : جبرئيل .
قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي صالح : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : جبرئيل .
قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : جبرئيل .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ يعني محمدا هو على بينة من الله ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ جبرئيل شاهد من الله يتلو على محمد ما بعث به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : هو جبرئيل .
قال : حدثنا أبي ، عن نضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : هو جبرئيل .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : جبرئيل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ يعني محمدا على بينة من ربه ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فهو جبرئيل شاهد من الله بالذي يتلو من كتاب الله الذي أنزل على محمد ، قال : ويقال : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يقول : يحفظه الملك الذي معه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : كان مجاهد يقول في قوله : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ قال : يعني محمدا ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : جبرئيل .
وقال آخرون : هو ملك يحفظه ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : معه حافظ من الله ملك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارونَ ، وسُوَيد بن عمرو ، عن حماد بن سَلَمة ، عن أيوب ، عن مجاهد : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : ملك يحفظه .
قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، عمن سمع مجاهدا : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : الملك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يتبعه حافظ من الله مَلَك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن مجاهد : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال : الملك يحفظه : يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتَهِ قال : يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُقال : حافظ من الله ملك .
وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصواب في تأويل قوله : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ : قول من قال : هو جبرئيل ، لدلالة قوله : وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إماما وَرَحْمَةً على صحة ذلك وذلك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لم يتلُ قبل القرآن كتاب موسى ، فيكون ذلك دليلاً على صحة قول من قال : عُنِي به لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، أو محمد نفسه ، أو عليّ على قول من قال : عُنِي به عليّ . ولا يعلم أن أحدا كان تلا ذلك قبل القرآن أو جاء به ممن ذكر أهل التأويل أنه عُنِي بقوله : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ غير جبرئيل عليه السلام .
فإن قال قائل : فإن كان ذلك دليلك على أن المَعْنيّ به جبرئيل ، فقد يجب أن تكون القراءة في قوله : وَمِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى بالنصب لأن معنى الكلام على ما تأوّلت يجب أن يكون : ويتلو القرآن شاهد من الله ، ومن قَبل القرآن كتاب موسى ؟ قيل : إن القراء في الأمصار قد أجمعت على قراءة ذلك بالرفع فلم يكن لأحد خلافُها ، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالنصب كانت قراءة صحيحة ومعنى صحيحا .
فإن قال : فما وجه رفعهم إذا الكتاب على ما ادّعيت من التأويل ؟ قيل : وجه رفعهم هذا أنهم ابتدءوا الخبر عن مجيء كتاب موسى قبل كتابنا المنزل على محمد ، فرفعوه ب «من » قبله ، والقراءة كذلك ، والمعنى الذي ذكرت من معنى تلاوة جبرئيل ذلك قبل القرآن ، وأن المراد من معناه ذلك وإن كان الخبر مستأنفا على ما وصفت اكتفاء بدلالة الكلام على معناه .
وأما قوله : إماما فإنه نصب على القطع من كتاب موسى ، وقوله وَرَحْمَةً عطف على «الإمام » ، كأنه قيل : ومن قبله كتاب موسى إماما لبني إسرائيل يأَتَمّون به ، ورحمة من الله تلاه على موسى . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى قال : من قبله جاء بالكتاب إلى موسى . وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ذكر عليه منه ، وهو : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إِمَاما وَرَحْمَةً كمن هو في الضلالة متردّد ، لا يهتدي لرشد ، ولا يعرف حقّا من باطل ، ولا يطلب بعمله إلا الحياة الدنيا وزينتها ؟ وذلك نظير قوله : أمّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللّيْلِ ساجِدا وقائِما يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ والدليل على حقيقة ما قلنا في ذلك أن ذلك عَقِيب قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا . . . الآية ، ثم قيل : أهذا خير أمّن كان على بينة من ربه ؟ والعرب تفعل ذلك كثيرا إذا كان فيما ذكَرَتْ دلالة على مرادها على ما حَذَفت ، وذلك كقول الشاعر :
فأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ *** سِوَاكِ ولكنْ لَمْ نَجِدْ لكِ مَدْفَعا
وقوله : أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يقول : هؤلاء الذين ذكرت يصدّقون ويقرّون به إن كفر به هؤلاء المشركون الذين يقولون : إن محمدا افتراه . )
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّكَ وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ .
يقول تعالى ذكره : ومن يكفر بهذا القرآن فيجحد أنه من عند الله من الأحزاب وهم المتحزبة على مللهم فالنار موعده ، إنه يصير إليها في الاَخرة بتكذيبه يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم . فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ يقول : فلا تك في شكّ منه ، من أن موعد من كفر بالقرآن من الأحزاب النار ، وأن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك من عند الله . ثم ابتدأ جلّ ثناؤه الخبر عن القرآن ، فقال : إن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد الحقّ من ربك لا شكّ فيه ، ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بأن ذلك كذلك .
فإن قال قائل : أو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في شكّ من أن القرآن من عند الله ، وأنه حقّ ، حتى قيل له : فلا تك في مرية منه ؟ قيل : هذا نظير قوله : فإنْ كُنْتَ فِي شَكَ مِمّا أَنْزَلْنا إلَيْكَ وقد بيّنا ذلك هنالك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، قال : نبئت أن سعيد بن جبير قال : ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مِصْداقه في كتاب الله تعالى ، حتى قال «لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ وَلاَ يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِيّ ثُمّ لا يُؤْمِنُ بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ إلاّ دَخَلَ النّارَ » . قال سعيد : فقلت أين هذا في كتاب الله ؟ حتى أتيت على هذه الآية : وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إماما وَرَحْمَةً أُولَئكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ قال : من أهل الملل كلها .
حدثنا محمد بن عبد الله المُخَرّميّ وابن وكيع ، قالا : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا سفيان ، عن أيوب عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ قال : من الملل كلها .
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال : كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه ، إلا وجدت مصداقه أو قال تصديقه في القرآن ، فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ وَلا يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِيّ ثُمّ لا يُؤْمِنُ بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ إلاّ دَخَلَ النّارَ » فجعلت أقول : أين مصداقها ؟ حتى أتيت على هذا : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ . . . إلى قوله : فالنّارُ مَوْعِدُهُ قال : فالأحزاب : الملل كلها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : ثني أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ أحَدٍ يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ وَلا يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِيّ فَلا يُؤْمِنُ بِي إلاّ دَخَلَ النّار » فجعلت أقول : أين مصداقها في كتاب الله ؟ قال : وقلما سمعت حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا وجدت له تصديقا في القرآن ، حتى وجدت هذه الاَيات : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ : الملل كلها .
قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ قال : الكفار أحزاب كلهم على الكفر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي يكفر ببعضه ، وهم اليهود والنصارى . قال : بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ وَلا يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِيّ ثُمّ يَمُوتُ قَبْلَ أنْ يُؤْمِنَ بِي ، إلاّ دَخَلَ النّارَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا يوسف بن عديّ النضْريّ ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَن سَمِعَ بِي مِنْ أُمّتِي أوْ يَهُودِيّ أوْ نَصْرانِيّ ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِي لَمْ يَدْخُلِ الجَنّةَ » .
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده }
أغلقت معاني هذه الآية لكثرة الاحتمالات التي تعتورها من جهة معاد الضمائر واسم الإشارة ، ومن جهة إجمال المراد من الموصول ، وموقع الاستفهام ، وموقع فاء التفريع . وقد حكى ابن عطية وجوهاً كثيرة في تفسيره بما لم يلخصه أحد مثله وتبعه القرطبي في حكاية بعضها . والاختلاف في مَاصدق { مَن كان على بينة من ربّه } . وفي المراد من { بينة من ربه } ، وفي المعنّي ب { يتلوه } . وفي المراد من { شاهد } . وفي معاد الضمير المنصوب في قوله : { يتلوه } . وفي معنى ( منْ ) من قوله : { منه } ، وفي معاد الضمير المجرور ب ( مِن ) . وفي موقع قوله : { مِن قبله } من قوله : { كتاب موسى } . وفي مرجع اسم الإشارة من قوله : { أولئك يؤمنون به } . وفي معاد الضمير المجرور بالباء من قوله : { يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب } الخ فهذه مفاتيح تفسير هذه الآية .
والذي تخلّص لي من ذلك ومما فتح الله به مما هو أوضح وجْهاً وأقرب بالمعنى المقصود شِبْهاً : أن الفاء للتفريع على جملة { أم يقولون افتراه إلى قوله : فهل أنتم مسلمون } [ هود : 13 ، 14 ] وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان ، وهذا التفريع تفريع الضدّ على ضده في إثبات ضد حكمه له ، أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وُصف فثَمّ قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البيّنات والشواهد ، فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قوله : { فهل أنتم مسلمون } [ هود : 14 ] ، أي كما أسلم من كانوا على بيّنة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب .
والهمزة للاستفهام التقريري ، أي إن كفر به هؤلاء أفيُؤمِنُ به من كان على بينة من ربه ، وهذا على نحو نظم قوله تعالى : { أفمن حَق عليه كلمة العذاب أفأنت تُنقذ مَن في النّار } [ الزمر : 19 ] أي أنت تنقذ من النار الذي حق عليه كلمة العذاب .
و { مَن كان على بيّنة } لا يراد بها شخص معيّن . فكلمة ( مَن ) هنا تكون كالمعرّف بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة ، أعني أنه على بينة من ربه . وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة . وإفراد ضمائر { كان على بيّنة من ربه } مراعاةٌ للفظ ( مَن ) الموصولة وذلك أحد استعمالين . والجمع في قوله : { أولئك يؤمنون } مراعاة لمعنى ( مَن ) الموصولة وذلك استعمال آخر . والتقدير : أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } في سورة [ القتال : 14 ] .
والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيراً منهم ، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي ، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله بن سلام ممّن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البيّنة ، فأصحابها مؤمنون بها .
والمراد بالبيّنة حجة مجيء الرسول المبشّر به في التوراة والإنجيل . فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذّبُوا رسولاً صادقاً . وكون اليهود على بيّنة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولاً مبشّراً به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى عليه السلام ليسوا على بيّنة . فالمراد على بيّنة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله : { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } [ هود : 14 ] ، ويعينها اللاحق من قوله : { أولئك يؤمنون به } أي بالقرآن .
و ( مِن ) في قوله : { من ربه } ابتدائية ابتداء مجازياً . ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لمَا مَعكم لتُؤمنن به ولتنصرنه } [ آل عمران : 81 ] وقوله : { الذينَ يَتبعون الرسول النّبيء الأمّيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] . وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البيّنة المذكورة هنا من الأنجيل ، ويقوي أن المراد ب { من كان على بينة من ربه } النصارى .
وفعل ( يتلوه ) مضارع التّلو وهو الاتّباع وليس من التلاوة ، أي يتبعه . والاتباع مستعار للتّأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له . وضمير الغائب المنصوب في قوله : { يتلوه } عائد إلى { من كان على بينة من ربه } .
والمراد ب { شاهد منه } شاهد من ربه ، أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه المعاندين عن الإتيان بعشر سور مثله كان حجة على أنه آت من جانب الله .
و { مِن } ابتدائية . وضمير { منه } عائد إلى { ربه } . ويجوز أن يعود إلى { شاهد } أي شاهد على صدقه كائن في ذاته وهو إعجازه إياهم عن الإتيان بمثله .
و { من قبله } حال من { كتاب موسى } . و { كتاب موسى } عطف على { شاهد منه } والمراد تلوه في الاستدلال بطريق الارتقاء فإن النصارى يهتدون بالإنجيل ثم يستظهرون على ما في الإنجيل بالتّوراة لأنّها أصله وفيها بيانه ، ولذلك لما عطف { كتاب موسى } على { شاهد } الذي هو معمول { يتلوه } قيد كتاب موسى بأنه من قبله ، أي ويتلوه شاهد منه . ويتلوه كتاب موسى حالة كونه من قبْل الشاهد أي سابقاً عليه في النزول . وإذا كان المراد ب { من كان على بيّنة من ربّه } النصارى خاصة كان لذكر { كتاب موسى } إيماء إلى أن كتاب موسى عليه السلام شاهد على صدق محمّد صلى الله عليه وسلم ولم يُذكر أهل ذلك الكتاب وهم اليهود لأنهم لم يكونوا على بيّنة من ربّهم كاملةٍ من جهة عدم تصديقهم بعيسى عليه السلام .
و { إماماً ورحمة } حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للنّاس يعملون بأحكامها فيرحمهم الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله .
والإشارة ب { أولئك } إلى { من كان على بينة من ربّه } ، أي أولئك الذين كانوا على بيّنة من ربهم يؤمنون بالقرآن وليسوا مثلكم يا معشر المشركين ، وذلك في معنى قوله تعالى : { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } [ الأنعام : 89 ] .
وإقحام { أولئك } هنا يشبه إقحام ضمير الفصل ، وفيه تنبيه على أن ما بعده من الخبر مسبب على ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم على بينة من ربهم معضدة بشواهد من الأجيل والتوراة .
وجملة { أولئك يؤمنون به } خبر { من كان على بينة من ربه } .
وضمير ( به ) عائد إلى القرآن المعلوم من المقام أو من تقدم ضميره في قوله { أم يقولون افتراه } [ هود : 13 ] .
وبه ينتظم الكلام مع قوله : { أم يقولون افتراه } إلى قوله : { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } [ هود : 13 ، 14 ] أي يؤمنون بكون القرآن من عند الله .
والباء للتعدية لا للسببية ، فتعدية فعل ( يؤمنون ) إلى ضمير القرآن من باب إضافة الحكم إلى الأعيان وإرادة أوصافها مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] ، أي يؤمنون بما وصف به القرآن من أنه من عند الله .
وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها { فهل أنتم مسلمون } [ هود : 14 ] فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بيّنة من ربّهم مؤيّدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى عليه السلام من قَبْل بيّنتهم .
وقريب من معنى الآية قوله تعالى : { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } [ الأحقاف : 10 ] فاستقام تفسير الآية تمام الاستقامة ، وأنت لا يعوزك تركيب الوجوه التي تأول بها المفسرون مِمّا يخالف ما ذكرناه كُلاً أو بَعضاً فبصَرك فيها حديد ، وبيدك لفتح مغالقها مَقاليد .
وجملة { ومن يكفر به من الأحزاب } عطف على جملة { أفمن كان على بيّنة من ربّه } لأنه لمّا حرض أهل مكة على الإسلام بقوله : { فهل أنتم مسلمون } [ هود : 14 ] ، وأراهم القِدْوة بقوله : { أولئك يؤمنون به } ، عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال : { ومن يكفر به من الأحزاب } ، وأعرض عما تبين له من بيّنة ربه وشواهد رسله فالنّار موعده .
والأحزاب : هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمْرٌ يجتمعون عليه ، فالمشركون حزب ، واليهود حزب ، والنصارى حزب ، قال تعالى : { كذبت قبلهم قوم نوحٍ وعادً وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة أولئك الأحزاب } [ ص : 12 ، 13 ] .
والباء في { يكفر به } كالباء في { يؤمنون به } .
والموعد : ظرف للوعد من مكان أو زمان .
وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعيّن لعمل أن يعين به بوعد سابق .
{ فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } .
تفريع على جملة { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم .
والنهي مستعمل كناية تعريضية بالكافرين بالقرآن لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ونقصه ، فمن لوازمه ذم المتلبس بالمنهي عنه . ولما كان المخاطب غير مظنة للتلبس بالمنهي عنه فيُطلبَ منه تركه ويكون النهيُ طلبَ تحصيل الحاصل ، تعيّنَ أن يكون النهي غير مراد به الكفّ والإقلاع عن المنهي عنه فيكون مستعملاً في لازم ذلك بقرينة المقام ، ومما يزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى في سورة آلم [ السجدة : 23 ] { ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه } فإنه لو كان المقصود تحذير النّبيء صلى الله عليه وسلم من الامتراء في الوحي لما كان لتفريع ذلك على إيتاء موسى عليه السلام الكتاب ملازمة ، ولكن لما كان المراد التعريض بالذين أنكروا الوحي قدّم إليهم احتجاجَ سبق الوحي لموسى عليه السلام .
و { في } للظرفية المجازية المستعملة في تمكن التلبس نظراً لحال الذين استعمل النهي كناية عن ذمّهم فإنهم متلبسون بمزية شديدة في شأن القرآن .
وضميرا الغيبة عائدان إلى القرآن الذي عاد إليه ضمير { افتراه } [ هود : 13 ] .
وجملة { إنه الحق من ربك } مستأنفة تأكيد لما دلت عليه جملة { فلا تَكُ في مرية منه } من أنه لوضوح حقيته لا ينبغي أن يمترى في صدقه . وحرف التأكيد يقوم مقام الأمر باعتقاد حقيته لما يدل عليه التأكيد من الاهتمام .
والمرية : الشك . وهي مرادفة الامتراء المتقدم في أول الأنعام . واختير النهي على المرية دون النهي عن اعتقاد أنه كذب كما هو حال المشركين ، لأن النهي عن الامتراء فيه يقتضي النهي عن الجزم بالكذب بالأوْلى ، وفيه تعريض بأن ما فيه المشركون من اليقين بكذب القرآن أشد ذمّاً وشناعة .
و { مِن } ابتدائية ، أي في شك ناشىء عن القرآن ، وإنما ينشأ الشك عنه باعتبار كونه شكّاً في ذاته وحقيقته لأن حقيقة القرآنية أنه كتاب من عند الله ، فالشك الناشىء على نزوله شك في مجموع حقيقته . وهذا مثل الضمير في قوله : { يؤمنون به } من غير احتياج إلى تقدير مضاف يؤول به إلى إضافة الحكم إلى الأعيان المراد أوصافها .
وتعريف { الحق } لإفادة قصر جنس الحق على القرآن . وهو قصر مبالغة لكمال جنس الحق فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره مثل قولك : حاتم الجواد .
والاستدراك بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } ناشيء على حكم الحصر ، فإنّ الحصر يقتضي أن يؤمن به كل من بلغه ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
والإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين .
وحذف متعلق { يؤمنون } لأن المراد انتفاء حقيقة الإيمان عنهم في كل ما طلب الإيمان به من الحق ، أي أن في طباع أكثر الناس تغليب الهوى على الحق فإذا جاء ما يخالف هواهم لم يؤمنوا .