قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم } ، بها من ذنوبهم ، { وتزكيهم بها } ، أي : ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين . وقيل : تنمي أموالهم { وصل عليهم } ، أي : ادع لهم واستغفر لهم . وقيل : هو قول الساعي للمصدق إذا أخذ الصدقة منه : آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت . والصلاة في اللغة : الدعاء .
قوله تعالى : { إن صلاتك } قرأ حمزة والكسائي : " صلاتك " على التوحيد ونصب التاء هاهنا ، وفي سورة هود " أصلاتك " وفي سورة المؤمنين " على صلاتهم " كلهن على التوحيد ، وافقهما حفص هاهنا وفي سورة هود . وقرأ الآخرون بالجمع فيهن ويكسرون التاء هاهنا وفي سورة المؤمنين ، ولا خلاف في التي في الأنعام { وهم على صلاتهم يحافظون } ولا التي في المعارج { وهم على صلاتهم يحافظون } أنها جميعا على التوحيد .
قوله تعالى : { سكن لهم } ، أي : إن دعاءك رحمة لهم . قاله ابن عباس . وقيل : طمأنينة لهم ، وسكون لهم ، أن الله عز وجل قد قبل منهم . وقال أبو عبيدة : تثبيت لقلوبهم . قوله تعالى : { والله سميع عليم } . واختلفوا في وجوب الدعاء على الإمام عند أخذ الصدقة : قال بعضهم : يجب . وقال بعضهم : يستحب . وقال بعضهم : يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع . وقيل يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا آدم بن أبي إياس ، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت عبد الله ابن أبي أوفى -وكان من أصحاب الشجرة- قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قومه بصدقة قال :اللهم صل عليهم ، فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى " . وقال ابن كيسان : ليس هذا في صدقة الفرض إنما هو في صدقة كفارة اليمين . وقال عكرمة : هي صدقة الفرض ، فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكالمون ولا يجالسون ، فما لهم ؟ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم رجع إلى المدينة نهى المؤمنين عن مكالمة المنافقين ومجالستهم .
قوله تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } . أي يقبلها .
قال تعالى لرسوله ومن قام مقامه ، آمرا له بما يطهر المؤمنين ، ويتمم إيمانهم : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وهي الزكاة المفروضة ، { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } أي : تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة .
{ وَتُزَكِّيهِمْ } أي : تنميهم ، وتزيد في أخلاقهم الحسنة ، وأعمالهم الصالحة ، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي ، وتنمي أموالهم .
{ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي : ادع لهم ، أي : للمؤمنين عموما وخصوصا عندما يدفعون إليك زكاة أموالهم .
{ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } أي : طمأنينة لقلوبهم ، واستبشار لهم ، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } لدعائك ، سمع إجابة وقبول .
{ عَلِيمٌ } بأحوال العباد ونياتهم ، فيجازي كل عامل بعمله ، وعلى قدر نيته ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل لأمر اللّه ، ويأمرهم بالصدقة ، ويبعث عماله لجبايتها ، فإذا أتاه أحد بصدقته دعا له وبرَّك .
ففي هذه الآية ، دلالة على وجوب الزكاة ، في جميع الأموال ، وهذا إذا كانت للتجارة ظاهرة ، فإنها أموال تنمى ويكتسب بها ، فمن العدل أن يواسى منها الفقراء ، بأداء ما أوجب اللّه فيها من الزكاة .
وما عدا أموال التجارة ، فإن كان المال ينمى ، كالحبوب ، والثمار ، والماشية المتخذة للنماء والدر والنسل ، فإنها تجب فيها الزكاة ، وإلا لم تجب فيها ، لأنها إذا كانت للقنية ، لم تكن بمنزلة الأموال التي يتخذها الإنسان في العادة ، مالا يتمول ، ويطلب منه المقاصد المالية ، وإنما صرف عن المالية بالقنية ونحوها .
وفيها : أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله ، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها ، لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها .
وفيها : استحباب الدعاء من الإمام أو نائبه لمن أدى زكاته بالبركة ، وأن ذلك ينبغي ، أن يكون جهرا ، بحيث يسمعه المتصدق فيسكن إليه .
ويؤخذ من المعنى ، أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمن بالكلام اللين ، والدعاء له ، ونحو ذلك مما يكون فيه طمأنينة ، وسكون لقلبه . وأنه ينبغي تنشيط من أنفق نفقة وعمل عملا صالحا بالدعاء له والثناء ، ونحو ذلك .
ثم أمر الله تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الصدقات من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم ومن غيرهم ، فقال : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } .
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : " لما أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا لبابة وأصحابه جاءوا بأموالهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا ، واستغفر لنا ، فقال " ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا " " .
فأنزل الله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً . . . } الآية .
وقال الإِمام ابن كثير : أمر الله تعال - رسوله أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها . وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم .
ولهذا اعتقد بعض مانعى الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإِمام لا يكون ، وإنما كان هذا خاصا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ولهذا احتجوا بقوله : - تعالى - : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً . . . . } الآية .
وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة ، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة الى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال الصديق : " الله لومنعونى عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه " .
والمعنى : خذ - أيها الرسول الكريم - من أموال هؤلاء المعترفين بذنوبهم ، ومن غيرهم من اصحابك " صدقة " معينة ، كالزكاة المفروضة ، أو غير معينة كصدقة التطوع .
وقوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } بيان للفوائد المترتبة على هذه الصدقة .
أى : من فوائد هذه الصدقة أنها تطهر النفوس من رذائل الشح والبخل والطمع . . وتزكى القلوب من الأخلاق الذميمة ، وتنمى الأموال والحسنات قال بعضهم : قوله : " تطهرهم " قرئ مجزوما على أنه جواب للأمر . وقرئ . مرفوعا على أنه حال من ضمير المخاطب في قوله : " خذ " أو صفة لقوله " صدقة " والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده أى : تطهرهم بها . .
وقوله : " وتزكيهم " لم يقرأ إلا بإثبات الياء ، على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه . أى : وأنت تزكيهم بها .
هذا على قراءة الجزم في " تطهرهم " ، وأما على قراءة الرفع فيكون قوله " وتزكيهم بها " معطوف على قوله " تطهرهم " حالا أو صفة .
وقوله : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أى : وادع لهم بالرحمة والمغفرة ، وقبول التوبة ، فإن دعاءك لهم تسكن معه نفوسهم ، وتطمئن به قلوبهم ، ويجعلهم في ثقة من أن الله - تعالى - قد قبل توبتهم ، فأنت روسله الأمين ، ونبيه الكريم .
فالمراد بالصلاة هنا : الدعاءلهم بالرحمة والمغفرة .
قال بعضهم : " وظاهر " قوله : " وصل عليهم " أنه يجب على الإِمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق . وبهذا أخذ داود وأهل الظاهر .
وأما سائر الفقهاء فقد حملوا الأمر هنا على الندب والاستحباب ، " لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ : " أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقراءهم " ولم يأمره بالدعاء . .
أما صيغة الدعاء فلم يرد فيها تعيين إلا ما رواه الستة - غير الترمذى من قوله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم صلى على آل أبى أوفى " - عندما أخذ منهم الزكاة - .
ومن هنا قال الحنابلة وداود وأهل الظاهر لا مانع من أن يقول آخذ الزكاة : اللهم صل على آل فلان .
وقال باقى الأئمة لا يجوز أن يقال : اللهم صل على آل فلان ، وإن ورد في الحديث ، لأن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالانبياء - صلوات الله عليهم - ، كما أن قولنا : - عز وجل - صار مخصوصا بالله - تعالى - .
قالوا : وإنما أحدث الصلاة على غير الأنبياء مبتدعو الرافضة في بعض الأئمة ، والتشبه بأهل البدع منهى عنه .
ولا خلاف في أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم فيقال : اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته . . لأن السلف استعملوا ذلك ، وأمرنا به في التشهد ، ولأن الصلاة على التابع تعظيم للمتبوع . .
وقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى : سميع لاعترافهم بذنوبهم وسميع لدعائهم سماع قبول وإجابة ، وعليم بندمهم وتوبتهم ، وبكل شئ في هذا الكون ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب .
ثم قال اللّه لنبيه - [ ص ] - :
( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، واللّه سميع عليم ) . .
ولقد كانت تلك الحساسية التي بعثت الندم والتوبة في تلك القلوب ، جديرة بالطمأنينة ، حقيقة بالعطف الذي يسكب فيها الأمل ، ويفتح لها أبواب الرجاء . . وإن كان رسول اللّه - [ ص ] - وهو يقود حركة ، ويربي أمة ، وينشئ نظاماً ، قد رأى الأخذ بالحزم في أمرهم حتى يأتيه أمر من ربه في شأنهم . . قال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قال : لما أطلق رسول اللّه - [ ص ] - أبا لبابة وصاحبيه ، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم ، فأتوا بها رسول اللّه - [ ص ] - فقالوا : خذ من أموالنا فتصدق بها عنا وصل علينا . . يقولون : استغفر لنا . . وطهرنا . فقال رسول اللّه - [ ص ] - لا آخذ منها شيئاً حتى أومر . فأنزل اللّه : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) . يقول : استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا . فلما نزلت الآية أخذ رسول اللّه - [ ص ] - جزءا من أموالهم ، فتصدق به عنهم " .
وهكذا من اللّه عليهم لما علمه سبحانه من حسن سريرتهم ، وصدق توبتهم ، فأمر رسوله - [ ص ] - أن يأخذ بعض أموالهم يتصدق بها عنهم ، وأن يصلي عليهم - أي يدعو لهم ، فالأصل في الصلاة الدعاء - ذلك أن أخذ الصدقة منهم يرد إليهم شعورهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة ، فهم يشاركون في واجباتها ، وينهضون بأعبائها ، وهم لم ينبذوا منها ولم ينبتوا عنها ؛ وفي تطوعهم بهذه الصدقات تطهير لهم وتزكية ، وفي دعاء الرسول - [ ص ] - لهم طمأنينة وسكن .
يسمع الدعاء ، ويعلم ما في القلوب . ويقضي بما يسمعه ويعلمه قضاء السميع العليم . وهو وحده الذي يقضي في شأن العباد ، فيقبل منهم توبتهم ويأخذ منهم صدقاتهم ، ورسول اللّه - [ ص ] - ينفذ ما يأمره به ربه ، ولا ينشئ شيئاً من هذا من عنده .
القول في تأويل قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم وتُزَكّيهمْ بِها يقول : وتنميهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق بها ، إلى منازل أهل الإخلاص . وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول : وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ منها . إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يقول : إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم بأن الله قد عفا عنهم وقبل توبتهم . وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول : والله سميع لدعائك إذا دعوت لهم ولغير ذلك من كلام خلقه ، عليم بما تطلب بهم بدعائك ربك لهم وبغير ذلك من أمور عباده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : جاءوا بأموالهم يعني أبا لبابة وأصحابة حين أطلقوا فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا واستغفر لنا قال : «ما أُمِرْتُ أن آخُذَ مِنْ أمْوَالِكُمْ شَيْئا » . فأنزل الله : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص . وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول : استغفر لهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه ، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : خذ من أموالنا فتصدق به عنا ، وصلّ علينا يقولون : استغفر لنا وطهرنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا آخُذُ مِنْها شَيْئا حتى أُومَرَ » فأنزل الله : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها وَصَلّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يقول : استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا . فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءا من أموالهم ، فتصدّق بها عنهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن زيد بن أسلم ، قال : لما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة والذين ربطوا أنفسهم بالسواري ، قالوا : يا رسول الله خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها فأنزل الله : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ . . . الآية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال الذين ربطوا أنفسهم بالسواري حين عفا الله عنهم با نبيّ الله طهر أموالنا فأنزل الله : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها ، وكان الثلاثة إذا اشتكى أحدهم اشتكى الاَخران مثله ، وكان عمى منهم اثنان ، فلم يزل الاَخر يدعوا حتى عمى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الأربعة : جّد بن قيس ، وأبو لبابة ، وحرام ، وأوس ، وهم الذين قيل : فيهم : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها وَصَلّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي وقار لهم . وكانوا وعدوا من أنفسهم أن ينفقوا ويجاهدوا ويتصدّقوا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك ، قال : لما أطلق نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وأصحابه ، أتوا نبيّ الله بأموالهم ، فقالوا : يا نبيّ الله خذ من أموالنا فتصدّق به عنا ، وطهرنا وصل علينا يقولون : استغفر لنا . فقال نبيّ الله : «لا آخُذُ مِنْ أمْوَالِكُمْ شَيْئا حتى أُومَرَ فِيها » . فأنزل الله عزّ وجلّ : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ من ذنوبهم التي أصابوا . وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول : استغفر لهم . ففعل نبيّ الله عليه الصلاة والسلام ما أمره الله به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً أبو لبابة وأصحابه . وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول : استغفر لهم لذنوبهم التي كانوا أصابوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها وَصَلّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قال : هؤلاء ناس من المنافقين ممن كان تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، اعترفوا بالنفاق وقالوا : يا رسول الله قد ارتبنا ونافقنا وشككنا ، ولكن توبة جديدة وصدقة نخرجها من أموالنا فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها بعد ما قال : وَلا تُصَلّ عَلى أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ .
واختلف أهل العربية في وجه رفع «تزكيهم » ، فقال بعض نحويي البصرة : رفع «تزكيهم بها » في الابتداء وإن شئت جعلته من صفة الصدقة ، ثم جئت بها توكيدا ، وكذلك «تطهرهم » . وقال بعض نحويي الكوفة : إن كان قوله : تُطَهّرُهُمْ للنبيّ عليه الصلاة والسلام فالاختيار أن تجزم بأنه لم يعد على الصدقة عائد ، وَتُزَكّيهِمْ مستأنف ، وإن كانت الصدقة تطهرهم وأنت تزكيهم بها جاز أن تجزم الفعلين وترفعهما .
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول أن قوله : تُطَهّرُهُمْ من صلة «الصدقة » ، لأن القرّاء مجمعة على رفعها ، وذلك دليل على أنه من صلة الصدقة . وأما قوله : وَتُزَكّيهِم بها فخبر مستأنف ، بمعنى : وأنت تزكيهم بها ، فلذلك رفع .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : إنّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فقال بعضهم : رحمة لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يقول : رحمة لهم .
وقال آخرون : بل معناه : إن صلاتك وقار لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ : أي وقار لهم .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته قرّاء المدينة : «إنّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ » بمعنى دعواتك . وقرأ قرّاء العراق وبعض المكيين : إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ بمعنى إن دعاءك . وكأن الذين قرءوا ذلك على التوحيد رأوا أن قراءته بالتوحيد أصحّ لأن في التوحيد من معنى الجمع وكثرة العدد ما ليس في قوله : «إنّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ » إذ كانت الصلوات هي جمع لما بين الثلاث إلى العشر من العدد دون ما هو أكثر من ذلك ، والذي قالوا من ذلك عندنا كما قالوا . وبالتوحيد عندنا القراءة لا لعلة أن ذلك في العدد أكثر من الصلوات ، ولكن المقصود منه الخبر عن دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وصلاته أنه سكن لهؤلاء القوم لا الخبر عن العدد ، وإذا كان ذلك كذلك كان التوحيد في الصلاة أولى .
لما كان من شرط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما فات وكان التخلف عن الغزو مشتملاً على أمرين هما عدم المشاركة في الجهاد ، وعدم إنفاق المال في الجهاد ، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يُمكن تَدَارُكه مما فات وهو نفع المسلمين بالمال ، فالإنفاق العظيم على غزوة تُبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين ، فإذا أخذ من المخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حلّ بمال المسلمين .
فهذا وجه مناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها . وقد روي أن الذين اعترفوا بذنوبهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك خذها فتصدق بها وطهرنا واستغفر لنا ، فقال لهم : لم أومر بأن آخذ من أموالكم . حتى نزلت هذه الآية فأخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم صدقاتهم ، فالضمير عائد على آخرين اعترفوا بذنوبهم .
والتاء في { تطهّرهم } تحتمل أن تكون تاء الخطاب نظراً لقوله : { خذ } ، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة . وأيّاماً كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي .
والتزكية : جعل الشيء زكياً ، أي كثير الخيرات . فقوله : { تطهرهم } إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات . وقوله : { تزكيهم } إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات . ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية . فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم .
والصلاة عليهم : الدعاء لهم . وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { وصلوات الرسول } [ التوبة : 99 ] . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا جاءه أحد بصدقته يقول : اللهم صل على آل فلان . كما ورد في حديث عبد الله بن أبي أوفى يجمع النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في هذا الشأن بين معنى الصلاة وبين لفظها فكان يُسْأل من الله تعالى أن يصلي على المتصدِق . والصلاة من الله الرحمة ، ومن النبي الدعاء .
وجملة : { إن صلواتك سكن لهم } تعليل للأمر بالصلاة عليهم بأن دعاءه سكن لهم ، أي سبب سَكَن لهم ، أي خير . فإطلاق السكن على هذا الدعاء مجاز مرسل .
والسكن : بفتحتين ما يُسكَن إليه ، أي يُطمأن إليه ويُرتاح به . وهو مشتق من السكون بالمعنى المجازي ، وهو سكون النفس ، أي سلامتها من الخوف ونحوه ، لأن الخوف يوجب كثرة الحذر واضطراب الرأي فتكون النفس كأنها غير مستقرة ، ولذلك سمي ذلك قلقاً لأن القلق كثرة التحرك . وقال تعالى : { وجاعل الليل سكناً } [ الأنعام : 96 ] وقال : { والله جعل لكم من بيوتكم سكَناً } [ النحل : 80 ] ، ومن أسماء الزوجة السكن ، أو لأن دعاءه لهم يزيد نفوسهم صلاحاً وسكوناً إلى الصالحات لأن المعصية تردد واضطراب ، كما قال تعالى : { فهم في ريبهم يترددون } [ التوبة : 45 ] ، والطاعة اطمئنان ويقين ، كما قال تعالى : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] .
وجملة : { والله سميع عليم } تذييل مناسب للأمر بالدعاء لهم . والمراد بالسميع هنا المجيب للدعاء . وذكره للإشارة إلى قبول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ففيه إيماء إلى التنويه بدعائه . وذكر العليم إيماء إلى أنه ما أمره بالدعاء لهم إلا لأن في دعائه لهم خيراً عظيماً وصلاحاً في الأمور .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو جعفر ويعقوب { صلواتِك } بصيغة الجمع . وقرأه حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف { صلاتك } بصيغة الإفراد . والقراءتان سواء ، لأن المقصود جنس صلاته عليه الصلاة والسلام . فمن قرأ بالجمع أفاد جميع أفراد الجنس بالمطابقة لأن الجمع المعرف بالإضافة يعم ، ومن قرأ بالإفراد فهمت أفراد الجنس بالالتزام .