قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } قال الحسنُ : هذا راجع إلى الذين تابُوا ؛ لأنهم بذلُوا أموالهم للصَّدقة ؛ فأوجب الله تعالى أخذها ، وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم ، فتكون جارية مجرى الكفارة . وليس المراد منها الصدقة الواجبة ، وإنَّما هي كفارة الذنبِ{[18105]} . وهذا بناء على القول بأنَّهُم ليسوا منافقين ، ويدلُّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : " ما أمرتُ أن آخُذَ مِنْ أموالكُمْ شَيْئاً " فلو كانت واجبة لم يقل ذلك . وأيضاً روي أنه عليه الصلاة والسلام : أخذ الثلث وترك الثلثين{[18106]} . والواجبةُ ليست كذلك . وقيل : إنَّ الزكاة كانت واجبة عليهم ، فلمَّا تابُوا عن تخلفهم عن الغزوِ ، وحسن إسلامهم ، وبذلوا الزكوات أمر الله رسوله أن يأخذها منهم . وهذا بناء على أنَّهم كانوا منافقين .
وقيل : هذا كلام مبتدأ ، والمقصود منه إيجاب أخذ الزَّكاة من الأغنياء ، وعليه أكثر الفقهاء ، واستدلُّوا بقوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } . فدلَّ على أنَّ المأخوذَ بعض تلك الأموال لا كلها ؛ لأنَّ " مِنْ " للتبعيض ، ثم إن مقدار ذلك البعض غير مصرّح به ، بل المصرح به قوله : " صدقَة " ، وليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخذ أيّ جزء كان ، وإن كان في غاية القلَّة مثل الحبَّة الواحدة من الحنطة ، أو الجزء الحقير من الذَّهبِ ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفيَّة والكمية عندهم ، حتى يكون قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] أمراً بأخذ تلك الصَّدقة المعلومة ، لكي يزول الإجمالُ . وليست إلاَّ الصدقة التي وصفها رسُول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأخذ في خمس وعشرين بنت مخاض ، وفي ست وثلاثين بنت لبون ، إلى غير ذلك ، وأجاب الأوَّلُون بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنها بأخذ الثلث فزال الإجمال ، وظهر تعلق الآية بما قبلها ، وعلى قولكم لا يظهر تعلق الآية بما قبلها .
قوله : { . . مِنْ أَمْوَالِهِمْ . . } يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب " خُذْ " ، و " مِنْ " تبعيضية .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّها حالٌ من " صدقةً " ، إذ هي في الأصل صفةٌ لها ، فلمَّا قُدِّمت نُصبَتْ حالاً . والصَّدقة : مأخوذة من الصِّدْقِ ، وهي دليل على صحَّة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنَّهُ ليس من المنافقين الذين يَلْمِزُون المُطَّوعين من المُؤمنينَ في الصَّدقاتِ .
قوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ } يجوزُ أن تكون التَّاء في " تُطَهِّرُهمْ " خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون للتنبيه ، والفاعل ضمير الصدقة ، فعلى الأوَّل تكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " خُذْ " . ويجوز أن تكون صفةً ل " صَدقَةً " ، ولا بدَّ حينئذ من حذف عائد ، تقديره : تُطهِّرُهُم بها ، وحذف " بها " ، لدلالة ما بعده عليه . وعلى الثاني تكون الجملة صفة ل " صدقة " ليس إلاَّ ، وأمَّا " تُزَكِّيهم " فالتاء فيه للخطاب لا غير ، لقوله " بها " ، فإنَّ الضمير يعود على الصَّدقة فاستحال أن يعود الضميرُ من " تُزكِّيهم " إلى الصَّدقة . وعلى هذا فتكونُ الجملةُ حالاً من فاعل " خُذ " على قولنا : إنَّ " تَطهِّرهُم " حال منه ، وإنَّ التَّاء فيه للخطاب . ويجوزُ أيضاً أن تكون صفةً إن قلنا : إنَّ " تُطهِّرهم " صفةٌ ، والعائدُ منها محذوفٌ . وجوَّز مكيٌّ أن يكون " تُطهِّرُهُم " صفةً ل " صَدقةً " ، على أنَّ التَّاء للغيبة ، و " تُزكِّيهم " حالاً من فاعل " خُذْ " ، على أنَّ التاء للخطاب ، ورَدُّوهُ عليه بأنَّ الواو عاطفةٌ ، أي : صدقة مطهِّرة ، ومُزكياً بها ، ولو كان بغير واوٍ جاز ، ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ ، فإنَّ الواو مُشتركةٌ لفظاً ومعنى ، فلو كانت " وتُزكِّيهم " عطفاً على " تُطهِّرُهم " للزمَ أن يكون صفةً كالمعطوفِ عليه ؛ إذْ لا يجُوزُ اختلافهما ، ولكن يجوزُ ذلك على أن " تُزكِّيهم " خبر مبتدأ محذوف ، وتكون الواوُ للحالِ ، تقديره : وأنت تزكِّيهم ، وفيه ضعفٌ ، لقلَّةِ نظيره في كلامهم . وتلخَّص من ذلك أنَّ الجملتين يجُوزُ أن تكونا حالين من فاعل " خُذْ " على أن تكون التاءُ للخطابِ ، وأن تكونا صفتين ل " صَدقَة " على أنَّ التاء للغيبة ، والعائد محذوفٌ من الأولى ، وأن يكُون " تُطهِّرهُم " حالاً ، أو صفة ، و " تُزكِّيهم " حالاً على ما جوَّزه مكيٌّ ، وأن يكون " تزكِّيهم " خبر مبتدأ محذوف ، والواوُ للحال . وقرأ الحسنُ{[18107]} " تُطْهرُهم " مُخَفَّفاً من " أطهر " عدَّاهُ بالهمزة .
دلَّت هذه الآية على أنَّ الزَّكاة تتعلَّق بالأموال لا بالذِّمة ، لقوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } فلو مات أخذَت من التَّركة . وقال الشَّافعيُّ : إنَّها تتعلَّق بالذِّمة ، فلو فرط حتى هلك النصاب ، وجبت الزَّكاةُ ؛ لأنَّ الذي هلك ما كان محلاً للحق . ودلَّت الآية أيضاً على أنَّ الزَّكاة إنَّما وجبت طهرة للآثام ؛ فلا تجبُ إلا على البالغِ . وهو قول أبي حنيفة . وإذا قلنا : تتعلَّق بالمالِ وجبت في مال الصَّبي ، وفي مال المديُونِ .
معنى التَّطَهُّر ما روي أن الصدقة أوساخ النَّاسِ ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخُ ؛ فكان دفعها جارياً مجرى التَّطهر . والتَّزكية : مبالغة في التطهر ، وقيل : التَّزكية بمعنى الإنماءِ ، وقيل : الصَّدقة تطهرهم من نجاسةِ الذَّنب والمعصية ، والرسول يزكيهم ، ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء . ولذلك يقولُ السَّاعي له : آجرك اللهُ فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت ، وجعله لك طهوراً .
قوله : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } . قرأ الأخوان{[18108]} ، وحفص " إنَّ صلاتكَ " ، وفي هود { أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] بالتَّوحيد - والباقون " إنَّ صلواتك " ، " أصَلواتُك " بالجمع فيهما ، وهما واضحتان ، إلاَّ أنَّ الصلاة هنا : الدُّعاء ، وفي تيكَ : العبادة . قال أبو عبيدٍ : وقراءة الإفراد أوْلَى ؛ لأنَّ الصَّلاة أكثر ، قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } [ البقرة : 43 ] والصلواتُ جمع قلَّة ، تقول : ثلاث صلوات ، وخمس صلوات .
قال أبو حاتم : وهذا غلطٌ ، لأنَّ بناء الصلوات ليس للقلة ، قال تعالى : { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] ولم يرد التَّقليل ، وقال : { وَهُمْ فِي الغرفات } [ سبأ : 37 ] ، وقال { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] . والسَّكَنُ : الطمأنينة . وقال ابنُ عبَّاسٍ : رحمة لهم{[18109]} . وقال أبو عبيدة : تَثْبِيتاً لقلوبهم ؛ ومن الطمأنينة قوله : [ البسيط ]
يا جَارَة الحَيِّ ألاَّ كُنْتِ لِي سَكَناً *** إِذْ لَيْسَ بعضٌ مِنَ الجيرانِ أسْكننِي{[18110]}
ف " فَعَل " بمعنى " مفعول " ، كالقبض بمعنى : المقبوض ، والمعنى : يَسْكُنون إليها .
قال أبُو البقاءِ : " ولذلِكَ لمْ يُؤنِّثْهُ " . لكن الظَّاهر أنَّهُ هنا بمعنى " فاعل " ، لقوله : " لهم " . ولو كان كما قال لكان التَّركيب " سكنٌ إليها " أي : مَسْكُون إليها ، فقد ظهر أنَّ المعنى : مُسَكِّنة لهم .
قال ابنُ عبَّاسٍ : معنى الصَّلاةِ عليهم : أن يدعو لهم{[18111]} . وقال آخرون : معناه أن يقول لهم اللَّهُمَّ صلِّ على فلان ، ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنَّ آل أبي أوفى لمَّا أتوه بالصَّدقة قال : " اللَّهُمَّ صلِّ على آلِ أبِي أوْفَى{[18112]} " .
واختلفوا في وجوب الدُّعاء من الإمام عند أخذ الصدقة ، قال بعضهم : يجبُ . وقال بعضهم : يستحبُّ . وقال بعضهم : يجب في صدقة الفرضِ ، ويستحب في التَّطوع . وقيل : يجب على الإمام ، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي . ثم قال : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.