اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (103)

قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } قال الحسنُ : هذا راجع إلى الذين تابُوا ؛ لأنهم بذلُوا أموالهم للصَّدقة ؛ فأوجب الله تعالى أخذها ، وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم ، فتكون جارية مجرى الكفارة . وليس المراد منها الصدقة الواجبة ، وإنَّما هي كفارة الذنبِ{[18105]} . وهذا بناء على القول بأنَّهُم ليسوا منافقين ، ويدلُّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : " ما أمرتُ أن آخُذَ مِنْ أموالكُمْ شَيْئاً " فلو كانت واجبة لم يقل ذلك . وأيضاً روي أنه عليه الصلاة والسلام : أخذ الثلث وترك الثلثين{[18106]} . والواجبةُ ليست كذلك . وقيل : إنَّ الزكاة كانت واجبة عليهم ، فلمَّا تابُوا عن تخلفهم عن الغزوِ ، وحسن إسلامهم ، وبذلوا الزكوات أمر الله رسوله أن يأخذها منهم . وهذا بناء على أنَّهم كانوا منافقين .

وقيل : هذا كلام مبتدأ ، والمقصود منه إيجاب أخذ الزَّكاة من الأغنياء ، وعليه أكثر الفقهاء ، واستدلُّوا بقوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } . فدلَّ على أنَّ المأخوذَ بعض تلك الأموال لا كلها ؛ لأنَّ " مِنْ " للتبعيض ، ثم إن مقدار ذلك البعض غير مصرّح به ، بل المصرح به قوله : " صدقَة " ، وليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخذ أيّ جزء كان ، وإن كان في غاية القلَّة مثل الحبَّة الواحدة من الحنطة ، أو الجزء الحقير من الذَّهبِ ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفيَّة والكمية عندهم ، حتى يكون قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] أمراً بأخذ تلك الصَّدقة المعلومة ، لكي يزول الإجمالُ . وليست إلاَّ الصدقة التي وصفها رسُول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأخذ في خمس وعشرين بنت مخاض ، وفي ست وثلاثين بنت لبون ، إلى غير ذلك ، وأجاب الأوَّلُون بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنها بأخذ الثلث فزال الإجمال ، وظهر تعلق الآية بما قبلها ، وعلى قولكم لا يظهر تعلق الآية بما قبلها .

قوله : { . . مِنْ أَمْوَالِهِمْ . . } يجوزُ فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلقٌ ب " خُذْ " ، و " مِنْ " تبعيضية .

والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّها حالٌ من " صدقةً " ، إذ هي في الأصل صفةٌ لها ، فلمَّا قُدِّمت نُصبَتْ حالاً . والصَّدقة : مأخوذة من الصِّدْقِ ، وهي دليل على صحَّة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنَّهُ ليس من المنافقين الذين يَلْمِزُون المُطَّوعين من المُؤمنينَ في الصَّدقاتِ .

قوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ } يجوزُ أن تكون التَّاء في " تُطَهِّرُهمْ " خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون للتنبيه ، والفاعل ضمير الصدقة ، فعلى الأوَّل تكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " خُذْ " . ويجوز أن تكون صفةً ل " صَدقَةً " ، ولا بدَّ حينئذ من حذف عائد ، تقديره : تُطهِّرُهُم بها ، وحذف " بها " ، لدلالة ما بعده عليه . وعلى الثاني تكون الجملة صفة ل " صدقة " ليس إلاَّ ، وأمَّا " تُزَكِّيهم " فالتاء فيه للخطاب لا غير ، لقوله " بها " ، فإنَّ الضمير يعود على الصَّدقة فاستحال أن يعود الضميرُ من " تُزكِّيهم " إلى الصَّدقة . وعلى هذا فتكونُ الجملةُ حالاً من فاعل " خُذ " على قولنا : إنَّ " تَطهِّرهُم " حال منه ، وإنَّ التَّاء فيه للخطاب . ويجوزُ أيضاً أن تكون صفةً إن قلنا : إنَّ " تُطهِّرهم " صفةٌ ، والعائدُ منها محذوفٌ . وجوَّز مكيٌّ أن يكون " تُطهِّرُهُم " صفةً ل " صَدقةً " ، على أنَّ التَّاء للغيبة ، و " تُزكِّيهم " حالاً من فاعل " خُذْ " ، على أنَّ التاء للخطاب ، ورَدُّوهُ عليه بأنَّ الواو عاطفةٌ ، أي : صدقة مطهِّرة ، ومُزكياً بها ، ولو كان بغير واوٍ جاز ، ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ ، فإنَّ الواو مُشتركةٌ لفظاً ومعنى ، فلو كانت " وتُزكِّيهم " عطفاً على " تُطهِّرُهم " للزمَ أن يكون صفةً كالمعطوفِ عليه ؛ إذْ لا يجُوزُ اختلافهما ، ولكن يجوزُ ذلك على أن " تُزكِّيهم " خبر مبتدأ محذوف ، وتكون الواوُ للحالِ ، تقديره : وأنت تزكِّيهم ، وفيه ضعفٌ ، لقلَّةِ نظيره في كلامهم . وتلخَّص من ذلك أنَّ الجملتين يجُوزُ أن تكونا حالين من فاعل " خُذْ " على أن تكون التاءُ للخطابِ ، وأن تكونا صفتين ل " صَدقَة " على أنَّ التاء للغيبة ، والعائد محذوفٌ من الأولى ، وأن يكُون " تُطهِّرهُم " حالاً ، أو صفة ، و " تُزكِّيهم " حالاً على ما جوَّزه مكيٌّ ، وأن يكون " تزكِّيهم " خبر مبتدأ محذوف ، والواوُ للحال . وقرأ الحسنُ{[18107]} " تُطْهرُهم " مُخَفَّفاً من " أطهر " عدَّاهُ بالهمزة .

فصل

دلَّت هذه الآية على أنَّ الزَّكاة تتعلَّق بالأموال لا بالذِّمة ، لقوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } فلو مات أخذَت من التَّركة . وقال الشَّافعيُّ : إنَّها تتعلَّق بالذِّمة ، فلو فرط حتى هلك النصاب ، وجبت الزَّكاةُ ؛ لأنَّ الذي هلك ما كان محلاً للحق . ودلَّت الآية أيضاً على أنَّ الزَّكاة إنَّما وجبت طهرة للآثام ؛ فلا تجبُ إلا على البالغِ . وهو قول أبي حنيفة . وإذا قلنا : تتعلَّق بالمالِ وجبت في مال الصَّبي ، وفي مال المديُونِ .

فصل

معنى التَّطَهُّر ما روي أن الصدقة أوساخ النَّاسِ ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخُ ؛ فكان دفعها جارياً مجرى التَّطهر . والتَّزكية : مبالغة في التطهر ، وقيل : التَّزكية بمعنى الإنماءِ ، وقيل : الصَّدقة تطهرهم من نجاسةِ الذَّنب والمعصية ، والرسول يزكيهم ، ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء . ولذلك يقولُ السَّاعي له : آجرك اللهُ فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت ، وجعله لك طهوراً .

قوله : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } . قرأ الأخوان{[18108]} ، وحفص " إنَّ صلاتكَ " ، وفي هود { أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] بالتَّوحيد - والباقون " إنَّ صلواتك " ، " أصَلواتُك " بالجمع فيهما ، وهما واضحتان ، إلاَّ أنَّ الصلاة هنا : الدُّعاء ، وفي تيكَ : العبادة . قال أبو عبيدٍ : وقراءة الإفراد أوْلَى ؛ لأنَّ الصَّلاة أكثر ، قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } [ البقرة : 43 ] والصلواتُ جمع قلَّة ، تقول : ثلاث صلوات ، وخمس صلوات .

قال أبو حاتم : وهذا غلطٌ ، لأنَّ بناء الصلوات ليس للقلة ، قال تعالى : { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] ولم يرد التَّقليل ، وقال : { وَهُمْ فِي الغرفات } [ سبأ : 37 ] ، وقال { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] . والسَّكَنُ : الطمأنينة . وقال ابنُ عبَّاسٍ : رحمة لهم{[18109]} . وقال أبو عبيدة : تَثْبِيتاً لقلوبهم ؛ ومن الطمأنينة قوله : [ البسيط ]

يا جَارَة الحَيِّ ألاَّ كُنْتِ لِي سَكَناً *** إِذْ لَيْسَ بعضٌ مِنَ الجيرانِ أسْكننِي{[18110]}

ف " فَعَل " بمعنى " مفعول " ، كالقبض بمعنى : المقبوض ، والمعنى : يَسْكُنون إليها .

قال أبُو البقاءِ : " ولذلِكَ لمْ يُؤنِّثْهُ " . لكن الظَّاهر أنَّهُ هنا بمعنى " فاعل " ، لقوله : " لهم " . ولو كان كما قال لكان التَّركيب " سكنٌ إليها " أي : مَسْكُون إليها ، فقد ظهر أنَّ المعنى : مُسَكِّنة لهم .

فصل

قال ابنُ عبَّاسٍ : معنى الصَّلاةِ عليهم : أن يدعو لهم{[18111]} . وقال آخرون : معناه أن يقول لهم اللَّهُمَّ صلِّ على فلان ، ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنَّ آل أبي أوفى لمَّا أتوه بالصَّدقة قال : " اللَّهُمَّ صلِّ على آلِ أبِي أوْفَى{[18112]} " .

واختلفوا في وجوب الدُّعاء من الإمام عند أخذ الصدقة ، قال بعضهم : يجبُ . وقال بعضهم : يستحبُّ . وقال بعضهم : يجب في صدقة الفرضِ ، ويستحب في التَّطوع . وقيل : يجب على الإمام ، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي . ثم قال : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .


[18105]:انظر: تفسير البغوي (2/324).
[18106]:انظر: المصدر السابق. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/488) وعزاه إلى البيهقي عن سعيد بن المسيب.
[18107]:ينظر: الكشاف 2/307، البحر المحيط 5/99، الدر المصون 3/501.
[18108]:ينظر: السبعة ص (317-318)، الحجة 4/213، حجة القراءات ص (322)، إعراب القراءات 1/252، إتحاف 2/97.
[18109]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/324).
[18110]:ينظر البيت في البحر 5/100، الدر المصون 3/501، تفسير الماوردي 2/163.
[18111]:ذكره الرازي في "تفسيره" (16/146).
[18112]:أخرجه البخاري 3/423، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (1497، 4166، 2332، 6359)، ومسلم 2/56، كتاب الزكاة باب الدعاء لمن أتى بصدقته (176-178).