البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (103)

{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم } : الخطاب للرسول ، والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا ، فقال : « ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً » فنزلت .

فيروى أنه أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله : خذ من أموالهم .

والذي تظاهرت به أقوال المتأولين ابن عباس وغيره : أنها في هؤلاء المتخلفين ، وقال جماعة من الفقهاء : المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة .

فقوله : على هذا من أموالهم هو لجميع الأموال ، والناس عام يراد به الخصوص في الأموال ، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالرباع والثياب .

وفي المأخوذ منهم كالعبيد ، وصدقة مطلق ، فتصدق بأدنى شيء .

وإطلاق ابن عطية على أنه مجمل فيحتاج إلى تفسير ليس بجيد .

وفي قوله : خذ ، دليل على أنّ الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها .

ومن أموالهم : متعلق بخذ وتطهرهم ، وتزكيهم حال من ضمير خذ ، فالفاعل ضمير خذ .

وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدم كان حالاً ، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة ، وأن يكون استئنافاً ، وأن يكون ضمير تطهرهم عائداً على صدقة ، ويبعد هذا العطف ، وتزكيهم فيختلف الضمير أن ، فأما ما حكى مكي من أنّ تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ ، فقدر ردّ بأنّ الواو للعطف ، فيكون التقدير : صدقة مطهرة ومزكياً بها ، وهذا فاسد المعنى ، ولو كان بغير واو جاز انتهى .

ويصح على تقدير مبتدأ محذوف ، والواو للحال أي : وأنت تزكيهم ، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب .

والتزكية مبالغة في التطهر وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال .

وقرأ الحسن : تطهرهم من أطهر وأطهر وطهر للتعدية من طهر .

وصلِّ عليهم أي ادع لهم ، أو استغفر لهم ، أو صل عليهم إذا ماتوا ، أقوال .

ومعنى سكن : طمأنينة لهم ، إنّ الله قبل صدقتهم مقاله : ابن عباس .

أو رحمة لهم قاله أيضاً ، أو قربة قاله أيضاً ، أو زيادة وقار لهم قاله : قتادة ، أو تثبيت لقلوبهم قاله : أبو عبيدة ، أو أمن لهم .

قال :

يا جارة الحي إن لا كنت لي سكناً *** إذ ليس بعض من الجيران أسكنني

وهذه أقوال متقاربة .

وقال أبو عبد الله الرازي : إنما كانت صلاته سكناً لهم لأنّ روحه صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قوية مشرقة صافية ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ثارت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت سرائرهم ، وانقلبوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية .

قال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان عرف بابن النقيب في كتابه التحرير والتحبير : كلام الرازي كلام فلسفي يشير فيه إلى أنَّ قوى الأنفس مؤثرة فعالة ، وذلك غير جائز على طريقة أهل التفسير انتهى .

وقال الحسن وقتادة : في هؤلاء المعترفين المأخوذ منهم الصدقة هم سوى الثلاثة الذين خُلفوا .

وقرأ الأخوان وحفص : إن صلاتك هنا ، وفي هود صلاتك بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع .

والله سميع باعترافهم ، عليم بندامتهم وتوبتهم .