الأولى - قوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة " اختلف في هذه الصدقة المأمور بها ؛ فقيل : هي صدقة الفرض ، قاله جويبر عن ابن عباس ، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري . وقيل : هو مخصوص بمن نزلت فيه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم ، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء ؛ ولهذا قال مالك : إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث ، متمسكا بحديث أبي لبابة . وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه ، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته . وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه{[8249]} وقالوا : إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره . ونظم في ذلك شاعرهم فقال :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا*** فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر
وإن الذي سألوكم فمنعتم*** لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقية*** كرامٌ على الضَّراء في العسر واليسر
وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة ، وفي حقهم قال أبو بكر :( والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ) . ابن العربي : أما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين ، فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه ، فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة{[8250]} " [ المائدة : 6 ] وقوله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام{[8251]} " [ البقرة : 183 ] ونحوه . ومنها خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى كقوله : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك{[8252]} " [ الإسراء : 79 ] وقوله : " خالصة لك " [ الأحزاب : 50 ] . ومنها خطاب خص به لفظا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا ؛ كقوله " أقم الصلاة لدلوك الشمس{[8253]} " [ الإسراء : 78 ] الآية . وقوله : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله{[8254]} " [ النحل : 98 ] وقوله : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة{[8255]} " [ النساء : 102 ] فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة . وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة . وكذلك كل{[8256]} من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة . ومن هذا القبيل قوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " . وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى : " يا أيها النبي اتق الله{[8257]} " [ الأحزاب : 1 ] و " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء{[8258]} " [ الطلاق : 1 ] .
الثانية - قوله تعالى : " من أموالهم " ذهب بعض العرب وهم دوس : إلى أن المال الثياب والمتاع والعروض . ولا تسمي العين مالا . وقد جاء هذا المعنى في السنة من رواية مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الأموال الثياب والمتاع . الحديث . وذهب غيرهم إلى أن المال الصامت من الذهب والورق . وقيل : الإبل خاصة ، ومنه قولهم : المال الإبل . وقيل : جميع الماشية . وذكر ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى ثعلب{[8259]} النحوي قال : ما قصر عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق فليس بمال ؛ وأنشد :
والله ما بلغت لي قط ماشية*** حد الزكاة ولا إبل ولا مال
قال أبو عمر : والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك هو مال ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلي أو تصدق فأمضي ) . وقال أبو قتادة : فأعطاني الدرع فابتعت به مخرفا{[8260]} في بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته{[8261]} في الإسلام . فمن حلف بصدقة ماله كله فذلك على كل نوع من ماله ، سواء كان مما تجب فيه الزكاة أو لم يكن ، إلا أن ينوي شيئا بعينه فيكون على ما نواه . وقد قيل : إن ذلك على أموال الزكاة . والعلم محيط واللسان شاهد بأن ما تملك يسمى مالا . والله أعلم .
الثالثة - قوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة " مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه ، ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه . وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع . حسب ما نذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال . وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في المواشي والحبوب والعين ، وهذا ما لا خلاف فيه . واختلفوا فيما سوى ذلك كالخيل وسائر العروض . وسيأتي ذكر الخيل{[8262]} والعسل{[8263]} في " النحل " إن شاء الله . روى الأئمة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ) . وقد مضى الكلام في " الأنعام{[8264]} " في زكاة الحبوب وما تنبته الأرض مستوفى . وفي المعادن في " البقرة{[8265]} " وفي الحلي في هذه السورة . وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما ، فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من فضة مضروبة - وهي الخمس أواق المنصوصة في الحديث - حولا كاملا فقد وجبت عليه صدقتها ، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم . وإنما اشترط الحول لقوله عليه السلام : ( ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ) . أخرجه الترمذي . وما زاد على المائتي درهم من الورق فبحساب ذلك من كل شيء منه ربع عشره قل أو كثر ، هذا قول مالك والليث والشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيد . وروي ذلك عن علي وابن عمر . وقالت طائفة : لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما ، فإذا بلغتها كان فيها درهم وذلك ربع عشرها . هذا قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والزهري ومكحول وعمرو بن دينار وأبي حنيفة .
الرابعة - وأما زكاة الذهب فالجمهور من العلماء على أن الذهب إذا كان عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم فما زاد أن الزكاة فيها واجبة ، على حديث علي ، أخرجه الترمذي عن ضمرة والحارث عن علي . قال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق ، يحتمل أن يكون عنهما جميعا . وقال الباجي في المنتقى : وهذا الحديث ليس إسناده هناك ، غير أن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه ، والله أعلم . وروي عن الحسن والثوري ، وإليه مال بعض أصحاب داود بن علي على أن الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين دينارا . وهذا يرده حديث علي وحديث ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار ، ومن الأربعين دينارا دينارا ، على هذا جماعة أهل العلم إلا من ذكر .
الخامسة - اتفقت الأمة على أن ما كان دون خمس ذَود من الإبل فلا زكاة فيه . فإذا بلغت خمسا ففيها شاة . والشاة تقع على واحدة من الغنم ، والغنم الضأن والمعز جميعا . وهذا أيضا اتفاق من العلماء أنه ليس في خمس إلا شاة واحدة ، وهي فريضتها . وصدقة المواشي مبينة في الكتاب الذي كتبه الصديق لأنس لما وجهه إلى البحرين ، أخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجة وغيرهم ، وكله متفق عليه . والخلاف فيه في موضعين أحدهما في زكاة الإبل ، وهي إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة فقال مالك : المصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون ، وإن شاء أخذ حقتين{[8266]} . وقال ابن القاسم : وقال ابن شهاب : فيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون . قال ابن القاسم : ورأيي على قول ابن شهاب . وذكر ابن حبيب أن عبدالعزيز بن أبي سلمة وعبدالعزيز بن ابن حازم وابن دينار يقولون بقول مالك . وأما الموضع الثاني فهو في صدقة الغنم ، وهي إذا زادت على ثلاثمائة شاة وشاة ، فإن الحسن بن صالح بن حي قال : فيها أربع شياه . وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه ، وهكذا كلما زادت ، في كل مائة شاة . وروي عن إبراهيم النخعي مثله . وقال الجمهور : في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه ، ثم لا شيء فيها إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه ، ثم كلما زادت مائة ففيها شاة ، إجماعا واتفاقا . قال ابن عبدالبر : وهذه مسألة وهم فيها ابن المنذر ، وحكى فيها عن العلماء الخطأ ، وخلط وأكثر الغلط .
السادسة - لم يذكر البخاري ولا مسلم في صحيحهما تفصيل زكاة البقر . وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني ومالك في موطئه وهي مرسلة ومقطوعة وموقوفة . قال أبو عمر : وقد رواه قوم عن طاوس عن معاذ ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه . وممن أسنده بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس . وقد اختلفوا فيما ينفرد به بقية عن الثقات . ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم كما رواه بقية عن المسعودي عن الحكم ، والحسن مجتمع على ضعفه . وقد روي هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس ؛ ذكره عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة{[8267]} ، ومن أربعين مسنة ، ومن كل حالم دينارا{[8268]} أو عدله معافر{[8269]} ، ذكره الدارقطني وأبو عيسى الترمذي وصححه . قال أبو عمر : ولا خلاف بين العلماء أن الزكاة في زكاة البقر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قال معاذ بن جبل : في ثلاثين بقرة تبيع ، وفي أربعين مسنة إلا شيء روي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة ، فإنهم يوجبون في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين . فهذه جملة من تفصيل الزكاة بأصولها وفروعها في كتب الفقه . ويأتي ذكر الخلطة في سورة [ ص{[8270]} ] إن شاء الله تعالى .
السابعة - قوله تعالى : " صدقة " مأخوذ من الصدق ؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات . " تطهرهم وتزكيهم بها " حالين للمخاطب . التقدير : خذها مطهرا لهم ومزكيا لهم بها . ويجوز أن يجعلهما صفتين للصدقة ، أي صدقة مطهرة لهم مزكية ، ويكون فاعل تزكيهم المخاطب ، ويعود الضمير الذي في " بها " على الموصوف المنكر . وحكى النحاس ومكي أن " تطهرهم " من صفة الصدقة " وتزكيهم بها " حال من الضمير في " خذ " وهو النبي صلى الله عليه وسلم . ويحتمل أن تكون حالا من الصدقة ، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة . وقال الزجاج : والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها ، على القطع والاستئناف . ويجوز الجزم على جواب الأمر ، والمعنى : إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم ، ومنه قول امرئ القيس :
وقرأ الحسن تطهرهم " بسكون الطاء " وهو منقول بالهمزة من طهر وأطهرته ، مثل ظهر وأظهرته .
الثامنة - قوله تعالى : " وصل عليهم " أصلٌ في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة . روى مسلم عن عبدالله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : ( اللهم صل عليهم ) فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته فقال : ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) . ذهب قوم إلى هذا ، وذهب آخرون إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى : " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " [ التوبة : 84 ] . قالوا : فلا يجوز أن يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده خاصة ؛ لأنه خص بذلك . واستدلوا بقوله تعالى : " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا{[8271]} " [ النور : 63 ] الآية . وبأن عبدالله بن عباس كان يقول : لا يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم . والأول أصح ، فإن الخطاب ليس مقصورا عليه كما تقدم ، ويأتي في الآية بعد هذا . فيجب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتأسي به ؛ لأنه كان يمتثل قوله : " وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " أي إذا دعوت لهم حين يأتون بصدقاتهم سكن ذلك قلوبهم وفرحوا به . وقد روى جابر بن عبدالله قال : أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لامرأتي : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فقالت : يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندنا ولا نسأله شيئا ! فقالت : يا رسول الله ، صل على زوجي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلى الله عليك وعلى زوجك ) . والصلاة هنا الرحمة والترحم . قال النحاس : وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء ، ومنه الصلاة على الجنائز . وقرأ حفص وحمزة والكسائي : " إن صلاتك " بالتوحيد . وجمع الباقون . وكذلك الاختلاف في " أصلاتك تأمرك{[8272]} " [ هود : 87 ] وقرئ " سكن " بسكون الكاف . قال قتادة : معناه وقار لهم . والسكن : ما تسكن به النفوس وتطمئن به القلوب .