تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (103)

وقوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) اختلف في هذه الصدقة التي أمر الله تعالى ورسوله بأخذها من أموالهم : قال بعضهم : هي صدقة فريضة . ثم اختلف فيها : أي[ في الأصل وم : أية ] فريضة هي ؟ فقال بعضهم : فريضة زكاة الأموال ، وقال بعضهم : هي فريضة كفارة المأثم ؛ وذلك أن أولئك الذين تخلفوا عن رسول الله عن غزوة تبوك ندموا على تخلفهم ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوا بأموالهم ، فقالوا له : تصدق بأموالنا عنا فإن أموالنا هي التي خلفتنا عنك ، فأمر الله رسوله أن يأخذ منهم ذلك ، ويتصدق بها كفارة لما ارتكبوا .

ومن قال : هي فريضة زكاة المال لما رُوي عن أ بي أمامة [ الباهلي أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال «إن ثعلبة بن حاطب [ الأنصاري ][ ساقطة من الأصل وم ] أتى رسول الله ، فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، ثم جاءه ، فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، قال : ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثل رسول الله ، لو سألت الله أن يسيل الجبال علي ذهبا لسالت ، ثم أتاه ، فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني ملا ، فوالله لئن آتاني الله مالا لأوتين كل ذي حق حقه ، فدعا له ، فقال : اللهم ارزق ثعلبة ثلاث مرات » وذكر أنه اتخذ غنما ، فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت على أزقة المدينة ، فتنحى بها ، وكان يصلي الصلوات كلها مع رسول الله ، ويخرج إليها ، ثم ضاقت عليه مراعي المدينة ، فتنحى بها /221-ب/ فكان يصلي الظهر والعصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتبعها ، ثم تنحى بها ، فكان يصلي الجمعة مع رسول الله ، ثم بلغ أمره إلى أن يترك الجمعة والجماعات ، فتنحى بها يتلقى[ في الأصل وم : ويتلقى ] الركبان ، فيسألهم عن الخبر عما أنزل على رسول الله ( خذ من أموالهم صدقة ) الآية ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة رجلين ، فكتب لهما فرائض ، وأمرهما أن يسعيا في الناس ، ويأخذا صدقاتهم ، وأن يمرا بثعلبة ورجل من بني سُلَيم ، فيأخذا صدقاتهما ، فخرجا يصدقان الناس ، فمرا بالسليمي ، فأقرآه كتاب رسول الله ، فأطاع بالصدقة ، ومرا بثعلبة ، فأقرآه كتاب رسول الله ، فقال : والله ما أدري ؟ ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية . فإذا فرغتما فمرا بي ، فلا فرغا من الناس مرا به ، فقال لهما مثل مقالته الأولى ، وقال : أنطلقا ، فإني سألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله ) إلى قوله ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم )[ التوبة : 75-77 ][ ابن جرير الطبري في تفسيره : 10/189 ] إلى هذا ذهب عامة أهل التأويل : أنها نزلت في شأن ثعلبة .

ومنهم من قال ما ذكرنا أنها نزلت في شأن أهل تبوك الذين [ من م ، في الأصل : الذي ] تخلفوا عن رسول الله .

ومنهم من قال : الصدقة التي أمر الله رسوله[ من م ، في الأصل : ورسوله ] أن يأخذها من أموالهم هي صدقة تطوع وتبرع وهي ما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحث الناس على الإنفاق في غزوة تبوك ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بكذا ، [ وفلان بكذا ][ من م ، ساقطة من الأصل ] ، فأخذها منهم ، وفيهم[ في الأصل وم : وفيه ] ، فأخذها منهم ، وفيهم[ في الأصل وم : وفيه ] نزل قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات )[ التوبة : 79 ] .

ومنهم من قال : هو في كل صدقة تطوع ، قلت الصدقة ، أو كثرت ؛ أمر رسول أن يأخذ من أمواله ما رأى ، لا يأخذ الكل لأن أخذ الكل يحوجهم ، ويشغلهم عن جميع الطاعات والعبادات . ولك أمر أن يأخذ قدرا منها [ ومن ][ في الأصل وم : و ] طائفة مقدار ما يكفر ما ارتكبوا من المآثم .

وقوله تعالى : ( تطهرهم وتزكيهم بها ) إن كانت صدقة الزكاة فهي تطهر آثامهم التي لحقتهم بذلك ( وتزكيهم ) قيل وتصلحهم ، وهو ظاهر ، وإن كانت صدقة تطوع فهي مما يطهر أيضا ، ويزكيهم لما ينفي عنهم البخل ، ويؤدي إلى الجود والكرم . ألا ترى أنه مدح من أعطى ، وذم من بخل ، ومنع بقوله : ( فأما من أعطى ) الآية[ الليل : 5 ] ( وأما من بخل ) الآية ؟ [ الليل : 8 ] .

وقوله تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) قال بعضهم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى أحد بصدقة دعا له ، واستغفر . وكان لا يستغفر لأهل النفاق . وكانت قلوبهم تسكن ، وتطمئن باستغفار النبي لما علموا بذلك أنهم ليسوا من أهل النفاق . وهذا يحتمل .

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن الله أمر رسوله أن يستغفر لهم ، ويصلي عليهم . ثم لا يحتمل أن يأمره بذلك ، فلا يفعل ، أو يفعل[ في الأصل وم : فعل ] ، فلا يجيبه ، فكانت قلوبهم تسكن وتطمئن ، باستغفار النبي لهم[ في الأصل وم : إياهم ] لما قبلت توبتهم ، وكفرت سيئاتهم ، والله أعلم .

[ وقوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] : ( والله سميع عليم ) قد ذكرنا هذا غير مرة .

وفي قوله : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ) دلالة أن الصدقة إذا وقعت في يد المُتَولي والعامل عليها سقطت عن أربابها ، وإن لم تقع في أيدي الفقراء ، ولم تصل إليهم لأن النبي كان لا يُحِلُّ له[ من م ، في الأصل : لهم ] صدقة [ ثم أخبر ][ من م ، ساقطة من الأصل ] أنه إذا أخذها منهم كانت طهارة لهم وتزكية عن أربابها .

وفيه استدلال لمحمد بن الحسن في الوقف أن الواقف إذا وقف ، وأخرجه من يده ، وجعله في يدي[ في الأصل وم : أيدي ] آخر من لا حق له في ذلك كان جائزا ، وكان[ من م ، في الأصل : أو يكون ] وقفا وقفا صحيحا .

ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن للإمام أن يطالب بزكاة الأموال . وكذلك مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث المصدقين إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ صدقات الأنعام والمواشي في مواضعها . وعلى ذلك فعل الأئمة من بعده أبو بكر وعمر والإئمة ا لراشدون . وظهر العمل بذلك من بعدهم إلى هذا الوقت حتى قال أبو بكر لما امتنعت العرب من إعطائه الزكاة : والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله حاربتهم عليها . فذلك يؤيد ما ذكرنا من مطالبة أصحاب الأنعام والمواشي بزكاة أنعامهم ومواشيهم .

وقد بين الله تعالى وجوب ذلك بيانا شافيا بقوله : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) فجعل العاملين عليها حقا . فلو لم يكن على الإمام أن يطالب بصدقات[ الباء ساقطة من الأصل وم ] الأنعام في أماكنها ، وكان أداء ذلك ألى أرباب الأموال ما كان لذكر العاملين[ من م ، في الأصل العالمين ] وجه . ولم يبلغنا أن النبي بعث في مطالبة المسلمين بزكاة الورق وأموال التجارة ، ولكن الناس كانوا يعطون ذلك ، أو من حمله منهم إلى الإئمة يقبلون ما يحمل إليهم منه ، ولا يسألون أحدا عن مبلغ ملكه ، ولا يطالبونه به إلا ما كان من توجيه عمر العشار في الأطراف .

وكان ذلك منه عندنا ، والله أعلم ، للتخفيف عمن بعده عن داره ، وشق عليه ، أن يحمل صدقته إلى إمامه . فجعل في كل طرف من لأطراف عشارا بتجار أهل الحرب والذمة ، وأمر أن يأخذ[ في الأصل وم : يأخذوا ] من تجار المسلمين ما يدفعونه إليه . وكان ذلك من عمر تخفيفا على المسلمين [ ألا أن ][ في م : لأن ] على الإمام مطالبة أرباب أموال العين وأموال التجارة بأداء الزكاة سوى المواشي والأنعام فإن مطالبة ذلك إلى الأئمة إلا أن يأتي أحد منهم الإمام بشيء من ذلك فيقبله منه ، ولا يتعدى ما جرت به السنة إلى غيره ، و الله أعلم .