ولقد كان رد القدر على تبجحهم وعتوهم واستكبارهم سريعا ؛ قال - تعالى - { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } .
الرجفة : الزلزلة الشديدة . يقال : رجفت الأرض ترجف رجفا ، إذا اضطربت وزلزلت ؛ ومنه الرجفان للاضطراب الشديد .
وجاثمين : من الجثوم وهو للناس والطير بمنزلة البروك للإبل ، يقال جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم إذا وقع على صدره أو لزم مكانه فلم يبرحه .
والمعنى : فأخذت أولئك المستكبرين الرجفة ، أى : الزلزلة الشديدة فأهلكتهم ، فأصبحوا في بلادهم أو مساكنهم باركين على الركب ، ساقطين على وجوههم ، هامدين لا يتحركون . وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون .
ولا يستأني السياق في إعلان الخاتمة ، ولا يفصل كذلك :
( فأخذتهم الرجفة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين ) . .
والرجفة والجثوم ، جزاء مقابل للعتو والتبجح . فالرجفة يصاحبها الفزع ، والجثوم مشهد للعجز عن الحراك . وما أجدر العاتي أن يرتجف ، وما أجدر المعتدي أن يعجز . جزاء وفاقاً في المصير . وفي التعبير عن هذا المصير بالتصوير .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فأخذت الذين عقروا الناقة من ثمود الرجفة ، وهي الصيحة ، والرجفة : الفَعْلة ، من قول القائل : رجَف بفلان كذا يَرْجُف رَجْفا ، وذلك إذا حرّكه وزعزعه ، كما قال الأخطل :
إمّا تَرَيْنِي حنَانِي الشّيْبُ مِنْ كِبَرٍ ***كالنّسْرِ أرْجُفُ وَالإنْسانُ مَهْدُودُ
وإنما عنى بالرجفة ههنا : الصيحة التي زعزعتهم وحرّكتهم للهلاك ، لأن ثمود هلكت بالصيحة فيما ذكر أهل العلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : الرجفة ، قال : الصيحة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَأخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ وهي الصيحة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : فَأخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قال : الصيحة .
وقوله : فَأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جاثِمِينَ يقول : فأصبح الذين أهلك الله من ثمود في دارهم ، يعني في أرضهم التي هلكوا فيها وبلدتهم ولذلك وحد الدار ولم يجمعها فيقول «في دورهم » . وقد يجوز أن يكون أريد بها الدور ، ولكن وجه بالواحدة إلى الجمع ، كما قيل : وَالعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ .
وقوله : جاثِمِينَ يعني : سقوطا صرعى لا يتحرّكون لأنهم لا أرواح فيهم قد هلكوا ، والعرب تقول للبارك على الركبة : جاثم ، ومنه قول جرير :
عَرَفْتُ المُنْتَأَى وعَرَفْتُ مِنها ***مَطايا القِدْرِ كالحِدَإِ الجُثُوم
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جاثِمِينَ قال : ميتين .
و { الرجفة } ما تؤثره الصيحة أو الطامة التي يرجف بها الإنسان وهو أن يتزعزع ويتحرك ويضطرب ويرتعد . ومنه قول خديجة فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، ومنه قول الأخطل : [ البسيط ] :
أما تريني حناني الشيب من كبر*** كالنسر أرجف والإنسان ممدود
ومنه «إرجاف » النفوس لكريه الأخبار أي تحريكها ، وروي أن صيحة ثمود كان فيها من صوت كل شيء هائل الصوت ، وكانت مفرطة شقت قلوبهم فجثوا على صدورهم والجاثم اللاطىء بالأرض على صدره مع قبض ساقيه كما يرقد الأرنب والطير ، فإن جثومها على وجهها ، ومنه قول جرير : [ الوافرُ ] .
عرفت المنتأى وعرفت منها*** مطايا القدر كالحد? الجثوم
وقال بعض المفسرين معناه حمماً محترقين كالرماد الجاثم .
قال القاضي أبو محمد : وحيث وجد الرماد الجاثم في شعر فإنما هو مستعار لهيئة الرماد قبل هموده وتفرقه ، وذهب صاحب هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعق محرقة .
جملة { فأخذتهم الرجفة } معترضة بين جملة { فعقروا الناقة } وبين جملة { فتولى عنهم } [ الأعراف : 79 ] أريد باعتراضها التّعجيلُ بالخبر عن نفاذ الوعيد فيهم بعَقب عتوّهم ، فالتّعقيب عرفي ، أي لم يكن بين العقر وبين الرجفة زمن طويل ، كان بينهما ثلاثة أيّام ، كما ورد في آية سورة هود ( 65 ) : { فعقروها فقال تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب } وأصل الأخذ تناول شيءٍ باليد ، ويستعمل مجازاً في مِلك الشيء ، بعلاقة اللّزوم ، ويستعمل أيضاً في القهر كقوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } [ الأنفال : 52 ] ، { فأخذهم أخذة رابية } [ الحاقة : 10 ] وأخذ الرّجفة : إهلاكُها إياهم وإحاطتها بهم إحاطة الآخِذ . ولا شكّ أنّ الله نجّى صالحاً عليه السّلام والذين آمنوا معه ، كما في آية سورة هود . وقد روي أنّه خرج في مائة وعشرة من المؤمنين ، فقيل : نزلوا رملة فلسطين ، وقيل : تباعدوا عن ديار قومهم بحيث يرونها ، فلمّا أخذتهم الرّجفة وهلكوا عاد صالح عليه السّلام ومن آمنَ معه فسكنوا ديارهم ، وقيل : سكنوا مكّة وأنّ صالحاً عليه السّلام دفن بها ، وهذا بعيد كما قلناه في عاد ، ومن أهل الأنساب من يقول : إنّ ثقيفاً من بقايا ثمود ، أي من ذرّية مَن نجا منهم من العذاب ، ولم يذكر القرآن أنّ ثموداً انقطع دابرهم فيجوز أن تكون منهم بقية .
والرّجفة : اضطراب الأرض وارتجاجها ، فتكون من حوادث سماوية كالرّياح العاصفة والصّواعق ، وتكون من أسباب أرضيّة كالزلازل ، فالرّجفة اسم للحالة الحاصلة ، وقد سمّاها في سورة هود بالصّيْحة فعلمنا أنّ الذي أصاب ثمود هو صاعقة أو صواعق متوالية رجفت أرضَهم وأهلكتهم صَعِقين ، ويحتمل أن تقارنها زلازل أرضية .
والدّار : المكان الذي يحتلّه القوم ، وهو يفرد ويجمع باعتبارين ، فلذلك قال في آية سورة هود : { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } . { فأصبحوا } هنا بمعنى صاروا .
والجاثم : المُكِب على صدره في الأرض مع قبض ساقيه كما يجثو الأرْنب ، ولمّا كان ذلك أشدّ سكوناً وانقطاعاً عن اضطراب الأعضاء استعمل في الآية كناية عن همود الجثّة بالموت ، ويجوز أن يكون المراد تشبيه حالة وقوعهم على وجوههم حين صعِقوا بحالة الجاثم تفظيعاً لهيئة مِيتتهم ، والمعنى أنّهم أصبحوا جثثا هامدة ميّتة على أبشع منظر لِمَيِّت .