اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ} (78)

قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة يُقالُ رَجَفَتِ الأرْضُ تَرْجُفُ رَجْفاً وَرَجيفاً ورجفاناً قال تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال } [ المزمل : 14 ] .

وقال اللَّيثُ : الرَّجْفَةُ : الطَّامة التي يتزعزع لها الإنسان ويضطرب . ومنه قيل للبحر رجَّافٌ لاضطرابه .

وقيل : أصله مِنْ رَجفَ به البعيرُ إذا حركه في سيره ، كما يرجف الشجر إذا رجفه الريح .

قال ابن أبي ربيعة : [ الطويل ]

ولمَّا رَأيْتُ الحَجَّ قَدْ حَانَ وَقْتُهُ *** وَظَلَّتْ جِمَالُ الحَيِّ بالقَوْمِ تَرْجُفُ{[16458]}

والإرْجَافُ إيقاعُ الرَّجْفَةِ ، وجمعه الأرَاجِيفُ ، ومنه " الأراجِيفُ ملاقيحُ الفتنِ " .

وقوله : { تَرْجُفُ الراجفة } [ النازعات : 6 ] .

كقوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] .

ومنه [ الطويل ]

تُحْيِي العِظَامَ الرَّاجِفَاتِ مِنَ البِلَى *** فَلَيْسَ لِدَاءِ الرُّكْبَتَيْنِ طبِيبُ{[16459]}

قوله : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ يعني في بلدهم ، كما يقال : دار الحرب ، ودار البزّازين ] .

الجثوم : اللُّصوق بالأرْضِ من جثوم الطَّائر والأرْنَبِ ، فإنَّهُ يلصق بطنه بالأرْضِ ، ومنه رجل جُثَمَةٌ وجثَّامَةٌ كناية عن النَّؤوم والكَسْلان ، وجثمانُ الإنسان شَخْصُه قاعداً وقال أبو عبيد : " الجُثُوم للنَّاس والطير كالبرول للإبل " وأنشد لجرير : [ الوافر ]

عَرَفْتُ المُنْتأى وعَرَفْتُ مِنْهَا *** مَطَايَا القِدْرِ كالْحِدَأ الجُثُومِ{[16460]}

قال الكَرْمَانِيّ : حيث ذُكِرَت الرجفة وُحدت الدَّار ، وحيث ذكرت الصيحة جُمِعَت الدار ، لأنَّ الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكبر وأبلغ من الزلزلة ، فذكر كل واحد بالأليق [ به ] وقيل : في دارهم أي في بلدهم كما تقدَّم ، وقيل : المراد بها الجنس .

فصل في بيان فائدة موضع الفاء في الآية

الفاء في " فأخذتهم " للتَّعقيب ، وقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } يقتضي أنَّ الرَّجفة أخذتهم عقيب قولهم : { ائتنا بِمَا تَعِدُنَا } وليس الأمر كذلك لقوله تعالى في آية أخرى : { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ]

فالجوابُ : أنَّ أسباب الهلاك وجدت عقيب قولهم : { ائتنا بِمَا تَعِدُنَا } ، وهو أنَّهم اصفرت وجوههم في اليوم الأوَّل ، واحمرّت في اليوم الثاني : واسودَّت في اليوم الثالث ، فكان ابتداء العذاب متعقباً قولهم .

ويمكن أن تكون عاطفة على الجملة من قوله : " فَائْتِنَا " أيضاً وذلك على تَقْديرِ قرب زمان الهلاك من زمان طلبِ الإتيان . ويجوز أن يقدر ما يصحُّ العطف عليه بالفاءِ ، والتقديرُ : فوعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت فأخذتهم .

فصل في دحق شبهة للملاحدة .

لا يلتفت إلى ما ذكره بعض الملاحدةِ في قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } ، وفي موضع آخر { الصيحة } [ هود : 67 ] ، وفي موضع آخر { بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] واعتقد ما لا يجوز من وجوب التناقض إذ لا منافاة بين ذلك فإن الرجفة مترتبة على الصَّيحة ؛ لأنَّهُ لمَّا صيح بهم ؛ رجفت قلوبهم فماتوا ، فَجَازَ أن يسند الإهلاكُ إلى كل منهما .

وأمّا " بالطَّاغية " فالباء للسببية ، والطَّاغية : الطغيان مصدر كالعاقبة ، ويقال للملك الجبَّار : طاغية ، والتّاء فيه كعلاَّمةٍ ونسَّابةٍ ، ففي أهلكوا بالطاغيَة ، أي : بطغيانهم كقوله : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } [ الشمس : 11 ] .

قال أبو مسلم{[16461]} : " الطَّاغية : اسم لكلِّ ما تجاوز عن حدِّه سواء كان حيواناً أو غير حيوان : { إِنَّ الإنسان ليطغى } [ العلق : 6 ] ، وقال : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } [ الشمس : 11 ] .

وقال غير الحيوان : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء } [ الحاقة : 11 ] أي : غلب وتجاوز عن الحدِّ .

فصل في شهود الناقة

قيل إنَّ القوم قد شاهدوا خُرُوج النَّاقةِ من الصخرة ، وذلك معجزة قاهرة تلجىء المكلف ، وأيضاً شاهدوا الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين ، كان شَرباً لتلك النَّاقة الواحدة في اليَوْمِ الثَّانِي ، وذلك معجزة قَاهِرَةٌ تقرب الملك من الإلجاء .

وأيضاً إنَّ القوم لما نحروها توعدهم صالح بالعذابِ ، وشاهدوا صدقه على ما روي أنَّهم احمروا في اليوم الأوَّل ، واصفرُّوا في اليوم الثَّاني ، واسودُّوا في اليود الثالث ، مع مشاهدة تلك المعجزة{[16462]} العظيمة ، ثم شاهدوا علامات نُزول العذاب الشديد في آخر الأمر ، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مُصرّاً على كفره ؟

فالجوابُ : أن يقال : إنَّهَم قبل مشاهدتهم تلك العلامات من نزول العذاب كانُوا يكذبون ، فلما نزلت بهم أول علامات العذاب وشاهدوها خرجوا عند ذلك عن حد التكليف فلم تكن توبتهم مَقْبُولَةً .

قوله : " فَأصْبَحُوا " يجوز أن تكون النَّاقصة و " جَاثِمينَ " خبرها و " في دَارِهِم " متعلّق به ، ولا يجوز أن يكونَ الجارُّ خبراً و " جَاثِمِين " حال ، لعدم الفائدة بقولك : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِم } ، وإن جاز الوجهان في قولك : أصبح زيد في الدَّار جالساً .

ويجوز أن تكون التامة ، أي : دخلوا في الصباح ، و " جَاثِمِينَ " حال ، والأول أظهر .


[16458]:البيت ينظر: البحر المحيط 4/319، القرطبي 7/242، الدر المصون 3/296.
[16459]:البيت ينظر: اللسان (رجف)، الدر المصون 3/296.
[16460]:البيت لجرير ينظر: ديوانه 217، مجاز القرآن 1/218، الدر المصون 3/296.
[16461]:ينظر: تفسير الرازي 14/135.
[16462]:في أ: المعجزات.