السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ} (78)

{ فأخذتهم الرجفة } أي : الزلزلة الشديدة من الأرض والصيحة من السماء { فأصبحوا في دارهم جاثمين } أي : باركين على الركب ميتين .

روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً حتى أنّ الرجل كان يبني البيت المحكم فينهدم في حياته فينحتون البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام من أشرافهم غلاماً شاباً فدعاهم إلى الله تعالى حتى كبر لا يتبعه إلا قليل مستضعفون فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر عليهم التحذير والتخويف سألوه آية فقال لهم : أيّ آية تريدون ؟ فقالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم في السنة فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعناك ، قال لهم صالح : نعم ، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوهم الاستجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها : الكاثبة : أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء والمخترجة هي التي شاكلت البخت ، والجوفاء ذات الجوف ، والوبراء ذات الوبر فإن فعلت ذلك صدّقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتؤمنن ولتصدّقنّ فقالوا : نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة أي : تحرّكت للولادة تمخض النتوج بولدها فانصدعت أي : انشقت عن ناقة عشراء وهي التي مرّ عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظماً وعظماؤهم ينظرون ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندح ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدّقوه فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن أسد والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة قال لهم صالح : هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج وهو بتقديم الحاء المهملة مثل التفسح وهو أن تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدّخرون ، وكانت تصيف أي : تقيم زمن الصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه ، وتشتو أي : تقيم زمن الشتاء ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره ، فشق ذلك عليهم وزين عقرها لهم امرأتان عنيزة بنت غنم وصدقة بنت المختار لما أضرّت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها فرقي سقبها وهو بفتح السين والقاف ولدها الذكر جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه ، وانفجت وهو بتشديد الجيم أي : انفتحت الصخرة بعد رغائه فدخلها ، فقال لهم صالح : تصبحون غداً وجوهكم مصفرّة وبعد غد وجوهكم محمرّة واليوم الثالث وجوهكم مسودّة ، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين فلما كان اليوم الرابع واشتدّ الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالإنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا . وسيأتي لهذه القصة زيادة إن شاء الله تعالى في سورة النمل .

ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : ( لا يدخلنّ أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ) وقال صلى الله عليه وسلم لعليّ : ( أتدري من أشقى الأوّلين ) قال : الله ورسوله أعلم ، قال : ( عاقر ناقة صالح عليه السلام ، أتدري من أشقى الآخرين ) قال : الله ورسوله أعلم ، قال : ( قاتلك ) .