قوله تعالى : { وكذبوا واتبعوا أهواءهم } أي : كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قدرة الله عز وجل ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل . { وكل أمر مستقر } قال الكلبي : لكل أمر حقيقة ، ما كان منه في الدنيا فسيظهر ، وأما كان منه في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : كل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير ، والشر مستقر بأهل الشر . وقيل : كل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار . وقيل : يستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب . وقال مقاتل : لكل حديث منتهى . وقيل : كل ما قدر كائن واقع لا محالة . وقرأ أبو جعفر مستقر بجر الراء ، ولا وجه له .
وهذا من البهت ، الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل ، وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الآية وحدها ، بل كل آية تأتيهم ، فإنهم مستعدون لمقابلتها بالباطل{[924]} والرد لها ، ولهذا قال : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا } ولم يعد الضمير على انشقاق القمر فلم يقل : وإن يروها بل قال : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا } وليس قصدهم اتباع الحق والهدى ، وإنما قصدهم اتباع الهوى ، ولهذا قال : { وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } كقوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى ، لآمنوا قطعا ، واتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، لأنه أراهم الله على يديه{[925]} من البينات والبراهين والحجج القواطع ، ما دل على جميع المطالب الإلهية ، والمقاصد الشرعية ، { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } أي : إلى الآن ، لم يبلغ الأمر غايته ومنتهاه ، وسيصير الأمر إلى آخره ، فالمصدق يتقلب في جنات النعيم ، ومغفرة الله ورضوانه ، والمكذب يتقلب في سخط الله وعذابه ، خالدا مخلدا أبدا .
ثم أخبر - سبحانه - عن حالهم فى الماضى ، بعد بيان حالهم فى المستقبل ، فقال - تعالى - : { وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } .
أى : أن هؤلاء الجاحدين جمعوا كل الرذائل ، فهم إن يروا معجزة تشهد لك بالصدق - أيها الرسول الكريم - يعرضوا عنها ، ويصفوها بأنها سحر ، وهم فى ماضيهم كذبوا دعوتك ، واتبعوا أهواءهم الفاسدة ، ونفوسهم الأمارة بالسوء .
وجملة : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } معترضة ، وهى جارية مجرى المثل ، أى : وكل أمر لا بد وأن يستقر إلى غاية ، وينتهى إلى نهاية ، وكذلك أمر هؤلاء الظالمين ، سينتهى إلى الخسران ، وأمر المؤمنين سينتهى إلى الفلاح .
وفى هذا الاعتراض تسلية وتبشير للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه بحسن العاقبة ، وتيئيس وإقناط لأولئك المشركين من زوال أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - كما كانوا يتمنون ويتوهمون .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
وكذبوا بالآيات وبشهادتها . كذبوا اتباعا لأهوائهم لا استنادا إلى حجة ، ولا ارتكانا إلى دليل ، ولا تدبرا للحق الثابت المستقر في كل ما حولهم في هذا الوجود . .
( وكل أمر مستقر ) . . فكل شيء في موضعه في هذا الوجود الكبير . وكل أمر في مكانه الثابت الذي لا يتزعزع ولا يضطرب . فأمر هذا الكون يقوم على الثبات والاستقرار ، لا على الهوى المتقلب ، والمزاج المتغير ؛ أو المصادفة العابرة والارتجال العارض . . كل شيء في موضعه وفي زمانه ، وكل أمر في مكانه وفي إبانه . والاستقرار يحكم كل شيء من حولهم ، ويتجلى في كل شيء : في دورة الأفلاك ، وفي سنن الحياة . وفي أطوار النبات والحيوان . وفي الظواهر الثابتة للأشياء والمواد . لا بل في انتظام وظائف أجسامهم وأعضائهم التي لا سلطان لهم عليها . والتي لا تخضع للأهواء ! وبينما هذا الاستقرار يحيط بهم ويسيطر على كل شيء من حولهم ، ويتجلى في كل أمر من بين أيديهم ومن خلفهم . . إذ هم وحدهم مضطربون تتجاذبهم الأهواء !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذّبُواْ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلّ أَمْرٍ مّسْتَقِرّ * وَلَقَدْ جَآءَهُم مّنَ الأنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النّذُرُ } .
يقول تعالى ذكره : وكذّب هؤلاء المشركون من قريش بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها ، وعاينوا الدلالة على صحتها برؤيتهم القمر منفلقا فلقتين وَاتّبَعُوا أهْوَاءَهُم يقول : وآثروا اتباع ما دعتهم إليه أهواء أنفسهم من تكذيب ذلك على التصديق بما قد أيقنوا صحته من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحقيقة ما جاءهم به من ربهم .
وقوله : وكُلّ أمْرٍ مُسْتَقِرّ يقول تعالى ذكره : وكلّ أمر من خير أو شرّ مستقرّ قراره ، ومتناه نهايته ، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة ، والشرّ مستقرّ بأهله في النار . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكُلّ أمْرٍ مُسْتَقِرّ : أي بأهل الخير الخير ، وبأهل الشرّ الشرّ .
ثم أخبر تعالى بأنهم كذبوا واتبعوا شهواتهم وما يهوون من الأمور لا بدليل ولا بتثبت ، ثم قال على جهة الخبر الجزم ، { وكل أمر مستقر } يقول : وكل شيء إلى غاية فالحق يستقر ظاهراً ثابتاً ، والباطل يستقر زاهقاً ذاهباً .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «وكل مستقرٍ » بجر «مستقر » ، يعني بذلك أشراطها .
والجمهور على كسر القاف من «مستقِر » وقرأ نافع وابن نصاح بفتحها ، قال أبو حاتم : لا وجه لفتحها{[10756]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.