اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهۡوَآءَهُمۡۚ وَكُلُّ أَمۡرٖ مُّسۡتَقِرّٞ} (3)

قوله : { وَكَذَّبُواْ واتّبعوا أَهْوَاءَهُمْ } أي كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عاينوه من قدرة الله عزّ وجلّ ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل وكذبوا بالآية وهي انشقاق القمر ، «وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ » في أنه سحر القمر ، وأنه خسوف في القمر ، وظهور شيء في جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر ، وأنه سحر أعيننا والقمر لم يصبه شيء ، فهذه أهواؤهم .

قوله : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } العامة على كسر القاف ، ورفع الراء اسم فاعل ، ورفعه خبراً «لكل » الواقع مبتدأ . وقرأ شيبة بفتح القاف وتروى عن نافع{[53850]} .

قال أبو حاتم : لا وجه لها ، وقد وجهها غيره على حذف مضاف أي وكل أمر ذو استقرار ، وزمان استقرار ، أو مكان استقرار{[53851]} ، فجاز أن يكون مصدراً{[53852]} ، وأن يكون ظرفاً زمانياً أو مكانياً{[53853]} قال معناه الزمخشري{[53854]} . وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر{[53855]} القاف وجر الراء . وفيها أوجه :

أحدها - ولم يذكر الزمخشري غيره - : أن تكون صفة لأَمْر ، ويرتفع «كُلّ » حينئذ بالعطف على «الساعة » فيكون فاعلاً أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر .

قال أبو حيان : وهذا بعيد لوجود الفصل بجمل ثلاث ، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب ، نحو : «أَكَلْتُ خُبْزاً ، وضَرَبْتُ خَالِداً »{[53856]} وأن يجيء : زيداً أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً فيكون «ولحماً » معطوفاً على «خبزاً » بل لا يوجد مثله في كلام العرب . انتهى{[53857]} .

قال شهاب الدين{[53858]} : وإذا دل دليل على المعنى فلا يبالى بالفواصل ، وأين فصاحة القرآن من هذا التركيب الذي ركبه هو حتى يقيسه عليه في المنع ؟

الثاني : أن تكون «مستقراً » خبراً «لِكُلّ أَمْر » . وهو مرفوع ، إلا أنه خُفِضَ على الجِوَارِ . قاله أبو الفضل الرازي{[53859]} .

وهذا لا يجوز ، لأن الجِوَارَ إنما جاء في النعت أو العطف على خلاف في إتيانه كما تقدم في سورة المائدة فكيف يقال به في خبر المبتدأ ؟ هذا ما لا يجوز{[53860]} .

الثالث : أن خبر المبتدأ قوله : «حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ » أخبر عن { كُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } بأنه حكمة بالغة ويكون قوله : { وَلَقَدْ جَاءَهُم مِنَ الأنباء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } جملة اعتراض بين المبتدأ أو خبره{[53861]} .

الرابع : أن الخبر مقدر{[53862]} ؛ فقدره أبو البقاء : معمول به أو أتى{[53863]} وقدره غيره : بالغوه{[53864]} ؛ لأن قبله { وكذبوا واتبعوا أهواءهم } أي وكل أمر مستقر ، أي لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا{[53865]} فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : وكل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير ، والشر بأهل الشر . وقيل : كل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، فالخير مستقر بأهله في الجنة والشر مستقر بأهله في النار . وقيل : مستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعْرفوا حقيقته بالثواب والعذاب ، وقال مقاتل : لكل حديث منتهى . وقيل : ما قدر كائن لا محالة{[53866]} وقيل كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت ، والباطل يَزْهَقُ فيكون ذلك تهديداً لهم وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كقوله تعالى : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزمر : 7 ] .

وقيل : كل أمر مستقر في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء ، فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم ، والأنبياء صدقوا وبلغوا ، كقوله تعالى : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ] وكقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرُ } [ القمر : 52 - 53 ] .

وقيل : هو جواب لقوله : «سِحْرٌ مُسْتَمِرّ » أي بل كل أمره مستقر{[53867]} .


[53850]:المرجع السابق وهي شاذة ولم ترو عن نافع في المتواتر.
[53851]:البحر المحيط المرجع السابق والكشاف 4/36.
[53852]:أي ميميًّا من غير الثلاثي.
[53853]:أو اسم مكان أو زمان ويكونان من غير الثلاثي أيضا.
[53854]:الكشاف 4/36.
[53855]:وقد نقلها صاحب الإتحاف 404 والبحر والكشاف المرجعان السابقان كما نقلها صاحب المحتسب 2/297.
[53856]:في البحر: وضربت زيدا.
[53857]:وانظر البحر 8/174 وقد وافق الزمخشري ابن جني في المحتسب فقال: "رفعه عندي عطف على الساعة أي اقتربت الساعة وكل أمر أي اقترب استقرار الأمور في يوم القيامة..." ثم قال "هذا وجه رفعه والله أعلم" المحتسب 2/297.
[53858]:الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم 120.
[53859]:البحر المرجع السابق.
[53860]:السابق أيضا.
[53861]:نقله أبو حيان في البحر المحيط 8/174.
[53862]:وهو اختيار أبي حيان السابق والقرطبي في الجامع 17/128، وأول وجهي أبي البقاء في التبيان.
[53863]:التبيان 1192.
[53864]:وهو تقدير أبي حيان السابق.
[53865]:وهذا رأي الكلبي.
[53866]:وانظر هذه الأقوال في القرطبي 17/128، والبغوي والخازن 6/273، و274.
[53867]:وانظر الرازي 15/32.