قوله تعالى : { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } . الآية ، قال الكلبي : نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن اخطب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد تزعم أن الله تعالى بعثك إلينا رسولاً وأنزل عليك الكتاب ، وأن الله تعالى قد عهد إلينا في التوراة .
قوله تعالى : { أن لا نؤمن لرسول } . يزعم أنه من عند الله .
قوله تعالى : { حتى يأتينا بقربان تأكله النار } . فإن جئتنا به صدقناك ، فأنزل الله تعالى ( الذين قالوا ) أي سمع الله قول الذين قالوا ومحل " الذين " خفض ردا على الذين الأول ( إن الله عهد إلينا ) أي أمرنا وأوصانا في كتبه . ( أن لا نؤمن برسول ) أي لا نصدق رسولاً يزعم أنه جاء من عند الله ( حتى يأتينا بقربان تأكله النار ) . فيكون دليلاً على صدقه ، والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من نسيكة وصدقة وعمل صالح ، وهو فعلان من القربة ، وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل ، وكانوا إذا قربوا قرباناً أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ، ولها دوي وحفيف ، فتأكله وتحرق ذلك القربان وتلك الغنيمة فيكون ذلك علامة القبول ، وإذا لم يقبل بقيت على حالها . وقال السدي : إن الله تعالى أمر بني إسرائيل ، من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما ، فإنهما يأتيان بغير قربان ، قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم .
قوله تعالى : { قل } . يا محمد .
قوله تعالى : { قد جاءكم } . يا معشر اليهود .
قوله تعالى : { رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم } . من القربان .
قوله تعالى : { فلم قتلتموهم } . يعني زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء ، وأراد بذلك زبور أسلافهم فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم .
قوله تعالى : { إن كنتم صادقين } . معناه تكذيبهم إياك مع علمهم بصدقك ، كقتل آبائهم الأنبياء ، مع الإتيان بالقربان والمعجزات ، ثم قال معزياً لنبيه صلى الله عليه وسلم .
{ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }
يخبر تعالى عن حال هؤلاء المفترين القائلين : { إن الله عهد إلينا } أي : تقدم إلينا وأوصى ، { ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } فجمعوا بين الكذب على الله ، وحصر آية الرسل بما قالوه ، من هذا الإفك المبين ، وأنهم إن لم يؤمنوا برسول لم يأتهم بقربان تأكله النار ، فهم -في ذلك- مطيعون لربهم ، ملتزمون عهده ، وقد علم أن كل رسول يرسله الله ، يؤيده من الآيات والبراهين ، ما على مثله آمن البشر ، ولم يقصرها على ما قالوه ، ومع هذا فقد قالوا إفكا لم يلتزموه ، وباطلا لم يعملوا به ، ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لهم : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } الدالات على صدقهم { وبالذي قلتم } بأن أتاكم بقربان تأكله النار { فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } أي : في دعواهم{[178]} الإيمان برسول يأتي{[179]} بقربان تأكله النار ، فقد تبين بهذا كذبهم ، وعنادهم وتناقضهم .
ثم ذكر - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل اليهود فقال : { الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } .
وقوله { الذين قالوا إنَّ } . . إلخ . فى محل نصب بتقدير : أعنى . أو فى محل رفع بتقدير : هم الذين قالوا . ويجوز أن يكون فى محل جر على البدلية من قوله { الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ } .
والمراد بالموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيى بن أخطب . . وغيرهم ، فقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم أتوا النبى صلى الله عليه وسلم وقالوا له هذا القول وهو : { إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } . . . إلخ .
و ( القربان ) هو ما يتقرب به إلى الله من نعم أو غير ذلك من القربات .
والمعنى : أن عذابنا الأليم سيصيب أولئك اليهود الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ، والذين قالوا إن الله امرنا فى التوراة وأوصانا بأن لا نصدق ونعترف لرسول يدعى الرسالة غلينا من قبل الله - تعالى - حتى ياتينا بقربان يتقرب به إلى الله ، فتنزل نار من السماء فتأكل هذا القربان ، فإذا فعل ذلك كان صادقا فى رسالته .
ومقصدهم من وراء هذا القول الذى حكاه القرآن عنهم ، أن يظهروا أمام الناس بمظهر المحافظين على عهود الله . وأنهم ما تركوا الإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم حسدا له ، وإنما تركوا الإيمان به ، لأنه لم يأتب بالمعجزات التى أتى بها الأنبياء السابقون ، فهم معذورون إذا لم يؤمنوا به لأنه ليس نبيا صادقا - فى زعمهم - .
ولا شك أن قولهم هذا ظاهر البطلان ، لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول ، إذ أن آيات الله فى إثبات رسالات رسله متعددة النواحى ، مختلفة المناهج ، وكون هذا الإتيان بالقربان الذى تأكله النار معجزة لبعض الرسل لا يستدعى أن يكون معجزة لجميعهم ولذا فقد أمر الله - تعالى - رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يبطل قولهم فقال : { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
أى : قل لهم يا محمد { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي } كثير عددهم " بالبينات " أى بالحجج الواضحة ، وبالمعجزات الساطعة الدالة على صدقهم { وبالذي قُلْتُمْ } أى وجاءكم هؤلاء الرسل بالقربان الذى تأكله النار { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } بعد أن جاءوكم بتلك المعجزات الباهرة { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فى دعواكم أنكم تتبعون الحق ، وتطيعون الرسل متى أتوكم بما يهد بصدقهم ؟
فالجملة الكريمة ترد على هؤلاء اليهود بأبلغ الوجوه التى تثبت كذبهم فيما يدعون ، لأن قتلهم للأنبياء بعد أن جاءوهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صدقهم ، دليل على أن هؤلاء اليهود قد بلغوا منتهى الجحود والظلم والعدوان ، وأن دعواهم أن إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم متوقف على مجيئه بالقربان الذى تأكله النار دعوة كاذبة ، لأن من جاءهم بالقربان كان جزاؤه القتل منهم .
قال الفخر الرازى : وقد بني الله بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد وإنما على سبيل التعنت . وذلك لأن أسلافهم طلبوا هذه المعجزة من الأنبياء المتقدمين مثل : زكريا ويحيى وعيسى ، فلما أظهروا لهم هذا المعجزة سعوا فى قتلهم بعد أن قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة . وذلك يدل على أن مطالبهم كانت على سبيل التعنت ؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما سعوا فى قتلهم ، ومتأخروا اليهود راضون بفعل متقدميهم . وهذا يقتضى كونهم متعنتين - أيضا - فى مطالبهم . ولهذا لم يجبهم الله فيها " .
هنا يجبههم القرآن بواقعهم التاريخي . . لقد قتلوا هؤلاء الأنبياء الذين جاءوهم بالخوارق التي طلبوها وجاءوهم بآيات الله بينات :
( الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول ، حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ، فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ؟ ) .
وهي مجابهة قوية ، تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر ، وتبجحهم بعد ذلك وافترائهم على الله !
{ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مّن قَبْلِي بِالْبَيّنَاتِ وَبِالّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ عَهِدَ إلَيْنا أنْ لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ . وقوله : { الّذِينَ قالوا إنّ اللّهَ } في موضع خفص ردّا على قوله : { الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ } ويعني بقوله : { قالُوا إنّ الله عَهِدَ إلَيْنَا أن لا نُؤْمِنَ لرَسُولٍ } أوصانا وتقدّم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه ، أن لا نؤمن لرسول . يقول : أن لا نصدّق رسولاً فيما يقول إنه جاء به من عند الله ، من أمر ونهي وغير ذلك { حَتّى يَأْتِينَا بُقْرَبانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ } يقول : حتى يجيئنا بقربان ، وهو ما تقرّب به العبد إلى ربه من صدقة ، وهو مصدر مثل العدوان والخسران من قولك : قرّبت قربانا . وإنما قال : «تأكله النار » ، لأن أكل النار ما قرّبه أحدهم لله في ذلك الزمان كان دليلاً على قبول الله منه ما قرّب له ، ودلالة على صدق المقرب فيما ادّعى أنه محقّ فيما نازع أو قال . كما :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { حتى يأتينا بقُرْبانٍ تأْكُلُهُ النّارُ } كان الرجل يتصدّق ، فإذا تقبل منه أنزلت عليه نار من السماء فأكلته .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { بُقْربَانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ } كان الرجل إذا تصدق بصدقة ، فتقبلت منه بعث الله نارا من السماء ، فنزلت على القربان فأكلته .
فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { أن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِينَا بِقُرْبانِ تَأْكُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بالبَيّنَاتِ } يعني : بالحجج الدالة على صدق نبوتهم وحقيقة قولهم¹ { وَبالّذِي قُلْتُمْ } يعني : وبالذي ادّعيتم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه ، والإقرار بنبوّته من أكل النار قربانه إذا قرّب لله دلالة على صدقه¹ { فَلمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يقول له : قل لهم : قد جاءتكم الرسل الذي كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم ، فقتلتموهم ، فلم قتلتموهم وأنتم مقرّون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم إن كنتم صادقين في أن الله عهد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقربان تأكله النار حجة له على نبوته ؟
وإنما أعلم الله عباده بهذه الاَية ، أن الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لن يفرّوا ، وأن يكونوا في كذبهم على الله ، وافترائهم على ربهم ، وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يعلمونه صادقا محقا ، وجحودهم نبوّته ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في عهد الله تعالى إليهم أنه رسوله إلى خلقه ، مفروضة طاعته إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبياء الله بعد قطع الله عذرهم بالحجج التي أيديهم الله بها ، والأدلة التي أبان صدقهم بها ، افتراءً على الله ، واستخفافا بحقوقه .
{ الذين قالوا } هم كعب بن الأشرف ومالك وحيي وفنحاص ووهب بن يهوذا . { إن الله عهد إلينا } أمرنا في التوراة وأوصانا . { أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل وهو أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله ، أي تحيله إلى طبعها بالإحراق . وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك . { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } تكذيب وإلزام بأن رسلا جاؤهم قبله كزكريا ويحيى بمعجزات أخر موجبة للتصديق وبما اقترحوه فقتلوهم ، فلو كان الموجب للتصديق هو الإتيان به وكان توقفهم وامتناعهم عن الإيمان لأجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر واجترؤا على قتله .
وقوله تعالى : { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } صفة راجعة إلى قوله : { الذين قالوا إن الله فقير } وقال الزجاج : { الذين } صفة للعبيد ، وهذ مفسد للمعنى والرصف ، وهذه المقالة قالتها أحبار يهود مدافعة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي إنك لا تأتي بنار فنحن قد عهد إلينا أن لا نؤمن لك ، و { عهد } معناه : أمر والعهد : أخص من الأمر ، وذلك أنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان ، وتعدى «آمن » في هذه الآية باللام والباء في ضمن ذلك ، «وقربان » مصدر سمي به الشيء الذي يقرب كالرهن ، وكان أمر القربان حكماً قديماً في الأنبياء ، ألا ترى أن ابني آدم قربا قرباناً ، وذلك أنهم كانوا إذا أرادوا معرفة قبول الله تعالى لصدقة إنسان أو عمله أو صدق قوله ، قرب قرباناً شاة أو بقرة ذبيحة أو بعض ذلك وجلعه في مكان للهواء وانتظر به ساعة ، فتنزل نار من السماء فتحرق ذلك الشيء ، فهذه علامة القبول ، وإذا لم تنزل النار فليس ذلك العمل بمقبول ، ثم كان هذا الحكم في أنبياء بني إسرائيل ، وكانت النار أيضاً تنزل لأموال الغنائم فتحرقها ، حتى أحلت الغنائم لمحمد صلى الله عليه وسلم حسب الحديث{[3754]} وروي عن عيسى بن عمر ، أنه كان يقرأ «بقرُبان » بضم الراء وذلك للإتباع لضمة القاف وليست بلغة ، لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين ، وقد حكى سبيويه : السلطان بضم اللام ، وقال : إن ذلك على الإتباع .
{ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قُتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاؤا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزَّبُورِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }
هذا رد عليهم في مقالتهم وتبيين لإبطالهم ، أي : { قد جاءكم رسل } بالآيات الباهرة البينة ، وفي جملتها ما قلتم من أمر القربان فلم قتلتموهم يا بني إسرائيل المعنى بل هذا منكم تعلل وتعنت ، ولو أتيتكم بالقربان لتعللتم بغير ذلك ، والاقتراح لا غاية له ، ولا يجاب كل مقترح ، ولم يجب الله مقترحاً إلا وقد أراد تعذيبه وأن لا يمهله ، كقوم صالح وغيرهم ، وكذلك قيل لمحمد في اقتراح قريش فأبى ، وقال : بل أدعوهم وأعالجهم{[3755]} .
أبدل { الذين قالوا إن الله عهد } من { الذين قالوا إن الله فقير } [ آل عمران : 181 ] لذكر قولة أخرى شنيعة منهم ، وهي كذبهم على الله في أنّه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أنّ لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان ، أي حتّى يذبح قرباناً فتأكله نار تنزل من السماء ، فتلك علامة القبول ، وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذُبح أوّل قربان على النحو الذي شَرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرّب فأحرقتْه . كما في سفر اللاويين . إلاّ أنه معجزة لا تطّرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأنّ معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمّة . وفي الحديث : « ما من الأنبياء نبيء إلاّ أوتي من الآيات ما مثله آمَن عليه البشر ، وإنّما كان الذي أوتيتُ وحْياً أوحى الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة » فقال الله تعالى لنبيّه : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم } .
وهذا الضرب من الجدل مبنيّ على التسليم ، أي إذا سلّمنا ذلك فليس امتناعكم من اتّباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنّكم قد كذّبتم الرسل الذين جاؤوكم بها وقتلتموهم ، ولا يخفي أنّ التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شكّ أنّ بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم ، مثل زكرياء ويحيى وأشعياء وأرمياء ، فالإيمان بهم أوّل الأمر يستلزم أنهم جاؤوا بالقُربان تأكله النار على قولهم ، وقتلهم آخراً يستلزم أنّ عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود وأنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم ، فلا عجب أن يأتي خلَفُهم بمثل ما أتى به سلفهم .
وقوله : { إن كنتم صادقين } ظاهر في أنّ ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب ومعاذير باطلة .
وإنّما قال : { وبالذي قلتم } عُدل إلى الموصول للاختصار وتسجيلاً عليهم في نسبة ذلك لهم ونظيره قوله تعالى : { وقال لأوتينّ مالاً وولَداً إلى قوله : ونرثه ما يقول } [ مريم : 77 ، 80 ] أي نرث ماله وولده .