اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِي بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (183)

يجوز في حل " الذِينَ " الألقاب الثلاثة ، فالجَرّ من ثلاثة أوجهٍ :

الأول : أنه صفة للفريق المخصوصين بإضافة " قَوْلَ " إليه - في قوله : { قول الذين قالوا } .

الثاني : أنه بدل منه .

الثالث : أنه صفة ل " الْعَبِيد " أي : ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ ، قاله الزَّجَّاجُ قال ابنُ عطيَّة : " وهذا مفسد{[6245]} للمعنى والوصف " .

والرفعُ على القطع - بإضمار مبتدأ - أي : هم الذين ، وكذلك النصب على القطع - أيضاً - بإضمار فعلٍ لائقٍ ، أي : أذم الذين .

قوله : " أن لا نؤمن " في " أنْ " وجهان :

أحدهما : أنها عَلَى حَذْف حرف الجرِّ ، والأصل : في أن لا نؤمنَ ، وحينئذ يجيء فيها المذهبانِ المشهورانِ أهي في محلِّ جَرٍّ ، أو نَصْبٍ .

الثاني : أنها مفعول بها ، على تَضْمين " عَهِدَ " معنى ألزم ، تقول : عهدت إليه كذا - أي : ألزمته إياه - فهي - على هذا - في محل نصب فقط .

و " أن " تُكْتَب متصلة ، ومنفصلة ، اعتباراً بالأصل ، أو بالإدغام . ونقل أبو البقاء أن منهم من يَحذفُها في الخط ، اكتفاءً بالتشديد ، وحكى مكي - عن المبرد - أنَّها إن أدُغِمَتْ بغير غنة كتبت متصلة ، إلا فمنفصلة . ونُقِل عن بعضهم أنها كانت مخففة كتبت منفصلة ، وإن كانت ناصبة كتبت متصلة .

والفرق أن المخففةَ مَعَهَا ضمير مقدر ، فكأنه فاصل بينهما ، بخلاف الناصبة ، وقول أهل الخط - في مثل هذا - : تكتب متصلة ، عبارة عن حَذْفها في الخط بالكلية ؛ اعتباراً بلفظ الإدغام ، لا أنهم يكتبون [ متصلة ]{[6246]} ، ويثبتون لها بعضَ صورتها ، فيكتبون : أنْلاَ ، والدليل على ذلك أنهم لما قالوا في " أم من " و " أم ما " ونحوه بالاتصال ، إنما يعنون به كتابة حرف واحدٍ ، فيكتبون أمَّن ، وأما ، وفَهم أبو البقاء أن الاتصالَ في ذلك عبارة عن كتابتهم لها في بعض صورتها ملتصقة ب " لا " ، والدليل على أنه فهم ذلك أنه قال : ومنهم مَنْ يحذفها في الخط ؛ اكتفاءً بالتشديد .

فجعل الحذف قسيماً للفصل والوصل ، ولا يقول أحَدٌ بهذا .

وتعدى " نؤمن " باللام ؛ لتضمُّنه معنى الاعتراف . وقد تقدم في أول " البقرة " {[6247]} .

وقرأ عيسى بن عمر " بقُرُبان " - بضمتين - .

قال القرطبيُّ : " كما قيل - في جمع ظُلْمة - ظلمات وفي حجرة - حجرات " .

قال ابن عطيةَ : إتباعاً لضمة القاف ، وليس بِلُغَةٍ ؛ لأنه ليس في الكلام فعلان - بضم الفاء والعين - .

وحكى سيبويه : السُّلُطان - بضمِّ اللامِ - وقال : إنّ ذلك على الإتباع .

قال أبو حيان : " ولم يَقل سيبويه : إن ذلك على الإتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلامِ فِعِلان ولا فِعُلان ، ولا شيئاً من هذا النحو ، ولكنه جاء فُعُلاَن - وهو قليل - قالوا : السلطان ، وهو اسم ، وقتل الشَّارحُ لكلام سيبويه : صاحبُ هذه اللغةِ لا يسكن ولا يُتبع ، وكذا ذَكَر التصريفيونَ أنه بناء مُسْتقل ، قالوا - فيما لحقه زيادتانِ بعد اللامِ ، وعلى فعلان - ولم يجيء فُعُلان إلا اسماً ، وهو قليلٌ ، نحو سُلُطان " .

قال شهاب الدِّينِ{[6248]} : " أما ابن عَطِيّةَ فمسلم أنه وَهِم في النقل عن سيبويه في " سلطان " خاصةٌ ، ولكن قوله في " قُربَانٍ " صحيح ولأن أهل التصريف لم يستثنوا إلا السُّلُطان " .

والقُرْبان - في الأصل - مصدر ، ثم سُمِّي به المفعول ، كالرَّهْن ، فإنه في الأصل مصدر ، ولا حاجة إلى حذف مضاف ، وزعم أبو البقاء أنه على حَذْف مضاف - أي : تقريب قُرْبان - قال : " أي : يُشْرَع لنا ذلك " .

وقوله : { تَأْكُلُهُ النَّارُ } صفة لِ " قُرْبَانٌ " وإسناد الأكل إليها مجاز ، عبَّرَ عَنْ إفنائها الأشياء بالأكل .

قوله : { مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ } كلاهما متعلق ب " جَاءَكُم " والباءُ تحتمل المعية والتعدية ، أي : مصاحبين للآيات .

فصل في رد شبهة الطاعنين في النبوة

هذه شبهةٌ ثانية طعن بها الكفار في نبوته صلى الله عليه وسلم وتقريرها : أنك يا محمد - لم تفعل كذلك ، فوجب ألا تكون نبياً ، قال ابن عباسٍ : نزلت هذه الآيةُ في كعب بن الأشرفِ ، ومالك بن الصَّيف وكعب بن أسدٍ ، ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت ، وفنحاص بن عازوراء ، وحُيَيّ بن أخطب ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمدُ تزعم أن اللَّهَ بعثك إلينا رسولاً ، وأنزل عليك كتاباً ، وقد عَهدَ اللَّهُ إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله ، حتى يأتِيَنَا بقُرْبان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدَّقْنَاك ، فأنزل الله هذه الآية{[6249]} .

والقُرْبان : كل ما يَتَقَرَّب به العبدُ إلى الله - تعالى - من نسيكة ، وصدقة ، وعَمَلٍ صالح .

قال الواحديُّ : وأصله المصدر من قولك : قرب قُرْبَاناً - كالكُفْران والرُّجحان والخُسْران - ثم سمي به نفس المتقرَّب به ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عُجْرة - : " يَا كَعْبُ ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، والصَّلاةُ قُرْبانٌ " {[6250]} .

قال القرطبيُّ : " وهو فُعْلان - من القربة - ويكون اسماً ، ومصدراً . فمثال الاسم : السُّلْطان والبُرْهان ومثال المصدر : العُدوان والخُسْران " .

فصل في بيان ادعاء اليهود

واختلفوا فيما ادَّعاه اليهود .

فقال السُّدَّيُّ : إن هذا الشرط جاء في التوراة ، ولكنه مع شَرْط ، وذلك أنه - تعالى - قال في التوراة : من جاءكم يزعم أنه رسول الله ، فلا تصدقوه ، حتى يأتيكم بقربانٍ تأكله النار ، إلا المسيحُ ومحمد ، فإنهما إذا أتيا فآمِنوا بهما ؛ فإنهما يأتيان بقُرْبانٍ لا تأكله النّار ، قال : وكانت هذه العادة باقية إلى مبعث المسيحِ - عليه السَّلامُ - فلما بُعِثَ المسيح ارتفعت وزالت .

وقال آخرونَ : إن ادعاء هذا الشرطِ كذب على التَّوراة ، لأن القربانَ لم يكن في معجزات موسى وعيسى - عليهما السَّلامُ - وأيضاً فإنه إذا كانت هذه معجزةً ، فلا فرقَ بينها وبين باقي المعجزاتِ ، فلم يكن لتخصيصها بالذكر فائدةٌ .

واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه الشُّبهة ، فقال : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؟ والمرادُ أسلافهم ، فبيَّن - بهذا الكلام - أنهم إنما يطلبونَ ذلك على سبيل التعنُّت ، لا على وَجْه الاسترشاد ، إذ لو لم يكن كذلك لما سَعَوْا في قَتْلهم .

فإن قيل : لم قال : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ } ولم يَقل : جاءتكم رُسل ؟

فالجوابُ : أن فعل المؤنث يُذَكَّر إذا تقدمه جمعُ تكسير .

والمراد بقوله : { وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } هو ما طلبوه منه ، وهو القُرْبان .

فإن قيل : إن القوم إنما طالبوه بالقُرْبان ، فما الحكمة في أنه أجابهم بقوله : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ } ثم أضاف إلى قوله : { وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } وهو القُرْبان ؟

فالجواب : أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لو قال لهم : إن الأنبياء المتقدمين أتوا بالقُربان لم يلزم من ذلك وجوب الاعتراف بنبوتهم ؛ لاحتمال أن الإتيان بهذا القُرْبانِ شرطٌ للنبوة ، لا موجب لها ، والشرط هو الذي يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزمُ من وجوده وجود المشروط ، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القَدْرِ لما كان الإلزام وارداً عليهم ، فلما قال : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } كان الإلزام وارداً عليهم ؛ لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتَوا بالموجب للصدق ، ولما أتَوا بالقُرْبان فقد أتوا بالشرط ، فعند الإتيانِ بهما وجب الإقرارُ بالنبوة .

قال القرطبيُّ - في معنى الآية - : " قُلْ " يا محمد " قَد جَاءَكُمْ " يا معشرَ اليهود { رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } من القُرْبان " فلم قتلتموهم " يعني زكريا ويحيى وشعيباً وسائر مَنْ قَتَلوا من الأنبياء - عليهم السلام - ولم يؤمنوا بهم .

أراد بذلك أسلافهم . وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبيُّ ، واحتج بها على الذي حَسَّن قَتلَ عثمان - رضي الله عنه - وأن اللَّهَ تعالى سمي اليهودَ - لرضاهم بفِعْل أسلافهم - وإن كان بينهم نحوٌ من سبعمائة سنةٍ .


[6245]:في ب: تفسير.
[6246]:في أ: منفصلة.
[6247]:آية: 3.
[6248]:انظر المحرر الوجيز 1/549، والبحر المحيط 3/138، والدر المصون 2/275.
[6249]:ينظر: الدر المصون 2/276.
[6250]:انظر أسباب النزول للواحدي (99) وتفسير البغوي (1/46) وغرائب النيسابوري (4/155) وتفسير الرازي (9/121) وتفسير القرطبي (4/188 ـ 189) والبحر المحيط لأبي حيان (3/137).