الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِي بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (183)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم أخبر عن اليهود حين دُعُوا إلى الإيمان، فقال تبارك وتعالى: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار}، فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل} لهم {قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات}، يعني التبيين بالآيات، {وبالذي قلتم} من أمر القربان، {فلم قتلتموهم}، فلم قتلتم أنبياء الله من قبل محمد صلى الله عليه وسلم {إن كنتم صادقين} بما تقولون.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بذلك جلّ ثناؤه:"لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ عَهِدَ إلَيْنا أن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ". وقوله: {الّذِينَ قالوا إنّ اللّهَ} في موضع خفص ردّا على قوله: {الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ} ويعني بقوله: {قالُوا إنّ الله عَهِدَ إلَيْنَا أن لا نُؤْمِنَ لرَسُولٍ} أوصانا وتقدّم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه، "أن لا نؤمن لرسول "يقول: أن لا نصدّق رسولاً فيما يقول إنه جاء به من عند الله، من أمر ونهي وغير ذلك {حَتّى يَأْتِينَا بُقْرَبانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ} يقول: حتى يجيئنا بقربان، وهو ما تقرّب به العبد إلى ربه من صدقة، وهو مصدر مثل العدوان والخسران من قولك: قرّبت قربانا. وإنما قال: «تأكله النار»، لأن أكل النار ما قرّبه أحدهم لله في ذلك الزمان كان دليلاً على قبول الله منه ما قرّب له، ودلالة على صدق المقرب فيما ادّعى أنه محقّ فيما نازع أو قال. وإنما أعلم الله عباده بهذه الآية، أن الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن يفرّوا، وأن يكونوا في كذبهم على الله، وافترائهم على ربهم، وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يعلمونه صادقا محقا، وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في عهد الله تعالى إليهم أنه رسوله إلى خلقه، مفروضة طاعته إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبياء الله بعد قطع الله عذرهم بالحجج التي أيديهم الله بها، والأدلة التي أبان صدقهم بها، افتراءً على الله، واستخفافا بحقوقه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

تقوَّلوا على الله -سبحانه- فيما تعللوا به من تَرْكِ الإيمان، فقالوا: لقد أُمِرْنَا ألا نصدِّق أحداً إلا لو أتانا بقربان يتقرب به إلى السماء، وتنزل نار من السماء، فتأخذ القربان عياناً ببصر، فقال تعالى قلْ لهم إن من تقدَّمني من الأنبياء عليهم السلام أَتَوْكم بما اقترحتم عليّ من القربان، ثم لم تؤمنوا، فلو أجبتكم إليه لن تؤمنوا بي أيضاً؛ فإن مَنْ أقصته السوابق -فلو خاطَبَتْه الشمسُ بلسان فصيح، أو سجدت له الجبالُ رآها بلحظٍ صحيح- لم يَلِج العرفان في قلبه، وما ازداد إلا شكاً على شك.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذا رد عليهم في مقالتهم وتبيين لإبطالهم، أي: {قد جاءكم رسل} بالآيات الباهرة البينة، وفي جملتها ما قلتم من أمر القربان فلم قتلتموهم يا بني إسرائيل. المعنى بل هذا منكم تعلل وتعنت، ولو أتيتكم بالقربان لتعللتم بغير ذلك، والاقتراح لا غاية له، ولا يجاب كل مقترح، ولم يجب الله مقترحاً إلا وقد أراد تعذيبه وأن لا يمهله، كقوم صالح وغيرهم، وكذلك قيل لمحمد في اقتراح قريش فأبى، وقال: بل أدعوهم وأعالجهم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال: {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد، بل على سبيل التعنت، وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام، وهم أظهروا هذا المعجز، ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى، ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضا، وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت، إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم، ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه، وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين، وإذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد، لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك، لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة.

...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

(الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار) أي أولئك هم الذين قالوا في الاعتذار عن عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم أن الله عهد إلينا في كتابه التوراة أن لا نؤمن لرسول يدعي أنه مرسل من الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار.

قال المفسرون: إنهم أرادوا شيئا كان شائعا عندهم، وهو أن يذبح القربان من النعم أو غيرها فيوضع في مكان معين فتأتي نار بيضاء من السماء لها دوي فتأخذه أو تحرقه. وروى ابن جرير عن ابن عباس أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة فإذا تقبل منه نزلت عليه نار من السماء فأكلته. أي أكلت ما تصدق به. هذا ما أورده وردوه بأن هذا القربان إنما كان يوجب الإيمان لأنه معجزة لا لذاته إذ هو كغيره من المعجزات.

أقول: إن القربان في عبادة بني إسرائيل كان على قسمين دموي وغير دموي. فالقرابين الدموية كانت تكون من الحيوانات الطاهرة كالبقر والغنم والحمام، وغير الدموية هي باكورات المواسم والخمر والزيت والدقيق. والقرابين عندهم أنواع منها المحرقات والتقدمات وذبائح السلامة وذبائح الخطيئة وذبائح الإثم. وكانوا يحرقون المحرقات بأيديهم،...

أما الأستاذ الإمام فقد ذكر ما قاله المفسرون في القربان، ثم قال: ويجوز وهو الأظهر أن يكون معنى "حتى يأتينا بقربان تأكله النار "أن يفرض علينا تقريب قربان يحرق بالنار. فقد كان من أحكام الشريعة عندهم أن يحرقوا بعض القربان وقد أمر الله تعالى نبيه أن يرد عليهم فقال: (قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) في زعمكم إنكم لا تؤمنون بي لأني لم آمر بإحراق القرابين أي إنكم لم ترضوا بعصيان أولئك الرسل فقط بل قسوتم عليهم وقتلتموهم.

قال الأستاذ الإمام: لا ريب أن هذا لم يقع منكم إلا لأنكم شعب غليظ الرقبة -بذا وصفوا في التوراة التي في أيديهم- وأنكم قساة غلف القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له. وهذا مبني على ما قلناه من اعتبار الأمة باتفاق أخلاقها وصفاتها وعادتها العامة كالشخص الواحد؛ وكان هذا المعنى معروفا عند العرب فإنهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته ويؤاخذونها به ولو بعد موته. ويدلنا هذا على أن الجنايات والجرائم مرتبطة في حكم الله تعالى بمناشئها ومنابعها فمن لم يرتكب الجريمة لأن آلاتها وأسبابها غير حاضرة لديه لا يكون بريئا من الجريمة إذا كان منشؤها والباعث عليها مستقرا في نفسه، وهذا المنشأ هو التهاون بأمر الشريعة وعدم المبالاة بأمر الحق والتحري فيه.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أبدل {الذين قالوا إن الله عهد} من {الذين قالوا إن الله فقير} [آل عمران: 181] لذكر قولة أخرى شنيعة منهم، وهي كذبهم على الله في أنّه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أنّ لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان، أي حتّى يذبح قرباناً فتأكله نار تنزل من السماء، فتلك علامة القبول، وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذُبح أوّل قربان على النحو الذي شَرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرّب فأحرقتْه. كما في سفر اللاويين. إلاّ أنه معجزة لا تطّرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأنّ معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمّة. وفي الحديث: « ما من الأنبياء نبيء إلاّ أوتي من الآيات ما مثله آمَن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيتُ وحْياً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة» فقال الله تعالى لنبيّه: {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم}.

وهذا الضرب من الجدل مبنيّ على التسليم، أي إذا سلّمنا ذلك فليس امتناعكم من اتّباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنّكم قد كذّبتم الرسل الذين جاؤوكم بها وقتلتموهم، ولا يخفي أنّ التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شكّ أنّ بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم، مثل زكرياء ويحيى وأشعياء وأرمياء، فالإيمان بهم أوّل الأمر يستلزم أنهم جاؤوا بالقُربان تأكله النار على قولهم، وقتلهم آخراً يستلزم أنّ عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود وأنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم، فلا عجب أن يأتي خلَفُهم بمثل ما أتى به سلفهم.

وقوله: {إن كنتم صادقين} ظاهر في أنّ ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب ومعاذير باطلة.

وإنّما قال: {وبالذي قلتم} عُدل إلى الموصول للاختصار وتسجيلاً عليهم في نسبة ذلك لهم ونظيره قوله تعالى: {وقال لأوتينّ مالاً وولَداً إلى قوله: ونرثه ما يقول} [مريم: 77، 80] أي نرث ماله وولده.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

مغالطات اليهود وتعللاتهم:

كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيراً بهدف التملص من الانضواء تحت راية الإِسلام.

ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول: (الذين قالوا إِنّ الله عهد إِلينا ألاّ نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النّار).

قال المفسرون: إِن اليهود كانت تزعم أنّه يجب أنْ يكون للأنبياء خصوص هذه المعجزة، وهي أن يقربوا قرباناً فتنزل النّار من السماء وتأكل قربانهم، ففي ذلك دلالة على صدق المقرب (أي صاحب القربان).

ولو أن اليهود كانوا صادقين في هذا الطلب، وكانوا يريدون حقّاً مثل هذا الأمر من باب إِظهار الإِعجاز، وليس من باب العناد واللجاجة والمغالطة لكان من الممكن إِعذارهم، ولكن تاريخهم الغابر، وكذا مواقفهم المشينة مع نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبت الحقيقة التالية، وهي أنّهم لم يكونوا أبداً طلاب حقّ وبغاة علم، بل كانوا يأتون كل يوم بمغالطة واقتراح جديد لمواجهة الجو الضاغط عليهم، وما كان يخلقه القرآن من وضع محرج لهم بفضل ما كان يقيمه من براهين ساطعة وقوية، وذلك فراراً من قبول الإِسلام، والانضواء تحت رايته، وحتى لو أنّهم حصلوا على مقترحاتهم فإِنّهم كانوا يمتنعون عن الإِيمان، بدليل أنهم كانوا قد قرأوا في كتبهم كل علائم نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنهم مع ذلك أبوا إِلاّ رفض الحقّ، وعدم الإِذعان له.

يقول القرآن في مقام الردّ عليهم: (قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إِن كنتم صادقين)؟ وفي ذلك إشارة إِلى زكريا ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني إسرائيل.