التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِي بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (183)

ثم ذكر - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل اليهود فقال : { الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } .

وقوله { الذين قالوا إنَّ } . . إلخ . فى محل نصب بتقدير : أعنى . أو فى محل رفع بتقدير : هم الذين قالوا . ويجوز أن يكون فى محل جر على البدلية من قوله { الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ } .

والمراد بالموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيى بن أخطب . . وغيرهم ، فقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم أتوا النبى صلى الله عليه وسلم وقالوا له هذا القول وهو : { إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } . . . إلخ .

و ( القربان ) هو ما يتقرب به إلى الله من نعم أو غير ذلك من القربات .

والمعنى : أن عذابنا الأليم سيصيب أولئك اليهود الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ، والذين قالوا إن الله امرنا فى التوراة وأوصانا بأن لا نصدق ونعترف لرسول يدعى الرسالة غلينا من قبل الله - تعالى - حتى ياتينا بقربان يتقرب به إلى الله ، فتنزل نار من السماء فتأكل هذا القربان ، فإذا فعل ذلك كان صادقا فى رسالته .

ومقصدهم من وراء هذا القول الذى حكاه القرآن عنهم ، أن يظهروا أمام الناس بمظهر المحافظين على عهود الله . وأنهم ما تركوا الإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم حسدا له ، وإنما تركوا الإيمان به ، لأنه لم يأتب بالمعجزات التى أتى بها الأنبياء السابقون ، فهم معذورون إذا لم يؤمنوا به لأنه ليس نبيا صادقا - فى زعمهم - .

ولا شك أن قولهم هذا ظاهر البطلان ، لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول ، إذ أن آيات الله فى إثبات رسالات رسله متعددة النواحى ، مختلفة المناهج ، وكون هذا الإتيان بالقربان الذى تأكله النار معجزة لبعض الرسل لا يستدعى أن يكون معجزة لجميعهم ولذا فقد أمر الله - تعالى - رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يبطل قولهم فقال : { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .

أى : قل لهم يا محمد { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي } كثير عددهم " بالبينات " أى بالحجج الواضحة ، وبالمعجزات الساطعة الدالة على صدقهم { وبالذي قُلْتُمْ } أى وجاءكم هؤلاء الرسل بالقربان الذى تأكله النار { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } بعد أن جاءوكم بتلك المعجزات الباهرة { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فى دعواكم أنكم تتبعون الحق ، وتطيعون الرسل متى أتوكم بما يهد بصدقهم ؟

فالجملة الكريمة ترد على هؤلاء اليهود بأبلغ الوجوه التى تثبت كذبهم فيما يدعون ، لأن قتلهم للأنبياء بعد أن جاءوهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صدقهم ، دليل على أن هؤلاء اليهود قد بلغوا منتهى الجحود والظلم والعدوان ، وأن دعواهم أن إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم متوقف على مجيئه بالقربان الذى تأكله النار دعوة كاذبة ، لأن من جاءهم بالقربان كان جزاؤه القتل منهم .

قال الفخر الرازى : وقد بني الله بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد وإنما على سبيل التعنت . وذلك لأن أسلافهم طلبوا هذه المعجزة من الأنبياء المتقدمين مثل : زكريا ويحيى وعيسى ، فلما أظهروا لهم هذا المعجزة سعوا فى قتلهم بعد أن قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة . وذلك يدل على أن مطالبهم كانت على سبيل التعنت ؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما سعوا فى قتلهم ، ومتأخروا اليهود راضون بفعل متقدميهم . وهذا يقتضى كونهم متعنتين - أيضا - فى مطالبهم . ولهذا لم يجبهم الله فيها " .