قوله تعالى : { مستكبرين به } اختلفوا في هذه الكناية ، فأظهر الأقاويل أنها تعود إلى البيت الحرام كناية عن غير مذكور ، أي : مستكبرين متعظمين بالبيت الحرام ، وتعظمهم به أنهم كانوا يقولون نحن أهل حرم الله وجيران بيته ، فلا يظهر علينا أحد ، ولا نخاف أحداً ، فيأمنون فيه وسائر الناس في الخوف ، هذا قول ابن عباس ومجاهد ، وجماعة ، وقيل : ( ( مستكبرين به ) ) أي : بالقرآن فلم يؤمنوا به . والأول أظهر أن المراد منه الحرم { سامراً } نصب على الحال ، أي أنهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول البيت ، ووحد سامراً وهو بمعنى السمار لأنه وضع موضع الوقت ، أراد تهجرون ليلاً . وقيل : وحد سامراً ، ومعناه : الجمع ، كقوله : { ثم نخرجكم طفلاً } { تهجرون } قرأ نافع ( ( تهجرون ) ) بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش في القول : أي : تفحشون وتقولون الخنا ، وذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقرأ الآخرون : ( ( تهجرون ) ) بفتح التاء وضم الجيم ، أي : تعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان والقرآن ، وترفضونها . وقيل : هو من الهجر وهو القول القبيح ، يقال هجر يهجر هجراً إذا قال غير الحق . وقيل : تهزؤون وتقولون ما لا تعلمون ، من قولهم : هجر الرجل في منامه ، إذا هذى .
{ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } قال المفسرون معناه : مستكبرين به ، الضمير يعود إلى البيت ، المعهود عند المخاطبين ، أو الحرم ، أي : متكبرين على الناس بسببه ، تقولون : نحن أهل الحرم ، فنحن أفضل من غيرنا وأعلى ، { سَامِرًا } أي : جماعة يتحدثون بالليل حول البيت { تَهْجُرُونَ } [ أي : تقولون الكلام الهجر الذي هو القبيح في ] هذا القرآن .
فالمكذبون كانت طريقتهم في القرآن ، الإعراض عنه ، ويوصي بعضهم بعضا بذلك { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وقال الله عنهم : { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ* وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ* وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ }
وقوله - تعالى - { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } مقرر لمضمون ما قبله ، من إعراضهم عن آيات الله . ونكوصهم على أعقابهم عند سماعها .
والضمير فى { بِهِ } يرى جمهور المفسرين أنه يعود إلى البيت الحرام ، والباء للسببية .
وقوله : " سامرا " اسم جمع كحاج وحاضر وراكب ، مأخوذ من السمر وأصله ظل القمر وسمى بذلك لسمرته ، ثم أطلق على الحديث بالليل . يقال : سمر فلان يسمر - ككرم يكرم - إذا تحدث ليلاً مع غيره بقصد المسامرة والتسلية .
وقوله : { تَهْجُرُونَ } قرأه الجمهور - بفتح التاء وضم الجيم - مأخوذ من الهجر - بإسكان الجيم - بمعنى الصد والقطيعة ، أو من الهجر - بفتح الجيم - بمعنى الهذيان والنطق بالكلام الساقط ، بسبب المرض أو الجنون .
وقرأ نافع { تُهْجِرُونَ } بضم التاء وكسر الجيم - مأخوذ من هجر هجاراً إذا نطق بالكلام القبيح .
والمعنى : قد كانت آياتى تتلى عليكم - أيها المستغيثون من العذاب - فكنتم تعرضون عنها ، ولم تكتفوا بهذا الإعراض ، بل كنتم متكبرين على المسلمين بالبيت الحرام ، وكنتم تتسامرون بالليل حوله ، فتستهزئون بالقرآن ، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبتعاليم الإسلام وتنطقون خلال سمركم بالقول الباطل ، الذى يدل على مرض قلوبكم ، وفساد عقولكم ، وسوء أدبكم .
وقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ } و { سَامِراً } و { تَهْجُرُونَ } أحوال ثلاثة مترادفة على واو الفاعل فى { تَنكِصُونَ } أو متداخلة ، بمعنى أن كل كلمة منها حال مما قبلها .
قال القرطبى : { مُسْتَكْبِرِينَ } حال ، والضمير فى { بِهِ } قال الجمهور : هو عائد على الحرم ، أو المسجد ، أو البلد الذى هو مكة . وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته فى الأمر .
أى : يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف . وقيل : المعنى أنهم يعتقدون فى نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل فيستكبرون لذلك .
وقالت فرقة : الضمير عائد على القرآن ، من حيث ذكرت الآيات .
والمعنى : يحدث لكم سماع آياتى كبرا وطغياناً فلا تؤمنوا بى . . . " .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يراها تصور حسرة المشركين وجؤارهم يوم ينزل بهم العذاب تصويراً بديعاً ، كما تين ما كانوا عليه من غرور وسوء أدب ، مما جعلهم أهلاً لهذا المصير الأليم .
ولقد كانوا يطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في مجالسهم ؛ وهم يتحلقون حول الأصنام في سامرهم بالكعبة . فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهد حسابهم على ما هم فيه ؛ وهم يجأرون طالبين الغوث ، فيذكرهم بسمرهم الفاحش ، وهجرهم القبيح . وكأنما هو واقع اللحظة ، وهم يشهدونه ويعيشون فيه ! وذلك على طريقة القرآن الكريم في رسم مشاهد القيامة كانها واقع مشهود .
والمشركون في تهجمهم على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وعلى القرآن في نواديهم وفي سمرهم يمثلون الكبرياء الجاهلة ، التي لا تدرك قيمة الحق لأنها مطموسة البصيرة عمياء ، فتتخذ منه مادة للسخرية والهزء والاتهام . ومثل هؤلاء في كل زمان . وليست جاهلية العرب إلا نموذجا لجاهليات كثيرة خلت في الزمان ؛ وما تزال تظهر الآن بعد الآن !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.