قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } واضحات { قال الذين كفروا } يعني : النضر بن الحارث وذويه من قريش ، { للذين آمنوا } ، يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت فيهم قشافة ، وفي عيشهم خشونة ، وفي ثيابهم رثاثة ، وكان المشركون يرجلون شعورهم ، ويدهنون رؤوسهم ويلبسون حرير ثيابهم ، فقالوا للمؤمنين : { أي الفريقين خير مقاماً } منزلاً ومسكناً ، وهو موضع الإقامة . وقرأ ابن كثير : ( مقاماً ) بضم الميم أي إقامة . { وأحسن ندياً } ، أي مجلساً ، ومثله النادي .
{ 73 - 74 } { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا }
أي : وإذا تتلى على هؤلاء الكفار آياتنا بينات ، أي : واضحات الدلالة على وحدانية الله وصدق رسله ، توجب لمن سمعها صدق الإيمان وشدة الإيقان ، قابلوها بضد ما يجب لها ، واستهزءوا بها وبمن آمن بها ، واستدلوا بحسن حالهم في الدنيا ، على أنهم خير من المؤمنين ، فقالوا معارضين للحق : { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ } أي : نحن والمؤمنون { خَيْرٌ مَقَامًا } أي : في الدنيا ، من كثرة الأموال والأولاد ، وتوفر الشهوات { وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } أي مجلسا . أي : فاستنتجوا من هذه المقدمة الفاسدة ، أنهم أكثر مالا وأولادا ، وقد حصلت لهم أكثر مطالبهم من الدنيا ، ومجالسهم وأنديتهم مزخرفة مزوقة .
والمؤمنون بخلاف هذه الحال ، فهم خير من المؤمنين ، وهذا دليل في غاية الفساد ، وهو من باب قلب الحقائق ، وإلا فكثرة الأموال والأولاد ، وحسن المنظر ، كثيرا ما يكون سببا لهلاك صاحبه ، وشقائه ، وشره ، ولهذا قال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا }
ثم تسوق السورة بعد ذلك موقف الكافرين عند سماعهم لآيات الله - تعالى - كما تسوق ما قالوه للمؤمنين على سبيل التفاخر عليهم ، وما رد به القرآن على هؤلاء المترفين المتعالين ، قال - تعالى - : { وَإِذَا تتلى . . . } .
قوله - سبحانه - : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات . . } حكاية لما قاله الكافرون للمؤمنين على سبيل التباهى والتفاخر .
أى : وإذا تتلى على هؤلاء المشركين المنكرين للبعث آياتنا البينات الواضحات ، الدالة على صحة وقوع البعث والحساب يوم القيامة { قَالَ الذين كَفَرُواْ } على سبيل العناد والتعالى { لِلَّذِينَ آمنوا } بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، قالوا لهم انظروا { أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } .
والمقام - بفتح الميم - : مكان القيام والمراد به مساكنهم ومنازلهم التى يسكنونها وينزلون بها .
والندى والنادى والمنتدى : مجلس القوم ومكان تجمعهم .
يقال : ندوت القوم أندوهم ندوا ، إذا جمعتهم فى مجلس للانتداء . ومنه : دار الندوة للمكان الذى كانت تجتع فيه قريش للتشاور فى أمورها .
أى : وإذا تتلى على هؤلاء الكافرين آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وعلى أن البعث حق . قالوا للمؤمنين على سبيل الاحتقار لهم : نحن وأنتم أينا خير من الآخر مكانا ، وأحسن مجلسا ومجتمعا فهم يتفاخرون على المؤمنين بمساكنهم الفارهة ، ومجالسهم التى يجتمع فيها أغنياؤهم ووجهاؤهم .
قال الجمل فى حاشيته : " أى قالوا للمؤمنين : انظروا إلى منازلنا فتروها أحسن من منازلكم وانظروا إلى مجلسنا عند التحدث ومجلسكم ، فترونا نجلس فى صدر المجلس ، وأنتم جالسون فى طرفه الحقير . فإذا كنا بهذه المثابة وأنتم بتلك فنحن عند الله خير منكم ، ولو كنتم على حق لأكرمكم الله بهذه الأمور كما أكرمنا بها " .
وما حكاه الله - تعالى - عن هؤلاء الكافرين فى هذه الآية ، قد جاء ما يشبهه فى آيات أخرى ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى { وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : وإذا تتلى على الناس آياتنا التي أنزلناها على رسولنا محمد بينات ، يعني واضحات لمن تأمّلها وفكّر فيها أنها أدلة على ما جعلها الله أدلة عليه لعباده ، قال الذين كفروا بالله وبكتابه وآياته ، وهم قريش ، للذين آمنوا فصدّقوا به ، وهم أصحاب محمد أيّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاما يَعْني بالمَقام : موضع إقامتهم ، وهي مساكنهم ومنازلهم وأحْسَنُ نَدِيّا وهو المجلس ، يقال منه : ندوت القوم أندوهم نَدْوا : إذا جمعتهم في مجلس ، ويقال : هو في نديّ قومه وفي ناديهم : بمعنى واحد . ومن النديّ قول حاتم :
ودُعِيتُ فِي أُولى النّدِيّ ولَمْ *** يُنْظَرْ إليّ بأعْيُنٍ خُزْرِ
وتأويل الكلام : وإذا تُتلى عليهم آياتنا بيّنات ، قال الذين كفروا للذين آمنوا : أيّ الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا ، وأنعم بالاً ، وأفضل مسكنا ، وأحسن مجلسا ، وأجمع عددا وغاشية في المجلس ، نحن أم أنتم ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قوله : خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا قال : المقام : المنزل ، والنديّ : المجلس .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس بمثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيّناتٍ قالَ الّذِينَ كَفَرُوا للّذِينَ آمَنُوا أيّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاما وَأَحْسَنُ نَدِيّا ؟ قال : المقام : المسكن ، والنديّ : المجلس والنّعمة والبهجة التي كانوا فيها ، وهو كما قال الله لقوم فرعون ، حين أهلكهم وقصّ شأنهم في القرآن فقال : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتِ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ فالمقام : المسكن والنعيم ، والنديّ : المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه ، وقال الله فيما قصّ على رسوله في أمر لوط إذ قال وَتأتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكُرَ ، والعرب تسمي المجلس : النادي .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وأحْسَن نَدِيّا يقول : مجلسا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : أيّ الفَرِيقَيْنِ قال : قريش تقولها لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأحْسَنُ نَدِيّا قال : مجالسهم ، يقولونه أيضا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهمْ آياتُنا بَيّناتٍ قالَ الّذِينَ كَفَرُوا للّذِينَ آمَنُوا أيّ الفَرِيقَينِ خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة ، وفيهم قَشافة ، فَعَرّض أهل الشرك بما تسمعون قوله وأحْسَنُ نَدِيّا يقول : مجلسا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : أيّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا قال : النديّ : المجلس ، وقرأ قول الله تعالى : فَلْيَدْعُ نادِيَهْ قال : مجلسه .