قوله تعالى : { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً } ، من متاع الدنيا ، { وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك } ، اختلفوا في هذه اللام ، قيل : هي لام كي ، معناه : آتيتهم كي تفتنهم فيضلوا ويضلوا ، كقوله : { لأسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه } [ الجن-16 ] . وقيل : هي لام العاقبة يعني : فيضلوا وتكون عاقبة أمرهم الضلال ، كقوله : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص-8 ] . قوله : { ربنا اطمس على أموالهم } ، قال مجاهد : أهلكها ، والطمس : المحق . وقال أكثر أهل التفسير : امسخها وغيرها عن هيئتها . وقال قتادة : صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة . وقال محمد بن كعب : جعل سكرهم حجارة ، وكان الرجل مع أهله في فراشه فصارا حجرين ، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجرا . قال ابن عباس رضي الله عنه : بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا . ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة والجوزة مشقوقة وإنها لحجر . قال السدي : مسخ الله أموالهم حجارة ، والنخيل والثمار والدقيق والأطعمة ، فكانت إحدى الآيات التسع . { واشدد على قلوبهم } ، أي : أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح الإيمان ، " فلا يؤمنوا " ، قيل : هو نصب بجواب الدعاء بالفاء . وقيل : هو عطف على قوله " ليضلوا " أي : ليضلوا فلا يؤمنوا . وقال الفراء : هو دعاء محله جزم ، فكأنه قال : اللهم فلا يؤمنوا ، { حتى يروا العذاب الأليم } ، وهو الغرق . قال السدي : معناه أمتهم على الكفر .
{ 88 } { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً } يتزينون بها من أنواع الحلي والثياب ، والبيوت المزخرفة ، والمراكب الفاخرة ، والخدام ، { وَأَمْوَالًا } عظيمة { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ } أي : إن أموالهم لم يستعينوا بها إلا على الإضلال في سبيلك ، فيضلون ويضلون .
{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } أي : أتلفها عليهم : إما بالهلاك ، وإما بجعلها حجارة ، غير منتفع بها .
{ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : قسها { فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ }
قال ذلك ، غضبًا عليهم ، حيث تجرؤوا على محارم الله ، وأفسدوا عباد الله ، وصدوا عن سبيله ، ولكمال معرفته بربه بأن الله سيعاقبهم على ما فعلوا ، بإغلاق باب الإيمان عليهم .
ثم حكى القرآن الكريم بعد ذلك ، ما تضرع به موسى - عليه السلام - إلى الله - تعالى - من دعوات خاشعات ، بعد أن يئس من إيمان فرعون وملئه فقال - سبحانه - :
{ وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ . . . }
الزينة : اسم لما يتزينبه الإِنسان من ألوان اللباس وأوانى الطعام والشراب ، ووسائل الركوب . . وغير ذلك مما يستعمله الإِنسان في زينته ورفاهيته .
والمال : يشمل أصناف الزينة ، ويشمل غير ذلك مما يتملكه الإِنسان .
والمعنى : وقال موسى - عليه السلام - مخاطبا ربه ، بعد أن فقد الأمل في إصلاح فرعون وملئه : يا ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وأصحاب الرياسات منهم ، الكثير من مظاهر الزينة والرفاهية والتنعم ، كما أعطيتهم الكثير من الأموال في هذه الحياة الدنيا .
وهذا العطاء الجزيل لهم : قد يضعف الإِيمان في بعض النفوس ، إما بالإِغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الناظرين إليها ، وإما بالترهيب الذي يملكه هؤلاء المنعمون ، بحيث يصيرون قادرين على إذِلال غيرهم .
واللام في قوله { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } لام العاقبة والصيرورة أى : أعطيتهم ما أعطيتهم من الزينة والمال ، ليخلصوا لك العبادة والطاعة ، وليقابلوا هذا العطاء بالشكر ، ولكنهم لم يفعلوا بل قابلوا هذه النعم بالجحود والبطر ، فكانت عاقبة أمرهم الخسران والضلال ، فأزال يا مولانا هذه النعم من بين أيديهم .
قال القرطبى : " اختلف في هذه اللام ، وأصح ما قبل فيها - وهو قول الخليل وسيبويه - أنها لام العاقبة والصيرورة ، وفى الخبر : " إن الله - تعالى - ملكا ينادى كل يوم : لدوا للموت وابنو للخراب " أى : لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال ، صار كأنه أعطاهم ليضلوا " .
وقال صاحب المنار : " قوله : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } أى : لتكون عاقبة هذا العطاء إضلال عبادك عن سبيلك الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل والعمل الصالح ، ذلك لأن الزينة سبب الكبر والخيلاء والطغيان على الناس ، وكثرة الأموال تمكنهم من ذلك وتخضع رقاب الناس لهم ، كما قال - تعالى - { إِنَّ الإنسان ليطغى . أَن رَّآهُ استغنى } فاللام في قوله { لِيُضِلُّواْ } تسمى لام العاقبة والصيرورة ، وهى الدالى على أن ما بعدها أثر وغاية فعلية لمتعلقها ، يترتب عليه بالفعل لا بالسببية ، ولا بقصد فاعل الفعل الذي تتعلق به كقوله - تعالى - { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً . . . } ومنهم من يرى أن هذه اللام للتعليل ، والفعل منصوب بها ، فيكون المعنى :
وقال موسى مخاطبا ربه : يا ربنا إنك قد أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ، وإنك يا ربنا قد أعطيتهم ذلك على سبيل الاستدراج ليزدادوا طغيانا على طغيانهم ، ثم تأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وشبيه بهذه الجملة في هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } وقد رجح هذا المعنى الإِمام ابن جرير فقال : " والصواب من القول في ذلك عندى أنها لام كى ، ومعنى الكلام : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه ، ويضلوا عن سبيلك عبادك عقوبة منك لهم ، وهذا كما قال جل ثناؤه
{ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً . لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ومنهم من يرى أن هذه اللام هي لام الدعاء ، وأنها للدعاء عليهم بالزيادة من الإِضلال والغواية فيكون المعنى :
وقال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ؛ اللهم يا ربنا زدهم ضلالا على ضلالهم .
وقد سار على هذا الرأى صاحب الكشاف . فقد قال ما ملخصه : " فإن قلت : ما معنى قوله : { لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } ؟
قلت : هو دعاء بلفظ الأمر كقوله : ربنا اطمس واشدد . وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا ، وردد عليهم النصائح والمواعظ زمانا طويلا . وحذرهم من عذاب الله ومن انتقامه ، وأنذرهم سوء عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال ، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً وعلى الإِنذار إلا استكبارا ، وعن النصيحة إلا نبوا ، ولم يبق له مطمع فيهم . وعلم بالتجربة وطول الصحبة أو بوحى من الله ، أنه لا يجئ منهم إلا الغى والضلال .
لما رأى منهم كل ذلك : اشتد غضبه عليهم ، وكره حالهم ، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره وهو ضلالهم .
فكأنه قال : " ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال . . " .
وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة ، لكل واحد منها اتجاهه في التعبير عن ضيق موسى - عليه السلام - لإِصرار فرعون وشيعته على الكفر ، ولما هم فيه من نعم لم يقابلوها بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والبطر .
وإن كان الرأى الأول هو أظهرها في الدلالة على ذلك ، وأقربها إلى سياق الآية الكريمة .
قال الشوكانى : " وقرأ الكوفيون { لِيُضِلُّواْ } بضم الياء . أى : ليوقعوا الإِضلال على غيرهم . وقرأ الباقون بالفتح أى يضلون في أنفسهم " .
وقوله : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } دعا عليهم بما يستحقونه من عقوبات بسبب إصرارهم على الكفر والضلال .
والطمس : الإِهلاك والإِتلاف ومحو أثر الشيء يقال : طمس الشيء ويطمس طموسا إذا زال بحيث لا يرى ولا يعرف لذهاب صورته .
والشد : الربط والطبع على الشئ ، بحيث لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخل فيه ما هو خارج منه .
والمعنى : وقال موسى مخاطبا ربه : يا ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ، وقد أعطيتهم ذلك ليشكروك ، ولكنهم لم يفعلوا ، بل قابلوا عطاءك بالجحود ، اللهم يا ربنا اطمس على أموالهم بأن تهلكها وتزيلها وتمحقها من بين أيديهم ، حتى ترحم عبادك المؤمنين ، من سوء استعمال الكافرين لنعمك في الإِفساد والأذى .
{ واشدد على قُلُوبِهِمْ } بأن تزيدها قسوة على قسوتها ، وعناداً على عنادها مع استمرارها على ذلك ، حتى يأتيهم العذاب الأليم الذي لا ينفع عند إتيانه إيمان ، ولا تقبل معه توبة ، لأنهما حدثا في غير وقتهما .
قال الجمل : " وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى - عليه السلام - .
وقال الإِمام ابن كثير : " وهذه الدعوة كانت من موسى - عليه السلام - غضبا الله - تعالى - ولدينه على فرعون وملئه ، الذين تبين له أنه لا خير فيهم ، كما دعا نوح - عليه السلام - على قومه فقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً . . }
ولهذا استجاب الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - هذه الدعوة فيهم . . "
فقال : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } .